قراءة أولى في رائية أبي دواد الإيادي الطردية

إعداد الدكتور/صبري فوزي أبوحسين

هذه قصيدة ندر من قرأها قراءة تحليلية على الرغم من قيمتها الأدبية واللغوية؛ فهي تمثل الشعر العربي الأقدم، وهي أنموذج في وصف رحلة الصيد، وهي زاخرة بالغريب اللفظي والتعبيري، وقد استشهد بأبيات منها النحاة واللغويون والمفسرون. وقد طلب مني طالب أن أكتب فيها تحليلا وأن أعلق عليها فنيًّا، حيث لا يوجد تحليل لها في الشبكة الدولية للمعلومات! فكانت هذه المقاربة التمهيدية الأولى، والتي تكونت من المحاور الآتية:

أولاً: التعريف بالشاعر:

هو أبو دواد الإيادي من شعراء العصر الجاهلي، اسمه عند ابن السكيت: جارية ابن الحجاج بن حذاق الإيادي، وكان الحجاج يلقب حمران بن بحر بن عصام بن منبه بن حذاقة بن زهير بن إياد بن نزار بن معد، وقيل: حنظلة بن الشرقي، وقال ابن حبيب: هو جارية بن الحجاج أحد بني برد بن دعمي بن إياد بن نزار شاعر قديم من شعراء الجاهلية، وكان وصافًا للخيل، أحد نعات الخيل المجيدين، وأكثر أشعاره في وصفها، وإنما أحسن نعت الخيل لأنه كان على خيل النعمان بن منذر. وله في غير وصف الخيل تصرف بين مدح وفخر وغير ذلك، إلا أن شعره في وصف الفرس أكثر.  ويذكر أن أبا دواد الإيادي مدح الحارث بن همام بن مرة بن ذهل بن شيبان فأعطاه عطايا كثيرة، ثم مات ابن لأبي دواد وهو في جواره فوداه فمدحه أبو دواد فحلف له الحارث أنه لا يموت له ولد إلا وداه ولا يذهب له مال إلا أخلفه، فضربت العرب المثل بجار أبي دواد. وفيه يقول قيس بن زهير:

                 أطوّف ما أُطوّفُ ثم آوِي         إلى جار كجار أبي دُوادِ

وفي رواية أبي عبيدة قال: جاور أبو دواد الإيادي كعب بن مامة الإيادي فكان إذا هلك له بعير أو شاة أخلفها وفيه، يقول طرفة بن العبد يمدح عمرو بن هند:

جارٌ كجار الحُذاقيّ الذي انتصفا

وكان أبو داود قد جاور كعب بن أمامة الإيادي فكان إذا هلك له بعير أو شاة أخلفها، فضرب المثل به فقالوا : كجار أبي داود وقيل جار أبي داود هو الحارث بن همام بن مرة بن ذهل بن شيبان. قال الأصمعي: كانت العرب لا تروي أشعار أبي داود؛ لأن ألفاظه ليست بنجدية، وله شعر في الأصمعيات(<!--)، وقد جمع ديوانه الدكتور أنوار محمود الصالحي، والدكتور أحمد هاشم السامرائي(<!--).

وهو شاعر قديم من أوائل شعراء الجاهلية، قال ابن رشيق عنه:" كان فحلاً قديمًا، وكان امرؤ القيس يتوكأ عليه، ويروي شعره". والقصيدة التي معنا يصف فيها الحيرة، التي وصفها الجغرافيون بأنها من أطيب البلاد، وأرقها هواء وأخفها ماءً وأعذاها تربةً، وأصفاها جوًّا، قد تعالت عن عمق الأرياف، واتضعن عن حزونة الغائط، واتصلت بالمزارع والجنان والمتاجر العظام؛ لأنها كانت من ظهر البرية على مرفإ سفن البحر، من الصين والهند وغيرهما(<!--).

ثانيًا: النص مضبوطًا بالشكل وموثقًا:

<!-- و دارٍ يقولُ لَهَا الرَّائِدُو          نَ: ويلُ أمِّ دارِ الحُذاقيِّ دَارَا

<!--فـلمَـّا وَضَـعْنَا بِهَا بَيْتَنَا         نَـتَـجْنَا حُوَارًا وصِدْنَا حِمَارَا

<!--وباتَ الظَّلِيمُ مكانَ المِجَـ        ـــنِّ تَسْمَعُ بالليلِ منْهُ عِرَارَا

<!--وراحَ علينَا رِعاءٌ لنَا          فــقـالُوا: رَأَيْنَا بهَجْلٍ صُوَارَا

<!--فبِتْنَا عُراةً لدَى مُهْرِنا         نُنـَزِّعُ مِنْ شَفَتَيِهِ الصُّفَارَا

<!--و بِتْنَا نُغَــرِّثُهُ باللِّجَامِ          نُرِيدُ بهِ قَنَصًا أو غِوَارَا

<!--فلمَّا أضَاءَتْ لنَا سُدْفَةٌ         ولاحَ مِنَ الصُّبْحِ خَيطٌ أَنَارَا

<!--غَدَوْنَا بهِ كسِوَارِ الهَلُو           كِ مُضْطَمِرًا حالِبَاهُ اضطِمارَا

<!--مَرُوحًا يُجَاذِبُنَا في القِيَادِ        تخالُ مِنَ القَوْدِ فيهِ اقوِرَارَا

<!--ضَرُوحَ الحَمَاتَيْنِ سامي التَّلِيلِ     وَثُوبًا إذَا مَا انتَحَاهُ الخَبارَا

<!--فلمَّا عَلا مَتْنَتَيِهِ الغُلامُ        وسَكَّنَ مِنْ آلِهِ أنْ يُطَارَا

<!--وَسُرِّحَ كالأجدَلِ الفَارِسـ            ـيِّ في إثْرِ سِرْبٍ أجدّ النِّفَارَا

<!--فصادَ لنَا أكحَلَ المُقْلَتَيْـ         ــــنِ فَحْلاً وأُخْرَى مَهَاةً نَوَارَا

<!--وعادَى ثلاثًا فَخَرَّ السِّنَا          نُ إمَّا نُصُولاً وإمَّا انكِسَارَا

<!--أكُلَّ امرئٍ تَحْسَبِينَ امْرَأً          ونارٍ تَوَقَّدُ بالليلِ نَارَا

توثيق النص:

هذه القصيدة الرائية رواها الإمام الأصمعي، في مختاراته المسماة (الأصمعيات) (<!--).

ثالثًا: البناء الفكري للرائية:

هذه القصيدة طردية، أي أنها في غرض عام هو وصف رحلة الصيد بالفرس، وقد جاءت مكونة من الأفكار الجزئية الآتية:

وصف دار الشاعر في الأبيات الثلاثة الأولى:

<!--و دارٍ يقولُ لَهَا الرَّائِدُو          نَ: ويلُ أمِّ دارِ الحُذاقيِّ دَارَا

<!--فـــلمــَـّا وَضَـعْنَا بِهَا بَيْتَنَا         نَـتَــــجْنَا حُوَارًا وصِدْنَا حِمَارَا

<!--وباتَ الظَّلِيمُ مكانَ المِجَـ        ـــنِّ تَسْمَعُ بالليلِ منْهُ عِرَارَا

دار يتعجب منها حيث توجد بها الحيوانات مستأنسة ووحشية، وفيها أمن وأمان.

جاء في لسان العرب:  والحُذاقيُّ: الفصيحُ اللسانِ البيِّنُ اللَّهجة؛ قَالَ طرَفةُ:
                    إِنِّي كفانيَ، مِنْ أمرٍ هَمَمْتُ بِهِ      جارٌ كجارِ الحُذاقيِّ الَّذِي اتَّصفا
يَعْنِي أَبَا دُواد الإِياديّ الشَّاعِرَ، وَكَانَ أَبُو دُوادٍ جاوَرَ كعْبَ بْنَ مامةَ، وَقَوْلُهُ اتَّصَفَا أَيْ صَارَ مُتواصِفاً؛ وَقَالَ أَبُو دُوَادَ:
                         ودارٍ يقولُ لَهَا الرَّائدُو         نَ: وَيْلُ أمِّ دارِ الحُذاقيّ دَارَا

يَعْنِي بالحُذاقي نفْسَه، وحُذاقٌ: رهطُ أَبِي دُوَادَ؛ وَقَالَ أَيضًا:
                         ورِجال مِنَ الأَقارِبِ كَانُوا            مِن حُذاقٍ، همُ الرؤُوسُ الخِيارُ(<!--)

2- وصف الاستعداد للصيد:

<!--وراحَ علينَا رِعاءٌ لنَا          فــقـالُوا: رَأَيْنَا بهَجْلٍ صُوَارَا

<!--فبِتْنَا عُراةً لدَى مُهْرِنا         نُنـَزِّعُ مِنْ شَفَتَيِهِ الصُّفَارَا

<!--و بِتْنَا نُغَــرِّثُهُ باللِّجَامِ          نُرِيدُ بهِ قَنَصًا أو غِوَارَا

يبين الشاعر من البيت الرابع حتى البيت السادس  أن الرعاة أخبروهم بوجود جماعة البقر الوحشي في الهجل، وهو المكان المطمئن من الأرض بين الجبال، وأنهم أخذوا بأسباب الصيد واستعدوا حيث جلسوا بجوار الخيل يهتمون بها وينظفونها.

3-  وصف الخيل:

<!--فلمَّا أضَاءَتْ لنَا سُدْفَةٌ         ولاحَ مِنَ الصُّبْحِ خَيطٌ أَنَارَا

<!--غَدَوْنَا بهِ كسِوَارِ الهَلُو           كِ مُضْطَمِرًا حالِبَاهُ اضطِمارَا

<!--مَرُوحًا يُجَاذِبُنَا في القِيَادِ        تخالُ مِنَ القَوْدِ فيهِ اقوِرَارَا

<!--ضَرُوحَ الحَمَاتَيْنِ سامي التَّلِيلِ     وَثُوبًا إذَا مَا انتَحَاهُ الخَبارَا

في هذه الأبيات وصف الشاعر زمان رحلة الصيد، وهو وقت تبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر. ثم وصف الفرس في دقة جسده(مُضْطَمِرًا )، وسرعته، ونشاطه(مَرُوحًا) وسرعته (ضَرُوحَ الحَمَاتَيْنِ سامي التَّلِيل).

4-نتيجة الصيد:

<!--فلمَّا عَلا مَتْنَتَيِهِ الغُلامُ        وسَكَّنَ مِنْ آلِهِ أنْ يُطَارَا

<!--  وَسُرِّحَ كالأجدَلِ الفَارِسـ            ـيِّ في إثْرِ سِرْبٍ أجدّ النِّفَارَا

<!--فصادَ لنَا أكحَلَ المُقْلَتَيْـ         ــــنِ فَحْلاً وأُخْرَى مَهَاةً نَوَارَا

<!--وعادَى ثلاثًا فَخَرَّ السِّنَا          نُ إمَّا نُصُولاً وإمَّا انكِسَارَا

يقول أبودؤاد الإيادي: عندما ركب الغلام ظهر الفرس وتحرك سريعا كالصقر، مطاردًا سرب الحيوانات، استطاع أن يصطاد ثورًا) (أكحل المقلتين) وبقرة وحشية (مهاة نوارا)، فوالى جريًا، ورمى الرمح...

5- مغزى الرائية:

يتمثل مغزى الرائية ومقصدها العام في البيت الأخير، بيت الختام:   

أكُلَّ امرئٍ تَحْسَبِينَ امْرَأً          ونارٍ تَوَقَّدُ بالليلِ نَارَا

فليس كل مخلوق مستحقًّا أن يوصف بالمروءة والرجولة، وليس كل نار توقد دالة على الكرم والكرماء!

رابعًا: معالم الفن في الرائية:

باد في هذه القصيدة أنها من البحر المتقارب التام، وجاءت قافيتها مطلقة بالفتح مكونة من الراء رويًّا، والألف قبلها ردفًا، والألف بعدها وصلاً، وهذا الإيقاع بلا ريب يناسب حالة الانطلاق والامتداد التي تشتمل عليها رحلة الصيد حيث الانطلاق من الفرس والفارس وراء هذا السرب المطارد المصطاد.

وبيِّن أن القصيدة مطبوعة، تكاد تكون مرتجلة، جاء المطلع غير مصرع، و مبدوءًا بواو رب: و(ودار يقول لها...) كما جاءت ستة أبيات منها مدورة.  

ومن الأساليب الدالة في الرائية:

- أسلوب الدعاء، في قول أبي دواد (ويل أم دار الحذافي دارا)

فهذا التعبير دعاء عليها بالهلاك والشر تقبيحًا لها، وبيانًا لما فيها من خطورة.

-أسلوب الاستفهام في قول الشاعر:
                 أكُلَّ امرئٍ تَحْسَبِينَ امْرَأً          ونارٍ تَوَقَّدُ بالليلِ نَارَا

فهذا استفهام توبيخي لمن يخاطبها ووعظ لها بألا تنخدع بالناس والأشياء، وألا تحكم حكمًا ظاهريًّا سطحيًّا... وفي البيت أيضًا إيجاز بالحذف أو بالنقصان، ومجاز في الإعراب، كما أن فيه أنه استغنى عن تثنية كل؛ لذكرك إياه في أول الكلام، ولقلة التباسه على المخاطب‏.‏

-أسلوب الشرط:

جاء هذا الأسلوب بـ(لما) الحينية الزمانية أربع مرت في القصيدة، ووظيفته الربط بين أبيات القصيدة وأجزائها، جاء في المرة الأولى في البيت الثاني:

فـلمَـّا وَضَـعْنَا بِهَا بَيْتَنَا         نَـتَـجْنَا حُوَارًا وصِدْنَا حِمَارَا

لبيان مدى تحول هذه الدار من دار وحشة وقبح(ويل أم دار..) إلى دار حياة وإحياء(نتجنا حوارا وصدنا حمارا).

وفي البيت السابع قال شاعرنا:

فلمَّا أضَاءَتْ لنَا سُدْفَةٌ         ولاحَ مِنَ الصُّبْحِ خَيطٌ أَنَارَا

            غَدَوْنَا بهِ كسِوَارِ الهَلُو           كِ مُضْطَمِرًا حالِبَاهُ اضطِمارَا

لتحديد زمان انطلاق رحلة الصيد، وذلك حين يتبين الخيط الأسود من الخيط الأبيض من الفجر.

وفي البيت الحادي عشر ينتقل الشاعر إلى تصوير حادث الصيد قائلا:

                             فلمَّا عَلا مَتْنَتَيِهِ الغُلامُ        وسَكَّنَ مِنْ آلِهِ أنْ يُطَارَا

ليبين طريقة الصيد، ووسيلة الصيد، ونتيجة الصيد في بقية الأبيات...

-أسلوب تشبيه:

استعان الشاعر بأسلوب التشبيه لبيان حالة الفرس في حركته وجسده، في قوله:

غَدَوْنَا بهِ كسِوَارِ الهَلُو           كِ مُضْطَمِرًا حالِبَاهُ اضطِمارَا

ثم بين سرعته بصورة الصقر، بقوله:

وَسُرِّحَ كالأجدَلِ الفَارِسـ            ـيِّ في إثْرِ سِرْبٍ أجدّ النِّفَارَا

<!--أسلوب الكناية:

 

من الكنايات قول أبي دواد:

وباتَ الظَّلِيمُ مكانَ المِجَـ        ـــنِّ تَسْمَعُ بالليلِ منْهُ عِرَارَا

فأظن أن الشاعر يقصد هنا الدلالة على الأمن والأمان الذي يحتوي عليه هذا المكان، وأانه خال من أدوات الحرب والقتال(المجن)، وزاخر بالحيوانات الأليفة(الظليم)!

 (نُنـَزِّعُ مِنْ شَفَتَيِهِ الصُّفَارَا) الشفتان طبقا الفم للإنسان، واستعارها الشاعر للفرس، والصفار نبت له شوك يتعلق بحافر الفرس، والشطر كله كناية عن صفة هي العناية بالفرس!

 وقوله( أكحل المقلتين) كناية عن موصوف وهو: الثور الوحشي.

وقوله: (مهاة نوار) كناية عن موصوف وهو: البقرة الشاردة.

<!--[if !supportFootnotes]-->

<!--[endif]-->

(<!--) راجع ترجمته في الشعر والشعراء1/144، والأغاني16/294، والأصمعيات ص203، وجمهرة أنساب العرب ص328، وديوان الشاعر ص3-29.  .

(<!--) طبع دار العصام بدمشق سنة1431هـ= سنة 2010م..

(<!--) معجم ما استعجم للبكري 2/479.

(<!--) الأصمعيات ص209-211، وديوانه المجموع ص108-112.

(<!--) ديوانه ص99، وحذاق أصلها حذاقة، وهي قبيلة الشاعر، وقد حذفت الهاء هنا .

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 73 مشاهدة

الأستاذ الدكتور صبري فوزي عبدالله أبوحسين

sabryfatma
موقع لنشر بحوثي ومقالاتي وخواطري، وتوجيه الباحثين في بحوثهم في حدود الطاقة والمتاح. والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

290,419