النسوية الهادفة في أقصوصة (هدية) للقاصة وداد معروف
مقاربة للدكتور/صبري أبوحسين

_____________________________________

إن النسوية (Feminism) نزعة فلسفية أو سياسية غربية ظهرت في مطلع القرن العشرين، تعتمد على مسيرة نضالية هادفة إلى رفع الجور والغبن عن المرأة المسلوبة الحقوق، والمطالبة بالمساواة والحرية، وإدماجها في شتّى ميادين الحياة الاجتماعية والسياسية والخدماتية. ومن صورها ما يسمى (الأدب النسوي(، وقد يسمى (الأدب النسائي، أدب الأنثى، أدب المرأة، وبعضهم يفرق بين هذه الاصطلاحات!)، وهو يشير إلى الأدب الذي يكون النص الإبداعي فيه مرتبطًا بطرح قضية المرأة و الدفاع عن حقوقها دون أن يكون الكاتب امرأة بالضرورة. إنه "الأدب المرتبط بحركة نصرة المرأة و حرية المرأة و بصراع المرأة الطويل التاريخي للمساواة بالرجل، و هو تلك الكتابة التي فيها تمايز بينها و بين كتابة الرجل، كتابة مغايرة تنجزها المرأة العربية استيحاءً لذاتها و شروطها ووضعها المقهور...

وهذا النص (هدية) للمبدعة المتأنقة وداد معروف يعد أنموذجًا عاليًا في التمثيل لهذه النسوية بهذا المفهوم؛ فالتأنيث البيولوجي والبشري حاضر بقوة وهو بنية أساسية في شكل الأقصوصة ومضمونها؛ فهو نص نسوي في مبدعه: كاتبتنا المعروفة، نسوي في عنوانه المختوم بتاء التأنيث(هدية)، نسوي في شخوصه، نسوي في مكانه، نسوي في لغته! نسوي في قضيته المطروحة (قهر المرأة العقيم من قبل امرأة مثلها!) وهنا تكمن المفارقة والإثارة والقمة في الصدق والحيوية من قبل القاصة، فنحن أمام نص يمثل النسوية العاقلة الهادفة وليست متعصبة ولا متشنجة، ولا متاجرة بقضايا المرأة! وذلك راجع إلى مبدعتنا المثقفة الأصيلة النبيلة الواعية، حفظها الله وبارك سعيها وفنها..

 ومقاربة النسج السردي في النص والسياحة فيه تعلن عن تلك النزعة، وتدلنا عليها!

إن هذا النص أقصوصة، مكثفة في شكلها اللغوي الطباعي، وكيفها الفني: تقرأ في زمن قليل، وتفهم سريعًا، وتصل إلى قطاع كبير، لا سيما النسوة! وهذا مما يحسب لمبدعته. إنه أقصوصة تنتمي إلى مذهب الواقعية النقدية، تدور في بيئة نسائية صرفة، مكان الأحداث كله نساء، والأحداث نسائية، والرجل فيها منعدم تمامًا، أشير إليه إشارة وحيدة!، وتكاد تكون أحداث الأقصوصة خاصة بالمجتمع النسائي المصري!

فالعنوان (هدية) اسم مفرد مؤنث نكرة! وهو في عرفنا يدل على شيء قيم يقدم إلى شخص في مناسبة أو بلا مناسبة للإعلان عن حبه وتقديره، فما الهدية في الأقصوصة؟ ومن يهديها؟ وإلى من تهدى؟ أسئلة يثيرها هذا العنوان.

وبقراءة الأقصوصة يتضح أن هدية البطلة كوفرتة للمولودة! أما هدية الآخرين للبطلة فهو استقبال بارد جليدي، وقسوة في خطابها والموقف منها! ويجوز لنا أن ندعي أن النص (هدية) من الكاتبة وداد معروف إلى كل امرأة مقهورة من قبل حماتها وأهل زوجها بسبب عدم الإنجاب الذي لا دخل لها فيه!

وقد سُرِدت الأقصوصة بضمير المتكلم، جاءت البطلة فيها ساردة حاكية. والحدث فيها عن بطلة تحمل هدية إلى أهل زوجها، الباردين، وتعاني من حماتها القاسية التي تعتدي عليها بسبب لا دخل لها فيها وهو عدم إنجاب الأولاد! كما تعاني من النظرة إليها أنها قد تكون حاسدة للمولودة حاقدة على أمها! ويمكننا إيجاز البناء الحدثي للأقصوصة في ثلاثة مشاهد:

<!--مشهد الرحلة إلى المكان الجليدي البارد.

<!--مشهد لقاء البطلة بالأم الثقيلة القاسية.

<!--لقاء البطلة بالسلفة، وهيمنة الحماة الثقيلة القاسية.

  والشخوص في الأقصوصة تتمثل في شخصيتين رئيسيتين:

<!--(البطلة الساردة)، وقد جاءت بلا اسم، ووصفن بأنها مهذبة لطيفة، حريصة على صلة الرحم والواجبات الاجتماعية منذ زمن طويل، وتعاني من عدم الإنجاب!

<!--(الحماة)، وهي متثاقلة شاكية من أوجاعها التي لا تنتهي، غير المتجاوبة مع البطلة، وتكنى أم إيناس، وقد كانت قاسية لئيمة مع البطلة بخصوص عدم إنجابها، وبخصوص الخوف من أثر عين البطلة على المولودة!

<!--وتوجد شخصيات ثانوية هامشية، تمثلت في إيناس سلفة البطلة، ومولودتها سبب رحلة البطلة إلى بيت حماتها، وثلاث أخوات جالسن البطلة جلسات صامتة جامدة، ثم الابن/الزوج، ابن الحماة وزوج البطلة الذي أشير إليه على لسان البطلة بقولها:" كثيرًا ما تصوب كلماتها المسمومة لي حينما تخلو الحجرة إلا مني و منها، في حضرة ابنها تصقل كلماتها و تنعمها كما الزبد"...

والمكان في الأقصوصة يبدأ بطريق ثم بيت مكون من طابقين أو أكثر، ثم غرفة الاستقبال، ثم حجرة مغلقة، حجرة أخرى، ثم السلم! وهكذا ننتقل من مكان إلى مكان، وفي كل مكان نجد معاناة نفسية خاصة للبطلة! لا سيما في الحجرة التي وصفت بأنها مغلقة! وما أدراك ما يوحي به الوصف بالإغلاق من كبت وسلب واعتداء وتعذيب!

أما الزمان في الأقصوصة فلا يتجاوز الساعة أو الساعتين، لكنه زمان ثقيل لبرود أهله وثقلهم وقسوتهم، وهناك ألفاظ تشير إلى تكرار الزمن مثل كل مرة، لم يدخل بيتهم من قبل، لا تنتهي، ككل مرة، انتظري قليلاً، تحدثنا طويلا!

ولغة الأقصوصة فصيحة بيِّنة، كل لفظة جاءت في موضعها ومقامها، حاءت بعض العبارات كلاسيكية بيانية مثل(امتد البرود جليدًا)، بلطيف العبارات، علها تذيب بعض هذا الجليد، (صمتُّ ولم أُحِر جوابا لبرهة)، (وضعت يدي علي صدري أهدئ من نبضاته إن استطعت، كأني أريد أن أقبض عليه بيدي ليتروى في نبضه).  وبعض المفردات مولدة شعبية مثل: كوفرتة، سلفتي، المغات.

وأسلوب االسرد مهيمن، جاء بنية أساسية في النص بدءًا وحشوًا وختامًا. أما أسلوب الحوار فجاء ثنائيًّا بين البطلة وحماتها، تقول الساردة:"طلبت منها أن أصعد لسلفتي لأهنئها بقدوم مولودتها تململت في مقعدها وقالت لي: انتظري قليلاً، أم إيناس تحمم المولودة و الحجرة مغلقة حتي لا ينفذ الهواء فيصيب البنت الصغيرة، التفتت إلى الهدية التي بجانبي و قالت : ما الذي جئتِ به لتقدميه لإيناس؟ حملتها و قربتها من يدها و قلت: هذه كوفرتة للمولودة؛ ما اسمها؟ جاء ردها سهم استقر بقلبي "ألا تغاري؟ أنجبت بطنين و أنت كما أنت لم يمسك رحمك شيء!" قالتها وهي تصوب عينها في عيني بتحد عجيب"...

  ويأتي المونولوج علاجًا نفسيًّا للبطلة، تقول بعد هذا الحوار الحادة مع الحماة، تقول:" ثم قلت و أنا أكظم مشاعري: و هل نَزَعَت مني حظي ؟ هل إيناس هي التي وهبت لنفسها الذرية؟ لِمَ أغار منها؟ لن أغار أبدًا منها و لا من غيرها لإيماني أنه يهب لمن يشاء و أيضًا يجعل من يشاء عقيمًا، هي كأختي أفرح لفرحها و أشاركها إياه"...

إن هذا العمل يحمل طابع السيرة الشخصية الواقعية، و يعالج موضوع العلاقات الاجتماعية والزواج والأطفال والافتقار اليهم. وهو ملتزم، يحمل رسالة تتمثّل في الدفاع عن حقوق المرأة ضد من يقهرها، ويقدم رسالة تطمينية إلى نموذج المرأة العقيم، بهذه العبارة القرآنية الإنسانية النبيلة على لسان البطلة:" هل إيناس هي التي وهبت لنفسها الذرية؟ لِمَ أغار منها؟ لن أغار أبدًا منها و لا من غيرها لإيماني أنه يهب لمن يشاء و أيضًا يجعل من يشاء عقيمًا، هي كأختي أفرح لفرحها و أشاركها إياه". كما أنه ينتقد العادة الاجتماعية الخاصة بحماية المولودة من العين، فقد انصرفت البطلة من عند أهل زوجها دون أن تفكر الأم وابنتها أن يُرياياها المولودة! ومن ثم حق لنا أن نصف هذا العمل بأنه أدب نسوي، واقعي نقدي، وإسلامي هادف. دامت لنا كاتبة العمل ومبدعته (ودادًا) بكل ما تقدمه، ورأينا فيما تقدمه (المعروف).

النص المقروء:

(هدية) للقاصة وداد معروف

حملتها و أنا في طريقي إليهم. أهلت نفسي لاستقبالهم البارد الذي يلسعني في كل مرة أذهب فيها إليهم، حتى يتراءى لي الرجوع نجاة بنفسي من وقع الوجوم الذي يعلو وجه كل من يفتح لي الباب منهم، كأني زائر غريب لم يدخل بيتهم من قبل. في كل مرة أرى عليهم هذا التعبير و أراني تلك الغريبة المتطفلة على تجمعهم الأسري الحميم. أدخل و قد امتد البرود جليدًا حتى غرفة الاستقبال. أبدأ انا بلطيف العبارات علّها تذيب بعض هذا الجليد.

 تستقبلني أخت له و تجلس معي أخت ثانية ثم تتركني لثالثة وفي الأخير تأتي أمه متثاقلة شاكية من أوجاعها التي لا تنتهي، نفس الشكوى و نفس الأماكن من عشر سنوات فأرد بنفس العبارات التي استهلكتها كثيرًا و شعرت أنها هي أيضا ملت نطقي لها، ها هي تدخل علي ، مدت طرف يدها قمت لها مرحبة مقبلة عليها، اقتربت لأقبلها وككل مرة لا أشعر بتجاوبها معي، قبلت وجنتيها، جلست بجانبي سألتني عن أحوالي ، تبادلت معها بعض العبارات، شربت كوب المغات طلبت منها أن أصعد لسلفتي لأهنئها بقدوم مولودتها تململت في مقعدها وقالت لي : انتظري قليلاً ، أم إيناس تحمم المولودة و الحجرة مغلقة حتي لا ينفذ الهواء فيصيب البنت الصغيرة، التفتت إلى الهدية التي بجانبي و قالت : ما الذي جئتِ به لتقدميه لإيناس؟ حملتها و قربتها من يدها و قلت: هذه كوفرتة للمولودة؛ ما اسمها؟ جاء ردها سهم استقر بقلبي "ألا تغارين؟ أنجبت بطنين و أنت كما أنت لم يمسك رحمك شيء!" قالتها وهي تصوب عينها في عيني بتحد عجيب، أذهلتني قسوتها عن نفسي و من حولي، جئتها راضية عن قدري لِمَ تصر علي إضجاري منه ؟! كثيرًا ما تصوب كلماتها المسمومة لي حينما تخلو الحجرة إلا مني و منها، في حضرة ابنها تصقل كلماتها و تنعمها كما الزبد، صمتُّ ولم أُحِر جوابا لبرهة ....

ثم قلت و أنا أكظم مشاعري: و هل نَزَعَت مني حظي ؟ هل إيناس هي التي وهبت لنفسها الذرية؟ لِمَ أغار منها؟ لن أغار أبدًا منها و لا من غيرها لإيماني أنه يهب لمن يشاء و أيضًا يجعل من يشاء عقيمًا، هي كأختي أفرح لفرحها و أشاركها إياه. انقلبت سحنتها و أدارت وجهها إلى ناحية الباب، فقمت و توجهت للسلم؛ لأنهي مهمتي التي صعبتها عليّ تلك المرأة بعدما رأتني حاقدة جئت أتقنع بالرضا وقلبي مملوء حسدًا و غيرة.

  بدأت الصعود ووجهي يمتقع لونه ودقات قلبي تضطرب في صدري وقفت علي بسطة السلم لأتوارى و أمسح دموعي التي طفرت مني رغمًا عني؛ فليس من عادتي أن أُريَ أحدا ضعفي و انكساري، وضعت يدي علي صدري أهدئ من نبضاته إن استطعت، كأني أريد أن أقبض عليه بيدي ليتروى في نبضه، خفت أن يطول مكثي علي السلم فيصعد أحدٌ منهم فيراني بتلك الحالة، واصلت الصعود، دخلت ... احتفت بي أم إيناس أجلستني في حجرة أخرى أتت بإيناس لي مستندة عليها، تحدثنا طويلاً، تركت الهدية، وانصرفت دون أن يفكرا أن يرياني المولودة .

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 107 مشاهدة

الأستاذ الدكتور صبري فوزي عبدالله أبوحسين

sabryfatma
موقع لنشر بحوثي ومقالاتي وخواطري، وتوجيه الباحثين في بحوثهم في حدود الطاقة والمتاح. والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

296,489