تابع محاضرة الحداثة في النقد الأدبي: تعريفًا وتصنيفًا

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[لطلاب الفرقة الثانية بكلية الدراسات العليا، في تخصص الأدب والنقد، في مقرر (النقد الأدبي الحديث)] 

إعداد الدكتور/صبري فوزي أبوحسين

أستاذ ورئيس قسم الأدب والنقد في كلية الدراسات الإسلامية والعربية بالسادات

وهي منقولة من عدة مواقع إلكترونية

انتقال الحداثة الى العالم الاسلامي:

وفدت الحداثة الى العالم الاسلامي بوساطة" البعثات التي عادت من أوربا أو الذين انطلقوا من أنفسهم يطلبون العلم هناك أو يهاجرون إلى طلب الرزق في أوربا وأمريكا، أو الرجال الزاحفين علينا من بلاد الغرب زحفًا عسكريًّا أو زحفًا دينيًّا أو عن طريق مؤسسات الفساد وأنديته كالماسونية والروتاري وغيرهما. قوى هائلة عملت على نقل الفكر الحداثي للعالم الإسلامي، قوىً خارجة عنّا وقوى منّا "، بدءًا من سلامة موسى الذي خطا في التبعية خطوة بعيدة تدعو إلى قطع الصلة مع ماضينا وأرضنا وديننا والارتماء كلية في تبعية وعبودية للغرب؛ إذ يقول في كتابه (اليوم والغد): "كلما ازددت خبرة وتجربة وثقافة توضحت أمامي أغراضي في الأدب كما أزاوله. فهي تتلخّص في أنه يجب علينا أن نخرج من آسيا وأن نلتحق بأوروبا. فإني كلما ازددت معرفة بأوروبا زاد حبي لها وتعلقي بها وزاد شعوري بأنها مني وأنا منها"، ويهاجم سلامه موسى الثقافة العربية والاسلامية ويهاجم رجالها وادباءها وشعراءها وتاريخها هجوماً وقحاً.

وجاء طه حسين من فرنسا كذلك، بعد ذلك بسنوات قليلة ينشر الدعوة إلى تحطيم تاريخنا وديننا وأدبنا والى الالتحاق بأوروبا وزخارف حضارتها. فنشر كتابه: (مستقبل الثقافة في مصر) نهج فيه نهج سلامة موسى ولكن بأسلوبه الخاص المتميز، مدعياً أن عقلية مصر عقلية يونانية، وأنه لابد من أن تعود مصر إلى أحضان فلسفة اليونان، وأن التعليم العالي الصحيح لا يستقيم في بلد من البلاد الراقية إلاّ إذا اعتمد على اللاتينية واليونانية على انهما من الوسائل التي لا يمكن إهمالها ولا الاستغناء عنها. ومن هنا انطلقت دعوات لتغيير اللغة في مصر وغيرها من البلاد العربية والاسلامية وبدأ هجوم شرس على الدين واللغة كأن رجالنا هنا ينقلون نقلاً عن هَوَس أوربا في تبعية ذليلة. إذ نسمع نزار قباني يسخر من المجامع اللغوية العربية، ويمجد طه حسين في انسلاخه من جلدة قومه... ، وامتد أثر الحداثة في واقعنا وعالمنا الإسلامي حين ظهر الشعر الحرّ يهدم أسسًا متينة من اسس اللغة والادب والشعر تمهيداً لهدم اسس اخرى.

وتمضي الحداثة تنتشر في مجتمعاتنا تحت ستار الأدب والقومية والعلم والتطور وغير ذلك، إذ حمل العائدون من أوربا الروح القومية التي فصلت البلاد وحطمت الخلافة ودعت علانية للتعاون مع المعتدين الظالمين ومضت في تنفيذ ذلك عملياً بتبعية نفسية وفكرية وخلقية وسياسية، استطاع اصحابها بمساعدة الاجانب والمغفلين من أمتنا والمنافقين منها أن يخدعوا الرأي العام ويسوقوه ليساهم في تنفيذ الجريمة وليستقبل الجيوش الغازية المحتلة في فرحة النصر البلهاء، ومضت الحداثة في بلادنا تشق طريقها وسط هذه المآسي والمجازر والاشلاء لا يطرف لها جفن ولا يحركها اسى ولا ندامة، تمضي الحداثة ويمضي رجالها يحتلون كل يوم موقعاً جديداً في ارض الاسلام هنا وهناك تحت ستار حينًا، وحينًا آخر في جلاء الميدان والدم المسفوك. وتمضي الحداثة تجرد المرأة من ثيابها وحجابها وخلقها في بلاد الإسلام وترميها في لهيب الفتنة حتى تحرق وتحترق ولتصبح المرأة عاملاً مساعداً في فتنة الحداثة ونشرها وتنفيذ جريمتها بين تصفيق المجرمين والمنافقين والمغفلين وتلتقي الشيوعية والرأسمالية، تلتقي ديكتاتورية البروليتاريا الروسية وديمقراطية الغرب في لقاء موثق على تنفيذ مآسينا وعلى صناعة رجال او اشباه رجال من قومنا يتولون هم تنفيذ الجريمة نيابة عن الغرب والشرق. وهكذا كانت الحداثة الادبية جزءاً من غزوة غربية كبرى دخلت العالم الإسلامي من أبواب الفكر والأدب والسياسة والإعلام.

سادسًا: تصنيف الحداثة:

يتضح من التأريخ السابق لتطورات الإبداع الأدبي والنقدي في منبعه الغربي ومصبه العربي أنه مر في العالم بأربع مراحل، هي:

<!--ما قبل الحداثة .

<!-- الحداثة .

<!--ما بعد الحداثة .

<!-- بعد ما بعد الحداثة.

اشتملت مرحلة (ما قبل الحداثة) على مذاهب عديدة منها: الكلاسيكية، والرومانسية،  والبرناسية، ومعاصرتها الواقعية، ثم الرمزية. وقد بدأت الكلاسيكية عند الغرب من القرن ١٥ إلى القرن ١٧م، وعند العرب من أواخر القرن ١٩ إلى أواخر القرن ٢٠م .أما الرومانسية فقد ظهرت عند الغرب من القرن ١٨ الى ١٩م . وعند العرب في أوائل القرن العشرين عند رواد مدرستي: الديوان والمهجر . أما الواقعية فظهرت عند الغرب من نهاية القرن ١٩م وبداية العشرين .. وعند العرب ظهرت منذ منتصف الأربعينيات حتى السبعينيات .. وليس هذا التحديد التاريخي صارمًا ولا فاصلاً، بل تحديد تقريبي مدرسي تعليمي!

مرحلة (الحداثة):

 ظهرت عند الغرب أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، ونقلت إلى العرب في أربعينيات القرن العشرين.

مرحلة (ما بعد الحداثة)

عرفها الدكتور محمد عبد المطلب بأنها حركة فلسفية ظهرت في أواخر القرن العشرين، و يعبر عنها في اللغات الأوربية لها بـ( Post modernism)، وتميزت بالتشكيك الواسع والنسبية والشك بالمنطق، وهى بمثابة رد فعل ضد الافتراضات والقيم الفلسفية التي وجدت في الفترة الحديثة في تاريخ الغرب. وبخاصة التاريخ الأوروبي، وتحديدًا الفترة الواقعة من وقت بداية الثورة العلمية في القرن السادس عشر، والقرن السابع عشر، وحتى منتصف القرن العشرين. فما بعد الحداثة عن مرحلة جديدة في تاريخ الحضارة الغربية تتميز بالشعور بالإحباط من الحداثة ومحاولة نقد هذه المرحلة والبحث عن خيارات جديدة وكان لهذه المرحلة أثر في العديد من المجالات؛ فإن حركات )الحداثة وما بعد الحداثة) تُفهَمُ على أنها مشاريعُ ثقافية تُستخدمُ في النظرية النقدية لتشير إلى نقطة انطلاق أعمال الأدب والدراما والعمارة والسينما والصحافة والتصميم، وكذلك في مجال التسويق والأعمال التجارية، وفي تفسير التاريخ والقانون والثقافة والدين في وقتٍ متأخرٍ من أواخر القرن العشرين وبداية القرن الواحد والعشرين.  ومرحلة (ما بعد الحداثة) لا ترفض عطاءات المرحلة الحداثية بل تأخذها وتعيد إنتاجها بصورة تتساقط معها مختلف التناقضات وتتكامل فيها مختلف جوانب الوجود الفكري والإنساني في لحمة واحدة. ما بعد الحداثة محاولة لإعادة ترتيب الإشكاليات المطروحة ومن ثم العمل على تنظيم تناقضاتها وإدماجه في حركة التطور الإنساني.

ومن مبادئ ما بعد الحداثة أن  الواقع هو كل شيء حقيقي بالنسبة للعقل الناظر، ويقوم الفرد ببناء واقعه الخاص به داخل ذهنه، ولا يستطيع الناس التفكير بشكل مستقل؛ وذلك لأنهم مصنّفون ومختلفون في ثقافاتهم، وأنه لا يمكن الحكم على أي شيء في ثقافة أخرى، أو في حياة شخص آخر، فالواقع مختلف من ثقافة لثقافة، ومن شخص لآخر، ويتطور الإنسان شيئًا فشيئًا، ولكن الغرور في السيطرة على الطبيعة يهدد المستقبل، و لا يمكن إثبات أي شيء، سواء أكان هذا الإثبات من خلال العلم، أو التاريخ، أو أي مجال آخر.

 وفي الآونة الأخيرة، تم الجدال حول فكرة موت "ما بعد الحداثة" بشكلٍ متزايدٍ على نطاقٍ واسعٍ: في عام 2007، أشار أندرو هوبوريك في مقدمته لإصدار خاصٍ من مجلة "أدب القرن العشرين" تحت عنوان "بعد ما بعد الحداثة"  أن "التصريحات عن وفاة ما بعد الحداثة قد أصبح شائعًا حرجًا." وقد وضعت مجموعةٌ صغيرةٌ من النقاد مجموعةً من النظريات التي تهدف إلى وصف الثقافة و/أو المجتمع في أعقاب ما بعد الحداثة المزعومة، وعلى الأخص راؤول إيشيلمان (الأدائية(، وجيليس ليبوفيتسكي (فرط الحداثة)، ونيكولا بورياد(مضاد الحديثوآلان كيربي (الحداثة الزائفة). لم تكسب أيًّا من هذه النظريات والتسميات الجديدة حتى الآن قبولاً واسع النطاق.  وقد شكلت الانتقادات المنهجية التي وجهت إلى مفهوم الحداثة العلمية التي تنامى في تربتها مفهوم (ما بعد الحداثة) ليأخذ صورته النقدية التي تغذيها روح فكرية نقدية نشطة ومتطورة. وهذه الانتقادات التي تنامت في حقل الحداثة شكلت أيضًا ينبوعًا للتنظير العلمي المتقدم والإبداعي في ميدان (ما بعد الحداثة). وتأسيسًا على ذلك يمكن القول بأن مفهوم (ما بعد الحداثة) لا يأخذ أهميته بوصفه امتدادًا زمنيًّا لحالات حضارية متعاقبة بل هو نسق من التصورات النقدية التي أبدعتها روح العصر المتجدد في مختلف ميادين الحياة الفكرية. ويقدر فريق من هؤلاء الباحثين أن هذه المرحلة قد بدأت تاريخيا منذ عام 1968م وهي المرحلة التي عرفت بثورة الطلاب في مختلف عواصم العالم، وعلى خلاف ذلك يرى الفريق الآخر من هؤلاء الباحثين أن مرحلة الحداثة قد بدأت مع سقوط جدار برلين تعبيرا عن سقوط المنظومة الاشتراكية.

ويرى يورجين هابرماس Jurgen Habermas في مقالة له بعنوان "الحداثة مشروع لم يكتمل" في عام 1981م، بأن مصطلح  (ما بعد الحداثة Post-modernité) تمثل رغبة بعض المفكرين في الابتعاد عن ماض متشبع بتناقضات كبيرة، وتعبر في الوقت نفسه عن سعي حثيث إلى وصف العصر الجديد بمفهوم لم تتحدد ملامحه بعد؛ وذلك لأن الإنسانية لم تستطع أن تجد الحلول المناسبة للإشكاليات التي يطرحها العصر. ووفقا لهذه الصيغة يرى هابرماس بأن (ما بعد الحداثة) هي صيغة جديدة لمفهوم قديم (الحداثة) وأن (ما بعد الحداثة) محاولة لإثراء مرحلة الحداثة ذاتها وإتمام مشروعها حتى النهاية.

وإن السمات الأساسية التي تنطلق منها حركة (ما بعد الحداثة) تتمثل في هدم الأنساق الفكرية الجامدة والإيديولوجيات الكبرى المغلقة وتقويض أسسها، والعمل على إزالة التناقض الحداثي بين الذات والموضوع، وبين الجانب العقلاني والجانب الروحي في الإنسان، وذلك من منطلق الافتراض بعدم وجود مثل هذه الثنائية الميتافيزيائية، و رفض الحتمية الطبيعية والتاريخية التي كانت سائدة في مرحلة الحداثة ولا سيما مفهوم التطور التعاقبي أو الخطي أو الزمني الذي يسجل حضوره في الأنساق الاجتماعية والحياة الاجتماعية، ورفض الشمولية في التفكير ولا سيما النظريات الكبرى مثل نظرية كارل ماركس، ونظرية هيغل، ووضعية كونت، ونظرية التحليل النفسي…إلخ.  ويركز على الجزئيات والرؤى المجهرية للكون والوجود، ورفض اليقين المعرفي المطلق ورفض المنطق التقليدي الذي يقوم على تطابق الدال والمدلول، أي تطابق الأشياء والكلمات، ويلح على إسقاط نظام السلطة الفكرية في المجتمع والجامعة، في الأدب والفن، والإطاحة بمشروعية القيم المفروضة من فوق في الأنظمة والمؤسسات الاجتماعية كافة.

بعد ما بعد الحداثة:

استمر الجدل المعرفي والواقعي بين الحداثة وما بعدها إلى بداية التسعينيات تقريبًا، وكان هذا الجدل التبادلي ممهدًا لمرحلة جديدة، هي مرحلة: (بعد ما بعد الحداثة)، وكان ظهورها في الوعي الإنساني نوعًا من مقاربة الحسم؛ لإنهاء التذبذب الذي سيطر على ثلاثة أزمنة: (ما قبل الحداثة – الحداثة – ما بعد الحداثة)، وهو ما يمكن إيجازه في عناصر محددة: (الحداثة) معها النظام والتجديد المنضبط، (ما بعد الحداثة) ومعها المحاكاة الساخرة، ثم: (بعد ما بعد الحداثة)، ومعها تعددت الإحالات، والتعارضات، والتداخلات النصية، وارتباط المجاز بالتداول الحياتي، واتساع الفضاءات النصية.

ظهرت مرحلة: (بعد ما بعد الحداثة) –إذن- في تسعينيات القرن الماضي مرحلة طارئة، مجاوزة ما سبقها من مراحل، واستمرت حتى لحظة الحاضر. ويدعو أصحابها إلى أن الزمن أصبح زمن السرعة التي لا تكاد لا تدرك، إذ أصبحت السرعة تفوق قدرة الإبداع والنقد على الملاحقة، (فالثانية) أصبحت الوحدة الزمنية التي يقاس بها الوجود، بل إن الزمن دخل فيما يسمى (الفيمتو ثانية)، وهو ما أعجز الإنسان عن ملاحقة التحولات والمواقف والتقنيات والآلات، وكل ما استوعبه أصبح من ذاكرة الماضي، وإن عليه أن ينظر ما تأتي به (الثانية) القادمة، فهو في حالة انتظار وترقب لا تتوقف.

وتداخلت في مرحلة: (بعد ما بعد الحداثة) الأعراف والتقاليد، وأخذت الفروق النوعية والجنسية في الذوبان، ووصل هذا التداخل ذروته في كسر الحاجز بين ثنائـية (الإنسان والحيوان)، ثم امتد ذوبان النوعية إلى ثنائية: (الإنسان والآلة)، مفيدة من منجزات العلم الحديث فيما وصل إليه من إنتاج (الإنسان الآلي) الذي امتلك قدرات تفوق قدرات الإنسان الحي الجسدية والعقلية، وهذه الثنائية ساعدت زمن (بعد ما بعد الحداثة) على الوصول إلى الثنائية الأخيرة –مؤقتًا– لتذويبها، وهي ثنائية: (الطبيعي والصناعي).  وفي مرحلة: (بعد ما بعد الحداثة) صار جهاز الكمبيوتر ركيزة من ركائز الإبداع، ومع ظاهرة التصنيع تأثر كثير من القضايا النظرية التي تتعلق بالخطاب النقدي؛ مثل: (نظرية الاتصال)، فهي –في جوهرها– تعتمد ثلاث ركائز: مصدر الإنتاج – الرسالة – المتلقي، صارفين النظر عن (الموضوع والكود) فهما داخلان في الركائز السابقة، والذي أراه أن نظرية الاتصال قد تم تعديلها جوهريًّا من نظرية ثلاثية الركائز، إلى نظرية رباعية الركائز: (مصدر إنتاج – رسالة – متلقٍّ – جهاز كمبيوتر) وهذا الأخير يمتلك قدرات تخزينية وإنتاجية هائلة، ويمتلك إمكانات فكرية وعملية تتيح له التدخل والمشاركة عند الاستدعاء، بل إنه قد يمارس هذا التدخل دون استدعاء، أي أنه أصبح شريكًا مركزيًّا في نظرية الاتصال، وهي مشاركة لها مخاطرها في تهميش مصدر الإنتاج، وقد يدفعه هذا التهميش إلى نوع من السلبية اعتمادًا على أن جهاز الكمبيوتر يؤدي المهمة التي كان يقوم بها المبدع في استكمال الناقص، واستحضار الغائب، وتعديل المعوج، أي أن الجهاز قد احتل مكان ومكانة المنتِج؛ إذ إنه يقدم المعلومة المطلوبة وغير المطلوبة، ويقدم الاحتمالات الممكنة وغير الممكنة.

إن هذا المنجز العلمي فاق كل تصورات الخيال، وهو ما يذكرنا بمنجزات سابقة كان لها تأثيرها الثقافي في المنتج الإبداعي وغير الإبداعي، وبخاصة في الخطاب السردي الذي ضم بعض الحوارات التي لا يحضر أطرافها في الخطاب، وإنما تحضر عن طريق (الهاتف)، ومعها ظهرت (الرسائل البرقية) و(البريد السريع) و(الفاكس)، وكان لكل ذلك تأثير في زمنها يوازي تأثير (الفضاء الإلكتروني) و(النت)، مع الفارق بين هذه وتلك.

وقد استحوذت هذه الأجهزة على كثير من حقوق اللغة المنطوقة والمكتوبة، وأصبح من المألوف أن يجمع الخطاب السردي بين شخوص متباينة زمانًا ومكانًا، وشخوص ربما لم تتقابل أبدًا، ولم يكن بينها علاقة ما، وبرغم ذلك تتحاور وتتبادل الرأي والفكر، بل تتبادل التأثير والتأثر دون مواجهة مباشرة.

ومن المهم أن نشير إلى أن ذوبان النوعية في مرحلة (بعد ما بعد الحداثة) وصل إلى ما يسمـى (الحداثة الرقمية)، وقد سبق الإشارة إلى هذا المصطلح، وتأتي أهمية الإشارة إليه من تأثيره البالغ في النصية الأدبية؛ لأنه عدل فيها على نحو غير مسبوق، وهنا لا بد أن نسترجع بعض مقولات مرحلة (ما بعد الحداثة) وبخاصة مقولة: (النص المفتوح والنص المغلق)، ويهمنا هنا أن نستعيد مقولة (النص المفتوح)؛ إذ كان المقصود منه: انفتاح النص على تعدد النواتج الدلالية، ثم خضوع هذه النواتج للاحتمال والشك والتأجيل، وهو ما يغاير مفهوم الانفـتاح مع (الحداثة الرقمية)؛ لأن الانفتاح فيه يعني (تعدد المؤلف)، و(تعدد مستويات النص)، فعلى (شبكة الاتصال العالمية) (الإنترنت)، يقدم المؤلف نصه للقراء، سواء أكان النص شعرًا أم نثرًا، وهنا يتتابع القراء على هذا النص بالتعليق تارة، والإضافة تارة أخرى، وكل إضافة تنتمي إلى صاحبها بوصفها بصمة تعبيرية وثقافية له، وقد تتوافق مع النص الأول، وقد تتنافر معه، أو تكون في حالة بين التوافق والتنافر.

معنى هذا أن الحداثة الرقمية ألغت على نحو ما (الإبداع الفردي)، واستحدثت بديله في: (الإبداع الجماعي)، وغياب الفردية، وسيطرة الجماعية يقود الأدبية –تلقائيًّا– إلى غياب البصمة التعبيرية، وإلى تعدد مستويات النص، سواء كان التعدد على المستوى الصياغي، أو كان على المستوى الفكري والثقافي، وفي هذا وذاك يمكن أن تغيب الجمالية البلاغية، وهو ما يهدد النصية بالتخريب لحساب الذين تدخلوا في إنتاج النص رغمًا عنه، ورغمًا عن مبدعه الأول. ويبدو أن (النصية الرقمية) قد أتاحت للمبدع سياقًا (للانتشار السريع)، ودخول هذا السياق –فيما سبق– كان يحتاج إلى سنوات طوال، وتراكم إبداعي مستمر، وهو ما يمكن أن يتيح لأنصاف الموهوبين، أو فاقدي الموهبة أن يدخلوا سياق الانتشار الذي أسميه (الانتشار الكاذب المثل يمكن أن يتيح هذا المنجز العلمي لفاقدي المعرفة النقدية وغير المؤهلين أن يمارسوا عملًا نقديًّا، هو أشبه (بالغش الصناعي)، وقد ساعد على كل هذه السلبيات أن معظم المتعاملين مع هذه التكنولوجيا هم من أجيال الشباب وطلبة المراحل التعليمية المختلفة الذين لم تستحكم ملكاتهم ومواهبهم الأدبية والنقدية.

وقد ترددت مجموعة من المصطلحات تربط بين الحداثة وما بعد الحداثة، حددها الباحث الأميركي (راؤول إيشلمان) وترجمتها الباحثة (أماني أبو رحمة): الحداثة العائدة، الحداثة الزائفة، الحداثة الآلية، الحداثة المغايرة، الحداثة الرقمية، الحداثة الفائقة، الحداثة الأدائية، ويبدو أن المصطلح الأخير هو أقربها لمرحلة (بعد ما بعد الحداثة).

ولا بد أن نعي أن هذا التحديد الزمني هنا وهناك، تحديد تقريبي؛ إذ إن المراحل تتداخل أحيانًا، كما أن كل مرحلة كانت تحمل إرهاصًا بالمرحلة القادمة.

الموقف من الحداثة وما بعدها في النقد الأدبي

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

  تعددت المواقف من الحداثة وما بعدها بين فريق يمثل الأصدقاء المادحين والدعاة الناقلين، وفريق يمثل الخصوم الناقدين والناقمين المتوجسين والمتربصين والمنفرين،  وفريق ثالث يمثل العقلاء الوسطيين، وبيانهم على النحو التالي:

 الفريق الأول القابل والناقل:

 هم الجماعة الناقلة للحداثة ومناهجها من الغرب والداعية إليها والمطبقة لها نقديًّا على أدبنا العربي. ومنهم: صلاح فضل، وجابر عصفور، وكمال أبو ديب، وسيزا قاسم ، وخالدة سعيد، ومن الجزائر عبد الملك مرتاض، ومن السعودية: عبدالله الغذامى، ومحمد سعيد السريحي ، ومن المغرب: محمد مفتاح، ومحمد بنيس، ومحمد عبدالعال، وعبدالفتاح كليطو، وسعيد بر كجراد، ومن تونس عبد السلام المسدى  وغيرهم. ومعظمهم متفرنج منبهر بالغرب، وبعضهم ساخط على العقل العربي والتراث العربي، واقع في العجمة والشعوبية والتيه! وأدل مثال نقدي على الإبهام في النقد ما أورده الدكتور وليد قصاب قائلاً: يقول أحدهم: "إنَّ إستطيقا الرواية الحداثية المعاصرة قد سعت إلى فضِّ المسافة الاختلافاتية بين الفكر وكينونته المضمرة في تشكُّل المعنى الجوهريِّ للجمالاتية..".

 

ويقول آخر: "تحتاج قصيدة النثر العربية إلى مزيد من التصعيد الكميِّ والوعي الإبستمولوجي والأنطولوجي لتختبر كلُّ تجلياتها ومقترحاتها الجمالية على محكِّ الذَّاكرة، ووفق رؤية منهجية، تكفل لبعثرتها الملتبسة حالة من الالتئام الفنيِّ والنسقيِّ، والمفهمة الموجبة للاقتراب منها بمزيد من الوعي والتذوُّق، من خلال ذلك الأثر الذي تُخلِّفه، ونراه في شتى التمظهرات الواعية واللاواعية، كبصمة وجودية في خطِّ الزمن.."

الفريق الثاني الناقد الناقم:

 وهو فريق معادٍ للحداثة و ما بعدها، مستهجن لها رافض إياها، منفر منها، مشوه لإفرازاتها، مضخم عيوبها، ويرون أن من استورده من التنابلة الهلكى في ديارنا الذين همهم استيراد ما يمكنهم استيراده، وأننا بذلك بتنا قوما مستهلكين لا منتجين في كل مناحي الحياة . وهم إما مصابون بعقدة نظرية المؤامرة، أو عندهم كسل عقلي وجمود فكري، وتقوقع علمي!

منهم: الدكتور عبد العظيم المطعني، الذي ألف كتابًا في ذلك أسماه (الحداثة سرطان العصر)، والدكتور عوض القرنى في كتابه ( الحداثة فى ميزان الإسلام )،  والدكتور عبد العزيز حمودة في كتابه (المرايا المحدبة) وهو أخطر كتاب عن الحداثة وأكثر كتاب أثر سلبيًّا في الموقف من الحداثة في مجال النقد الأدبي، واتكأ عليه كثير ممن اتخذوا موقفًا معاديا منها، والصحفي الإسلامي محمد عبد الشافعي القوصي في كتاب "سقوط الحداثة"!!

والناقد الفرنسي "رايمون بيكار" ينشر كتابًا في باريس يسمِّيه "النقد الجديد، أو الدجل الجديد" ويمثِّل على ذلك بكتابات رولان بارت، ويقول عنه: "إنَّ بارت في كتابه حول راسين - والنُّقاد الجدد بوجه عامٍّ - يَميلون في كتاباتهم كلِّها إلى إساءة استعمال لغة مجهدة شبه علمية، ذات رنين يبعث على الإثارة، لغة مستلَّة من ميادين أخرى؛ لكي يُخضعوا ابتذال توكيداتهم، وفي أحيان أخرى، لكي يُخفوا السَّخف فيها..". ويشير رولان بارت نفسه إلى أنَّ هنالك كثيرين هاجموا هذا النَّقد الجديد، فوصفوه بالدَّجل، والاحتيال الثَّقافيِّ، والسخف، وغير ذلك..

ومن حجج ناقدي الحداثة أنها -في زعمهم - منكرة وغريبة عن أصولنا، لا تستقيم مع تراثنا، فعلينا أن ننطلق من تراثنا؛ فعوامل الحداثة فيه مخبأة، تحتاج إلى من يكشف سترها، فيكون التجديد والتحديث من داخل التراث نفسه .أو نظل بلا حداثة تفرضها أنظمة ودول علينا! وأن الحداثة في أصل ميلادها ومرباها لها علاقة سلبية بالدين أي دين، وأن (الحداثة) حق أريد به باطل، وهو الهدم و الخروج من عباءة تراثنا وموروثنا الحضاري والثقافي، الذي هو جوهر وروح الحداثة الوافدة، وهذا ما يتبناه قطاع عريض من المثقفين المتصدرين للمشهد الثقافي العربي في المجلات الأدبية و المجالس الثقافية...الخ،....

وكل هذه التوجسات خاصة بالحداثة في المجال الأدبي، أما في المجال الفكري فلم أر أي ضرر أو أية سلبية ضد ثوابتنا وموروثنا؛ فالخلفية الدينية للحداثة تخصهم. وما يخصنا هو مدى الإفادة منها في قراءة منتجنا التراثي والحديث؛ فلن نكتشف تراثنا ونقرأه إلا من خلال هذه المناهج الوافدة في إجراءاتها العملية فقط، فالتناص-مثلاً- يكشف موسوعية الجاحظ، وأضرابه من الموسوعيين، والتداولية والحجاج يكشفان عظمة فن المناظرات والمفاخرات وأدب المعتزلة في تراثنا، والسرد يوضح عظمة المنتج القصصي التراثي، فكل منهج حداثي طُبِّق على تراثنا كشف جديدًا فيه بلا مبالغة، التجديد مرحلة، والحداثة مرحلة تالية، ولانتفاع بعلوم الغرب مطلب حضاري. أما الآداب والعلوم الإنسانية الغربية فلابد فيها من الحذر؛ لأنها نتاج الأديان والعقائد، لهم دينهم وعقائدهم. ولنا ديننا وإسلامنا.

الفريق الثالث الوسطى الاصطفائي

 وهم عقلاء انتقائيون، ينطلقون من أصالتنا وثوابتنا، ويرون الحداثة في النقد الأدبي منتجًا عقليًّا، نأخذ منه ما يفيدنا ويلائمنا، ونترك مالا يفيدنا ولا يلائمنا . منهم الأساتذة:  شكري عياد، وسعد مصلوح، ومحمد عبد المطلب، وحميد الحمداني، وعبدالسلام المسدي، ويمنى العيد، ووهب رومية، وغيرهم.

إنَّ موقف النقد الإسلامي من المناهج الغربيَّة المُعاصِرة ليس واحدًا، وإنما هو موقفٌ يترجَّح بين الاتِّصال والانفِصال، أو القَبول والرَّفض، فأمَّا الاتِّصال فيَتَجلَّى في ضرورة انفِتاح النقد الإسلامي على تقنيات المناهج الغربيَّة وأدواتها في تحليل النصِّ الأدبي تحليلاً علميًّا موضوعيًّا يَقُوم على استِنطاق لغته والتعمُّق فيها من أجل الوصول إلى دلالتها الخفيَّة العميقة.

 وأمَّا الانفِصام فيَظهَر بجَلاءٍ في رفْض النقد الإسلامي لفكرة "عزل النص" بجميع ألوانها، كما يَظهَر في التحفُّظ بخصوص الخلفيَّات المتمثِّلة في العلمانيَّة والفلسفة الماديَّة وسائر الأيديولوجيَّات التي لا تُلقِي للدين بالاً، ولا تكتَرِث بالأخلاق والقِيَم الإنسانيَّة النبيلة.

 

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 382 مشاهدة
نشرت فى 9 مارس 2020 بواسطة sabryfatma

الأستاذ الدكتور صبري فوزي عبدالله أبوحسين

sabryfatma
موقع لنشر بحوثي ومقالاتي وخواطري، وتوجيه الباحثين في بحوثهم في حدود الطاقة والمتاح. والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

296,509