إذا أتيحت لك زيارة قاعدة القوات الجوية الأمريكيةِ في "بلاتسبيرغ" بنيويورك، فسترى مشهدا فريدا وأمرا عجيبا هناك؛ ستجد قطيعا صغيرا من الماعز النيجيري، يجتر العشب الطري اللذيذ بنهم شديد، ويتناول الماء النظيف، ويلهو ويمرح داخل ساحة ثكنة عسكرية ويخلد للراحة آخر النهار بداخل سرداب محاط بالأسلاك الشائكة، وتحيط به حراسة أمنية مشدّدة ومدججة بالسلاح.
ومما لا شك فيه أن مثل هذا المشهد قد أثار تساؤلات عديدة؛ سواء بذهن بعض الجنود الذين كلفوا بحراسة الماعز، أو بعض من لفت أنظارهم وجود هذا القطيع. ومنذ أيام قليلة بدأ يتسرب هذا السر الدفين حتى وصل للصحافة، وعرضت مجلة "فوربس" الأمريكية الشهيرة بعضا من تفاصيله، وذكرت المجلة أن النعجة "ميل" وأختها "موسكاد" الموجودتين ضمن هذا القطيع الصغير تختلفان عن غيرهما من النعاج، بل تقدر قيمتهما بأكثر من وزنهما ذهبا؛ حيث نجح علماء الهندسة الوراثية في تعديلهما وراثيا لتنتجا بروتين حرير العنكبوت في حليبهما، وأن العنزتين ما هما إلا الناتج النهائي للمزاوجة الجينية بين العنكبوت والماعز!.
حرير العنكبوت أقوى من الفولاذ
ومن المعروف أن هذا النوع من خيوط العنكبوت يعد أقوى مادة بيولوجية عرفها الإنسان حتى الآن، وتعتبر الخصلات الحريرية التي تكون نسيج العنكبوت أقوى من الفولاذ، ولا يفوقها قوة سوى الكوارتز المصهور، ويتمدد الخيط الرفيع منه إلى خمسة أضعاف طوله قبل أن ينقطع، ولذلك أطلق العلماء عليه اسم "الفولاذ الحيوي" أو "الفولاذ البيولوجي" أو "البيوصلب"، وهو أقوى من الفولاذ المعدني العادي بعشرين مرة، وتبلغ قوة احتماله 300.000 رطلا للبوصة المربعة، فإذا قدر جدلا وجود حبل سميك بحجم إصبع الإبهام من خيوط العنكبوت فسيُمْكِنه حَمل طائرة "جامبو" بكل سهولة.
وأنثى العنكبوت هي التي تقوم بنسج الخيط، عن طريق آلية هندسية تعتبر معجزة إلهية في حد ذاتها، فخيط العنكبوت الضئيل الذي يظهر أمام العين المجردة مصنوع بالطريقة نفسها التي يصنع بها الكوابل شديدة الصلابة؛ حيث يتكون الخيط المفرد من عدة خيوط متناهية في الصغر ملتفة حول بعضها، وقد يبلغ سمك الخيط الواحد منها 1 من مليون من البوصة، تنتجه غدد أنثى العنكبوت من خلال ثلاثة مغازل خاصة موجودة أسفل البطن، ويوجد قرب كل مغزل فتحات لغدة صغيرة تخرج منها المادة التي تكون الخيوط الحريرية، وهي مادة معظمها من البروتين. وأثناء هندسة النسيج، تقوم العنكبوت بجمع الخيوط الناتجة من ثلاثة مغازل معا لتكوين خصلة قوية ومتينة، وتغزل العناكب التي تعيش خارج المنزل نسيجا معروفا باسم الفلك نسبة إلى شكله الدائري، وهو قطعة هندسية رائعة من الخطوط المتناسقة التي تتلألأ بشكل بهي تحت أشعة الضوء في مطلع الفجر.. وبالرغم من الصلابة القياسية لخيط العنكبوت فإنه نظرا لضآلة سمك الخيط المستخدم تبني العنكبوت بيتا اشتهر بالضعف والوهن، وضرب الله بها مثلا واشتمل القرآن الكريم على سورة العنكبوت، وقال سبحانه وتعالى في هذه السورة: "مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاء كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ"(العنكبوت: 41).
المزاوجة الجينية بين العنكبوت والماعز
ويُمثّلُ الماعزُ المحور وراثيًّا دربًا جديدًا وَاعِدًا في حقل الهندسة الوراثيةِ الجديد المثير للجدل، والذي يهدف للتلاعب بمورثات الكائنات الحية لاستخدامها كمصانع حية لإنتاج الدواء والكساء والغذاء والسلاح إذا لزم الأمر، ويعتبر "جيفري تيرنر" عالم الوراثة الجزيئية والمدير التنفيذي العام بشركة "نيكسيا بيوتيتكنولوجيز" في كيبك بكندا، هو المحرك الأساسي لهذا
المشروع متعدد الأهداف، ويَعتقدُ أنّ حيواناته المحورة وراثيا يُمْكِنُها إنْتاج الأدوية والموادِ المُهَندَسةِ وراثيا على نطاق واسع جدًّا، وبشكل أكفأ وأكثر رخصا مِنْ الأحواضِ والآلات الصناعيةِ. وفور بدء الماعز في إدرار الحليب فسيمكن استغلاله كمصدر للفولاذ البيولوجي(خيوط العنكبوت) الذي سيكون له أبلغ الأثر؛ سواء في مجال العناية الصحية؛ حيث يمكن أن ينتج منها خيوط قوية بسماكة مجهرية تصلح للتقطيب في العمليات الجراحية الدقيقة، مثل عمليات إصلاح القرنية، أو في الحماية من الرصاص في المعارك؛ حيث إن تلك الخيوط إذا نسجت بالدقة الكافية تصبح قادرة على صد الأعيرة النارية - فهذه الخيوط الحريرية التي يصل سمكها إلى3 "ميكرون" فقط تتفوق بثلاث مرات على أقوى درع مضاد للرصاص عرفه البشر حتى الآن والمعروف باسم "كيفلار" من إنتاج شركة "دوبونت" - أو في إنتاج الألياف البصرية، أو في أي مجال آخر يحتاج إلى خيوط قوية للغاية.
وكانت قد خطرت هذه الفكرة الجهنمية العبقرية على ذهن "تيرنر" أثناء دراسته في جامعة "مكجيل" في مونتريال في عام 1992، ثم تمكّن مع علماء آخرين من عزل جينات العنكبوت الثلاثة التي تعد شفرة إنتاج البروتين الحريري، وقاموا بعد ذلك بالعديد من الدراسات على الغدّة الحريرية للعناكبِ؛ ووجدوا أنها متماثلة تقريباً مع غدد حليب العنزات.
وفي عام 1993م أَسّسَ "تيرنر" شركة "نيكسيا" برأسمال 2 مليون دولار، وبَدأَ يغرس جين حرير العنكبوت بداخل خلايا جنين الفأر ثم تحولَ إلى العنزاتِ النيجيرية الصغيرة التي تبدأ في إدرار اللبن في غضون 13 أسبوعًا فقط من ولادتها، وتمتلك غددا ثديية كبيرة تَجْعلُ منها آلات حية رائعة لضخ الحليب المحتوي على بروتين حرير العنكبوت، ونجح "تيرنر" ومجموعة من العلماء في تحقيق الحلم، وتم ذلك عن طريق نقل الجين (المورث) الذي يتسبب في إنتاج خيوط العنكبوت من نوع من العنكبوت السام بحجم عقلة الأصبع معروف باسم Orb weaver أو "حائك الجرم السماوي"، وحقنها بخلية واحدة لبويضة ماعز لتندمج مع كروموزومات الماعز التي تحتوي على حوالي 70,000 جين، ليتم في النهاية إفراز بروتين خيوط العنكبوت الحريرية داخل خلايا الغدد اللبنية، ومن ثم يتم تجميعه في النهاية وتنقيته من حليب النعاج لاستخدامه صناعيا.
ونجح الفريق في نقل جين مفرد من العنكبوت وإنتاج أول عنزة محورة وراثيا تحتوي على جين من العنكبوت، وسميت هذه العنزة بـ "ويلو" Willow، وشبه "تيرنر" نجاح شركته في الحصول على الماعز المحور وراثيًّا لينتج بروتينا مركبا يستخدم في تكوين خيوط العنكبوت داخل الحليب، بالحصول على عنكبوت ضخم سمين، ولكنه سعيد باستئناسه ولا ضرر منه على الإطلاق، كما شبه هذه المحاولة الناجحة، بمحاولة استئناس النمور لاستغلالها في الحقول الزراعية مثلا، في دلالة واضحة ومفهومة على صعوبة استغلال العنكبوت السام لإنتاج الخيوط الحريرية اللازمة للاستخدام الصناعي.
وبالرغم من أن الحليب الناتج يشبه غيره من الحليب في الطعم واللون والرائحة، فإنه يحتوى على كميات كبيرة من بروتين خيط العنكبوت، وتقوم الشركة بترشيح واستخلاص هذا البروتين الثمين على هيئة عجينة بيضاء يمكن استخدامها في غزل خيط أبيض رفيع لصناعة الملبوسات العسكرية خفيفة الوزن الواقية من الرصاص وإنتاج الألياف البصرية، وفي أي مجال آخر يحتاج إلى خيوط قوية للغاية.
وأشار "ترنر" إلي أن البروتين الذي يمكن استخلاصه من حليب الحيوانات يمكن إنتاجه بكميات كبيرة بتكاليف أقل من الأساليب المختبرية التقليدية، وقال "ترنر" أمام مؤتمر International Molecular Farming Conference: "العنكبوت توصل للحل
قبل مئات الملايين من السنين عندما وجد نفسه أمام مشكلة اصطياد طعامه، فتمكن من ذلك بصنع هذه الشبكة المصنوعة من بروتين قوي جدًّا، إنه أقوى مادة معروفة لدى الإنسان، والنوع الصناعي منه ما هو إلا الناتج النهائي للمزاوجة الجينية بين العنكبوت والماعز".
حرب الماعز!!
ومن المتوقع أن يتم تداول حرير العنكبوت بشكل تجاري بعد عامين من الآن، ولكن ما زالت هناك حرب في الخفاء تدور رحاها بين الجيش الأمريكي وشركة "نيكسيا" ومجموعة من الشركات الأخرى العاملة في مجال التقنيات الحيوية مثل مجموعة "فارمنج" الهولندية، و"جينزيمي ترانسجينيس" في بوستون، وماسوشوستس، وشركة "بي بي إل" الأسكتلندية للحصول على براءات الاختراع وحقوق الملكية الفكرية وحق الاحتكار للماعز المحور وراثيا، وهذه الحرب الشعواء تستحق الحصول على لقب حرب "الماعز" بكل جدارة، وتؤكد هذه الأحداث أن التكنولوجيا الحيوية ليست مجرد مصنع أخبار يومية عن أكثر الجوانب غموضا وتعقيدا في الحياة فحسب، إنما هي مصنع آمال عريضة تتصل بقضايا كثيرة، وهي أيضا مصنع ثروات عظيمة تشعل معارك وصراعات جديدة بين البشر.