كنت من أنصار التقارب مع إيران، وأشدّ المعجبين بها ، ثم..؟ - تجربتي مع أحد رجال السياسة الإيرانيين والكشف عن المستور.!
لا زلت أذكر رحلتي إلى إيران في فبراير عام 2000م حيث دعيت ضمن وفد من أساتذة الجامعات المصرية لحضور دورة لتنشيط اللغة الفارسية، تلك الدعوة التي خطط لها أن تتواكب مع ذكرى الثورة وما يعرف في إيران بعشرة الفجر المباركة، وأذكر كم كان إعجابي بإيران الثورة وشعاراتها البراقة التي تدعو إلى وحدة المسلمين وتحرير القدس وتحدي قوى الاستكبار، والحديث عن الشيطان الأكبر والشيطان الأصغر وغير ذلك من الشعارات التي أعترف بأنني خدعت بها رغم معايشتي للإيرانيين، وأقول: إذا كنت أنا، وأنا المعاشر لهم، قد انخدعت بتلك الشعارات، فما بال من لم يخالطهم وما بال غير المتخصصين في الشؤون الإيرانية بل وما بال العوام؟
أذكر تلك الليلة حيث كنا ضيوفاً على حفل عشاء بمقر وزارة الخارجية في طهران وطلب إليّ منسق الدورة أن ألقي كلمة أعبر فيها عن انطباعاتي حول إيران، فقمت وألقيت كلمة بالفارسية أحسست عندها بأنني ألقي شعراً في حب إيران، وسررت عندما وجدت تصفيق الحاضرين وإعجابهم بكلمتي، التي أتساءل الآن وبعد مرور عقدين من الزمان: هل كانت كلمتي مجرد مجاملة أم إنني كنت صادقاً في هذا الإعجاب؟ والإجابة هي الثانية، حيث كنت أرى في إيران بلداً إسلامياً يدعو إلى مُثل عليا وقيم افتقدناها في عالمنا، رأيت بلداً يضطهده العالم بسبب هذه القيم، بلداً يناضل ويدعم المقاومة والمستضعفين.
انتهت الرحلة وعدت إلى مصر بهذا الاعتقاد وهذا الإعجاب، ولم يكن بداخلي أدنى شك في أن إيران تتعامل بالتقية، خاصة وأنني عندما كنت أناقش مثقفيها في قضايا كنت أقرأ عنها في الثقافة الفارسية مثل لعن الصحابة وتكفيرهم، أو فكرة التوسع الموجودة في شعر بعض شعراء الثورة، كانوا يجيبونني بأن ذلك كله كان في الكتب القديمة، أو هو مجرد انفعال شعراء تأثروا بسبب موت أقاربهم أو أبنائهم في الحرب الإيرانية العراقية، وكنت أصدق ما يقال لأن قلبي كما نقول نحن المصريون "أبيض" أصدق ما يقال، ولا أستطيع التعامل (بوجهين)، وربما أشبه هذه الطيبة وثقتي في الإيرانيين بما فعله الرئيس الراحل صدام حسين عندما أودع إيران مجموعة من الطائرات العراقية خوفاً عليها من التدمير إذا ما هوجم العراق، ولعلنا نذكر قصة تلك الطائرات وما آلت إليه.
قد لا يمكنني أن أتحدث بشكل مفصل عن سبب تغير وجهة نظري السابقة عن إيران، وقد لا أستطيع التحدث عن كل ما قرأته في مصادر إيرانية وجعلني أعود إلى الصواب وأدرك أنني وكثيرين غيري خدعهم سلوك الإيرانيين الذين يتعاملون بالتقية، وإنما سأذكر بعض المواقف الأولية التي كانت بمثابة الصدمة التي تبعتها صحوة التعرف على الحقيقة؛ فمن تلك المواقف ما حدث لي مع أحد رجال السياسة الإيرانيين الذين كانوا في زيارة مصر ضمن وفد إيراني شارك في سوق القاهرة الدولي الذي انعقد في القاهرة بعد عدة أشهر من عودتي من طهران.
فقد جاء الرجل إلى مصر وكان عليّ أن أرد له كرم ضيافته لي في طهران، فاصطحبته معظم وقته في القاهرة، ذهبت معه إلى قبر مالك الأشتر ثم مسجد رأس الحسين (كما يقول الإيرانيون) ثم إلى مسجد السيدة زينب ثم إلى قبر على زين العابدين رضي الله عنهم أجمعين، في ذلك الوقت استفسر مني عم إذا كنا نلعن قتلة الحسين رضي الله عنه أو يزيد وبني أمية، فأجبته بالنفي لأن المسلم ليس بلعان ولا شتام، وأن أولئك الناس عند ربهم وهو الذي سيحاسبهم؛ واستمر النقاش إلى أن سألته عن التاريخ الذي حدثت فيه تلك الواقعة التي مر عليها أكثر من أربعة عشر قرناً، ولماذا يحاول استدعاء هذا الماضي المر!، أدركت عندئذ بأن ليس العوام فقط هم من يتشبثون بأفكار الماضي مثل قضية الخلافة وتاريخ الفتن وثقافة كربلاء، بل الساسة والمثقفون أيضاً يحملون هذا الفكر.!
ومنذ تلك اللحظة بدأت أركز في قراءة هذا الموضوع وأتابع ما يتناوله الأدب الفارسي والثقافة الفارسية في هذا المضمار، وكانت الأيام تتوالى مسرعة إلى أن احتلت أفغانستان ومن بعدها العراق، وظهر الوجه الآخر لإيران التي شاركت المحتل وخططت معه لاحتلاله، وبرزت على الساحة لغة شعوبية وطائفية لم تعرفها المنطقة منذ زمن سحيق، وانتشرت طائفية مذهبية مقززة أرى أنها أطاحت بكل محاولة للتقريب بين إيران والعالم العربي، ذلك التقريب الذي لا يزال يؤمن به أناس في عالمنا العربي رغم الاستفزازات المذهبية من قبل رجال دين وساسة ومثقفين إيرانيين يطعنون في صحابة رسول الله وأزواجه دون مراعاة لشعور إخوانهم المسلمين من السنة، حتى أن بعض رجال الدين عندهم سخر من الدعوة إلى الوحدة الإسلامية تلك الدعوة التي كثيراً ما تشدقوا بها.
والعجيب أن أولئك الذين يتشبثون بالتقريب - من العرب - يرددون ما كان الإيرانيون يرددونه على مسامعنا كثيرا،ً ويكررون نفس الأقوال، فعندما نقول لهم اطلبوا من الإيرانيين أن يراعوا مشاعر أهل السنة فلا يسبون أو يلعنون صحابة رسول الله وأزواجه، تراهم يجيبون قائلين: هذا غير حقيقي ولا وجود له على أرض الواقع، ولذلك أقول لدعاة التقريب لقد كنت واحداً منكم ولو بطريقة غير مباشرة، ولكني أصبحت لا أؤمن الآن بالطريقة التي تدار بها عملية التقريب، وأرى أنه لا جدوى منه في ظل ما تقوم به إيران من محاولات لبث الفرقة في المجتمعات العربية والإسلامية، عن طريق إعلامها وسياستها التي لم يعد هدفها خافياً على عاقل.
وقد أشرت في إحدى مقالاتي السابقة عن الدور الإعلامي الإيراني وأثره في المنطقة، ولا مانع من أن أشير إلية مرة أخرى للتذكير، لأن الدور الإعلامي الإيراني يلعب دوراً كبيراً في التفريق لا التقريب، وما يشاهده المرء على شاشات الفضائيات الإيرانية يشعره بأن الزمان قد عاد إلى الوراء وبأن العصر الصفوي قد بعث من جديد.
ولهذا أطلب من المتشبثين بالدعوة إلى التقريب أن يتابعوا ما يبث على تلك الفضائيات ليخبرونا عن انطباعاتهم حوله، وهل يمكن الاستمرار في الدعوة إلى التقريب في ظل الدعم الإيراني لهذه الفضائيات؟ أعلم أن البعض سيجيب بأن كثيراً من هذه الفضائيات عربية وليست تابعة لإيران، عندئذ فليتفضل بمتابعة الفضائيات الناطقة بالفارسية ومنها: قناة "السلام" أو قناة "ثامن" والثانية التي تحمل اسم الإمام الرضا هي أيضاً كنظيراتها تفرق ولا تقرب، و سأذكر مثالاً واحداً على ما أقول وهو ما شاهدته منتصف ليل 19/5/2010م في حلقة كان عنوانها "روزگار تلخ" (الزمن المر) حيث كان الضيف أستاذاً جامعيا اسمه ديزفولي، كان يوقظ الفتن النائمة ويحرض أبناء مذهبه على البغض والكراهية، إذ وصف صحابة الرسول بالمنافقين المتآمرين لاغتصاب الخلافة، ووصف زوجات الرسول بالحاقدات الحاسدات بل وعقد مقارنة بينهن وبين امرأة لوط وامرأة نوح ليثبت أن خروج زوجات الأنبياء عن جادة الصواب وعصيانهم لله أمر وارد، لقد كان الرجل يشرح الأحداث بطريقة تدعو للفرقة وبمنهج ضعيف مضحك يستطيع تلميذ بسيط أن يفند كل ما قاله.!
وقد أشرت إلى هذا النموذج ليس من أجل تفنيده أو تحليل ما ورد فيه وإنما لأثبت لأولئك التقريبيين أن لعن الصحابة وسبهم والإساءة إلى زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم، وإثارة الفتن وشق الصف ليس أمراً منسياً لا وجود له اليوم كما يقول الإيرانيون، وإنما هو أمر يتكرر كل ساعة، فهل يستطيع أهل التقريب إيقافه؟ وهل يمكنهم مطالبة الإيرانيين بعدم تجديد طباعة كتب التحريض ونشر الفتنة والفرقة؟ وعدم التدخل في شؤون الدول العربية؟ إذا حدث هذا فسوف يكون الكل معهم بشرط أن تكون هناك أرضية وأسس ثابتة للتقارب والحوار، وبشرط أن يكون التقريب تقريباً لا تنويماً لنا كما أسميه بوضعه الحالي.
* أستاذ الدراسات الإيرانية بجامعة الأزهر