قد تمر بالإنسان حوادث معينة تعتبر نقطة تحول عند البعض، ولكنها عند الكثير من الناس قد تمر مرور الكرام، ودون أن يشعروا بعظمتها أو خطورتها. وهناك قسم آخر ممن قد يتغيرون تغيرا شكليا أو سطحيا، الشيء الذي لا يسمن ولا يغني من جوع.
وكذلك رمضان، كان وما زال عند البعض نقطة تحول كبيرة؛ فتراهم بعد كل رمضان أحسن حالا وأنقى سريرة وأرقى فكرا، بينما رمضان عند الكثير مجرد "أيام وتعدي"!.
والحديث هنا لا يخص العبادات في رمضان؛ فهي ما زالت الوسيلة الأرقى لاتصال العبد بربه، والطريقة المثلى لتطبيق معنى الحرية بشكلها الحقيقي، وذلك في رفض أي نوع من العبودية لغيره سبحانه وتعالى.
الحديث هنا يلمس معانيَ أخرى لرمضان؛ فإن كان الإنسان مكونا من روح وجسد؛ فرمضان هو مصدر غذائي لكليهما.
القيمة الحقيقية للإنسان
ولو أردنا تقسيم الإنسان أيضا إلى ما هو ملموس وما هو غير ملموس؛ لكانت الروح والأفكار والمفاهيم هي مكون الجزء المهم من الإنسان، وهو الجزء غير الملموس حسيا، ولكنه الجزء الأكثر تأثيرا على مسار حياة الإنسان. فليس هناك دلالة كبيرة أو قيمة حقيقية في كون الإنسان ضخما أو نحيلا، طويلا كان أو رَبعة أو قصيرا، ولم تكن هذه الصفات الجسمانية هي المتحكم الأهم في مستقبل الإنسان ومصيره، ولكن يبقى التحكم الأكبر في مستقبلنا مرتبطا بروح وثابة أو هاملة، بأفكار مبدعة أو متعبة، ومفاهيم سليمة أو سقيمة.
ورمضان هو الشهر الأكثر إبداعا في التأثير على كل هذه العوامل، كل ذلك طبعا هو بعد مشيئة خالق الإنسان والأيام، سبحانه وتعالى.
في رمضان قد تهدأ النفس أو قد تثور، ويرجع الأمر إلى كيفية تهيئة الإنسان لنفسه؛ فإن استقبلناه بروح نافرة شاكية فإن شهرا يتصف بالكرم كشهر رمضان لسوف ينفر من النفس وإن صامت، والخاسر الكبير هو الصائم؛ حيث لن يكون له حظ من صيامه غير التعب.
رمضان نقطة تحول
والأيام خلق من خلق الله تعالى، ورمضان هو من خيرة هذه الأيام، وبه خير ليلة. وإن لم تؤثر هذه الأيام العظيمة على النفس إيجابيا فبمَ تتأثر هذه النفس؟
إن رمضان حدث، بل هو حدث كبير، والنفوس الكبيرة هي من تتعامل مع الأحداث الكبيرة بنفس كبيرة وروح كبيرة وفكر كبير.
رمضان يجب أن يكون لنا جميعا نقطة تحول نحو الأفضل، خاصة ونحن نعيش أياما يصعب وصفها في سطور، ولكنها أيام عصيبة تحتاج إلى نفوس تعرف كيف تطور نفسها مع تطور الأحداث، وتعرف كيف تستجيب لسنن الله في الكون، ومنها سنة التغيير، وكما علمنا الرحمن الرحيم في قوله تعالى: {إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ}، وهذا رمضان جاء يمنحنا فرصة للتغيير.
وللداعية أدوار
وللداعية المسلم في هذه الأيام دور مهم وخطير، خاصة أن حالنا كأمّة وإلى حد كبير يتفق ووصفه صلى الله عليه وسلم حين وصف العصور، وتفاعلها مع ما جاء به من الهدي والعلم؛ فقسمها إلى ثلاثة أقسام، فقال واصفا أدناها: "وكانت منها طائفة قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ"، ودور الدعاة أن يدفعوا بالأمة إلى الأعلى، إلى مرحلة "فكانت بقعة قبلت الماء، فأنبتت الكلأ والعشب الكثير"، ثم دفعها إلى مرحلة أعلى: "وكانت منها بقعة أمسكت الماء، فنفع الله عز وجل بها الناس، فشربوا منها وسقوا وزرعوا". وهذه هي المرحلة التي سوف تعطي الإسلام بعده الحضاري والإنساني.
ولكن وكما قال شيخ الدعاة الشيخ محمد الغزالي -رحمه الله- واصفا حال المسلمين: "عيب المسلمين الآن أنهم لم يعرفوا القرآن ثقافة تفيق الألباب، وخبرة بالأنفس والآفاق، إنه ترديد ألفاظ وأنغام وحسب"، ثم خصص القول بعد تعميمه، فقال عن حال بعض الدعاة: "المشكلة في نظري أن بعض الدعاة لا يدري نفاسة ما عنده، بل ربما كانت قدرته على الإماتة أظهر من قدرته على الإحياء".
ثم يضيف -رحمه الله- فيحدد صفة العمل الأصيل والعمل غير ذلك، فيقول: "إنه فكر أذكى من فكر، وخلق أرضى من خلق، وإدارة أرشد من إدارة، وإنتاج أغزر من إنتاج، وحكم أعدل من حكم، وأسرة أطهر من أسرة، وتربية أجدى من تربية. والخطر كل الخطر على الحياة الإسلامية -وهو الحال الآن- أن نثبت أو نجمد ما من شأنه المرونة والتطور، أو نطور ما من شأنه الثبات والخلود، فتضطرب الحياة، وتختل الموازين".
وكما جاء في كتاب "الصحوة الإسلامية" للدكتور الشيخ يوسف القرضاوي: "على الداعية أن يتعرف على زمانه ليعرف كيفية التعامل معه، ومع النفس البشرية، خاصة وأنه يدعو لدين يجمع بين ما تحتاجه طبيعة الحياة الإنسانية من ثوابت في العقيدة والعبادة والأخلاق والأحكام، وبين متغيرات تتأثر وتتغير بتغير الزمان والمكان، وتشمل الوسائل والأساليب، وخاصة لغة الخطاب والتحاور".
ويقول الأستاذ مالك بن نبي -رحمه الله- في "مشكلة الثقافة": "قد قامت الحضارة الإسلامية في بدايتها بتجديدين، ومرة واحدة؛ وهما تجديد بنفي السلب، وتجديد برسم الإيجاب". وهذا ما يجب أن يقوم به الداعية المسلم اليوم حتى يرقى بأمته وبالإنسانية، ويبعدها من وحل جاهلية القرن العشرين إلى نور حضارة الإسلام بعالميته وشموله وعدله وإنسانيته.
يتطلب كل ذلك تحولا نوعيا في حياة وفكر المسلم عامة، والداعية خاصة، ورمضان هو خير معين لذلك؛ لما تحتويه ذاكرة التاريخ من تحولات عظيمة حصلت في هذا الشهر العظيم، وهي أحداث تعتبر مثالا قائما ليستفيد منه كل ذكي، وكل من له قلب واع وروح وثابة.
وإن كان اسم رمضان يوحي بشيء من الجهد أو التعب؛ فالتغيير نحو الأفضل هو من أشق الأمور، بل إن التغيير الفكري والبعد عن مصيبة العادة والروتين -وخاصة في مجال الدعوة- هو الأصعب والأشق؛ فهلا جعلنا رمضان بداية تحول حقيقي للدعوة وخطابها، والرقي بها إلى مستوى يحاكي أو يتعدى الخطاب العالمي القائم والبعيد كل البعد عن الحق والصواب؟.
ساحة النقاش