حاول علماء النفس سبر سرّ الابتكار انطلاقاً من الاختبارات الإبداعية إلى النفسية العبقرية, فتوصلوا إلى استنتاجات ذهبت إلى عكس فرضياتهم الأولية... "أعطِ خلال دقيقة واحدة أكبر عدد ممكن لأسماء علَم تبدأ بحرف الميم!" "اِبحث عن أقصى استعمالات ممكنة للبوق!" هذا هو نوع الأسئلة الذي يشكل مجموع الاستقصاءات المتعلقة بالإبداع. تقنيات الابتكار الأدبي, تستند إلى المبدأ نفسه: المهم تأليف قصة صغيرة انطلاقاً من بعض الكلمات (فيل, نيويورك, كامامبير, تضخم مالي, غيرة..). تجدر الإشارة إلى أن في هذه التمارين, يحرَّض الإبداع دوماً وفق قاعدة. الضغط والإكراه لا يحدَّان من الابتكار, بل يشحذانه. فوفق هذا المبدأ, كتب جورج بيريك رواية بأكثر من 300 صفحة – "الأفول"(1969) – دون أن يستخدم ولا لمرة واحدة الحرف e"", وهو الحرف الأكثر استعمالاً في اللغة الفرنسية. كيف نصبح عباقرة؟ لقد تم اختراع أولى الاختبارات في الإبداع عام 1950. في تلك الفترة, كان اختبار الذكاء سائداً في دراسة الكفاءات الفكرية. وكان جوي غيلفورد حينها من الشخصيات السائدة في علم المقاييس النفسية, فكَّر في تكوين اختبار لقياس القدرات الإبداعية. وعند مقارنة النتائج مع اختبار الذكاء اكتشف أن الخصائص الإبداعية لا تنطبق مع خصائص الذكاء: والدليل أنه بالإمكان أن يكون الإنسان مبدعاً جداً دون أن يكون بالضرورة ذكياً جداً (والعكس صحيح, يمكن أن يكون ذكياً دون أن يكون مبدعاً). فحاول غيلفورد حينذاك أن يفهم إلى أي كفاءات يستند هذا الإبداع, وخلص إلى وجود "فكر متشعب". فبينما اختبار الذكاء هو المقدرة على إيجاد الجواب الملائم لمسألة ما, فإن الإبداع هو في المقدرة على تخيّل مجموعة متنوعة من الحلول: ومن هنا أتى التعبير "فكر متشعب" (الجدير بالذكر أن مقولة "فكر متشعب" فرضت نفسها من طبيعة الاختبارات نفسها, تماماً مثلما تفرض اختبارات الذكاء ضمنياً تعريفاً للذكاء بشكل فعلي ومنطقي – رياضي). إن المقاربة التجريبية التي بادر بها غيلفورد وإيلليس, سوف تطبع لاحقاً كل الأبحاث المخبرية حول الإبداع بطابعها. وبذلك تطورت الدراسات المثمرة حول الأساليب المعرفية أو حول تطور الإبداع مع تقدم العمر. هناك ميدان آخر لدراسة الإبداع يبحث في نفسية "العبقري". كيف يفكر ليونار دي فنشي, أو موزار, أو بيكاسو, أو أينشتاين, إلخ. وكل الذين أحدثوا ثورة في مجالهم, في الفنون, والعلوم, والتقنيات؟ إن المفهوم الذي قاد كمية الأعمال المخصصة للـ"عباقرة" استند لمدة طويلة من الزمن إلى فكرتين ضمنيتين. أولهما إن الإبداع يعود إلى شخصية متميزة, ثم إن العباقرة هم مبتكرون, منفصلون عن أفكار عصرهم. فأينشتاين هو ذاك العالم الصاخب, الذي تطور على هامش المؤسسة العلمية, والذي يمد لسانه للسلطات؛ وموزار أيضاً كان فتى شغبٍ لا يطاق, مقاوماً للأعراف ودعباً ظريفاً. وبما أن الخارجين عن المألوف, الحديين المشوشين فكرياً أو حتى أنهم مجانين حيث نجد منهم بين الفنانين (أمثال فنسان فإن غوغ وهو رمزهم), يصبح من السهل استنتاج أن العبقرية والجنون يتطابقان مع بعضهما بعضاً. هناك فكرة أخرى ترد غالباً تعود إلى "وجَدتُها eurêka". العديد من المخترعين, وعلماء الرياضيات, والمبدعين وصفوا بعض مكتشفاتهم بشكل حدس مفاجئ – كـ"اوريكا" الشهيرة التي نطقها أرخمديس. وصف علماء النفس هذه الظاهرة بالتعبير "فطنة «?insight وهي إعادة بناء عناصر متباينة تظهر بشكل وحي. يؤكد عالم النفس الأمريكي "ميلاهي سيكزنتميهالي أن هذه الأوقات المتميزة في الاكتشاف تأتي بغتة في حالة فكر فريد, إنه "الفيض" الذي يتوافق مع فترة انتباه متردد حيث يكون العقل شارداً. أسطورة المبدع المنفرد لكن لكثرة ما تم التنقيب الشديد في الأسرار الحميمة للعبقرية, وبعد التنقيب في حياتهم الخاصة وتاريخها, خلص الاختصاصيون شيئاً فشيئاً إلى استنتاجات أقل بطولية وأقل تميزاً مما تخيلوه في السابق. وبرأي روبير وايزبيرغ وهو أحد الأوائل من الذين أعادوا طرح نموذج "العبقري المبدع", أن السيرة الذاتية لكبار المبدعين توحي غالباً بأنهم أشخاص مثابرون ومتصلبو الرأي (عندهم بعض الأفكار الثابتة وليست أفكاراً متشعبة) وهم يعملون بشكل دؤوب, معاكسة لصورة الهاوي الانفعالي التي تكشف سر الجاذبية عندما شاهد التفاحة تسقط من شجرة. العلماء أو الفنانون الاستثنائيون هم بشكل عام خبراء بقوة العلم أو بفن عصرهم: فهم ليسوا أبداً هواة لطفاء يبحثون وينقبون بمعزل عن الممرات المدروسة. كان ذلك حال أينشتاين وبيكاسو. وقد برهنت الاكتشافات المتزامنة أن التجديد يحلق في سماء العصر, وأن الاختصاصيين في مجال ما من المجالات, يصطادون على البقع الأرضية نفسها وفي الوقت نفسه وبالاستراتيجيات ذاتها. وخلاصة القول, إنه من الصعب جداً إيجاد سمة موحدة لأشكال الإبداع التي تعبر عن نفسها في الفنون والعلوم والتقنيات.. وقد استنتج هوارد غاردنر وهو منظر "الذكاء المتعدد" إنه يوجد أيضاً إبداعات متعددة, وذلك وبعد أن سبر أغوار السيرة الذاتية للرجال العظماء مثل أينشتاين وإيغور سترافنسكي. أجرى عالم النفس دين كيث سيمونتون دراسات حول سير حياتية لمئات الشعراء والمخترعين وعلماء رياضيات مشهورين بأنهم مبدعون في مجالاتهم. وفي نهاية أبحاثه "في دراسة تاريخية" خلص إلى النتيجة التالية: هناك بالتأكيد عمر وسطي يكون فيه الإبداع في أعلى درجاته وهو سن الشباب البالغ الراشد (بين 35 – 40 عاماً) لكن ذلك لا يصح لكل المناهج: ففي الموسيقى والفلسفة, يمكن أن يكون الإنسان مبدعاً في سن متقدمة. ويصر سيمونتون أيضاً على أن هناك عوامل أخرى كثيرة غير الشخصية والعمر, تؤثر على الإبداع. إنه من الصعب جداً أن يصبح الإنسان مبدعاً في مرحلة ليست كذلك. وبالمقابل, هناك فترات وسياقات تدفع إلى الإبداع. فينبغي أن تترافق الديناميكية الفردية مع وسط ملائم حيث فيه يمكن لبعض الإبداعات أن تنمو وتزدهر. خلص علماء النفس إذاً إلى النتيجة التي مفادها: إنه لا يوجد إبداع واحد فقط بل عدة أشكال من الإبداع وإن الأشخاص الأكثر إبداعاً هم الذين يجمعون الحافز والمثابرة والابتكار والأصالة بدل سمة واحدة, وأن الثقل المحرِّض للوسط هو شأن أساسي, وأخيراً, خلاصة الموضوع أن العبقرية ليست حالة خارقة كما نظن. ويصح القول أيضاً إن هناك قبساً من العبقرية في كل واحد منا. الخيال: موهبة عادية فإذا كان الإبداع ليس علامة تمييز بل على العكس هو عمل ذهني تافه؟ هذه هي الفكرة التي يدافع عنها اليوم بحاثة نفسانيون وفلاسفة واختصاصيون في العلوم المعرفية من الذين يهتمون بالعقل المخترع (المتخيل). وإذا تجاوزنا اختلافاتهم, الجميع يتشاركون بمقاربة جديدة للخيال تستند إلى بعض الأفكار المفصلية.
الخيال هو خاصية أساسية في المعرفة الإنسانية. ويُفهَم بمعناه الواسع في المقدرة على إنتاج صور ذهنية وعلى إشراكها لتشكيل "عوالم ممكنة": استشراف, تصورات, لكن أيضاً فرضيات عادية.
هذا الخيال يأخذ شكل صور ذهنية, ذات طبيعة إدراكية بشكل أساسي (بصرية, صوتية, انفعالية), منظمة وفق مخططات مبسطة (أو نماذج أصلية يحتذى بها) وقسرية: عندما نتخيّل أشخاصاً من خارج الأرض, تأخذ صورتهم في مخيلتنا شكل أناس صغار خضر أو لهم ثلاث عيون وخمسة اذرع: فالخيال لا يقوم سوى بتجميع عناصر معروفة بشكل جديد. ففي واقع الأمر, الخيال فقير. المقدرة الخلاقة تستند وفق ماكس ترنر Max Turner إلى التماثل الذي تكمن آليته في إيجاد تشابهات مخبأة بين عناصر تكون ظاهرياً متباينة, والفكر المتماثل هو أحد دعائم الإبداع (في الفن وفي العلم).
ساحة النقاش