المئذنة في التاريخ الإسلامي

رشيد بن زين

المئذنة رمزا معماريا للحضارة الإسلامية
في كل مرة يكون فيها المسلمون في أوروبا في قلب المشكلة، يلجأ الفاعلون الاجتماعيون والمؤسسات إلى النصوص الدينية والى التاريخ لينقبوا عن حجج تدعم مواقفهم المتبادلة. في هذا الإطار يتموضع النقاش الحالي حول المعاني التي تعكسها المئذنة في سويسرا. سنذكر هنا ببعض العناصر التاريخية حول هذا المكون الرئيس في العمارة الإسلامية للمساجد. وسوف نناقش لاحقا مدى أهمية هذه الاضاءات التاريخية.

انتماء المئذنة للأصل الإسلامي لا يفوق في الواقع انتماء الكاتدرائية للأصل المسيحي. ومع ذلك فهذا البرج الذي يرمز إلى فن العمارة الإسلامية يشكل جزء من التاريخ الإسلامي يصل إلى حدود القرن الثامن الميلادي على اقل تقدير.

ومنذ ذلك التاريخ أصبحت المآذن مكونا ثابتا في بناء المساجد في قسم كبير من العالم لإسلامي قبل أن تنتشر في وقتنا الحاضر في المناطق التي لم تكن تشهد فيها سابقا وجودا كثيفا.

 تتخذ المآذن أشكالا متنوعة؛ فهي يمكنها أن تكون صغيرة أو عالية، نحيلة أو ضخمة، مربعة أو دائرية، ثمانية الشكل آو لولبية، مبنية من الطوب أو من الحجر. لكنها في كل هذا ضلت، في الوقت نفسه، تدعو المؤمنين للصلاة وتعلن بارتفاعها المتعالي عن أماكن تواجد الإسلام. ومنذ القرن الثالث عشر الميلادي بشكل خاص، أصبحت المآذن تعكس رمزيا وبقوة، معاني النصر الإسلامي الذي يتم بوحي من القران. وستقدم الإمبراطورية العثمانية في هذا الشأن، الأمثلة الأكثر بروزا بفضل المآذن العملاقة التي ترتفع في السماء. فهكذا، وفي كل سنة يتوافد ملايين السائحين باستمرار للوقوف على المآذن الستة للجامع الأزرق في مدينة"استانبول" والذي بني في القرن السابع عشر بأمر من السلطان احمد الأول. من الناحية الرمزية، تعبر المئذنة عن توجه الإنسان إلى الله، فحين ترتفع المئذنة في السماء وحيدة لتعلن عن وجود المسجد فهي تستقيم كأصبع مرفوع يشير إلى "الواحد" معلنا بذلك عن عقيدة التوحيد؛ العقيدة المركزية في الإسلام. بهذا يجب إن نفهم درجة الأهمية التي تمثلها  المئذنة لدى عدد كبير من المسلمين حتى مع إمكانية وجود عدد من المساجد بدون مآذن في الماضي والحاضر.

يجهل تاريخ بناء أول مسجد؛ فالتقاليد العربية تشير إلى أن أول مبنى يستحق أن يحمل اسم مئذنة بني في عام 665 ميلادية في "بصرة" في سوريا وهي مدينة فتحها الفرسان العرب في بداية نشأة الدولة الإسلامية. البعض الأخر يرى أن المآذن الأولى ظهرت أول مرة في مسجد دمشق سنة 705 ميلادية في عهد الخليفة الأموي الوليد الأول. ووجدت الآثار الأكثر قدما الدالة على وجود مبنى بهذا الوصف فعلا في "بصرة"، حوالي 145 كم جنوب دمشق. وحول صخرة من البازلت اكتشف علماء الآثار الكتابة العربية التالية « بسم الله الرحمن الرحيم. خادم الله اليزيد، أمير المؤمنين، أمر ببناء هذا المسجد وتأسيس هذه المئذنة. بناها الحارث في عام 102، كتبه الحارث»َ( مذكور في كتاب: (Jean Sauvaget, Les inscriptions arabes de la mosquée de Bosra», Syria, 1941) . هكذا ومنذ تاريخ 724 ميلادية، أراد الخليفة الأموي يزيد الثاني أن يضاف إلى احد المساجد برج وان يفوقه ارتفاعا. هناك مئذنة أخرى قديمة وشهيرة تقع في مدينة القيروان- تونس الحالية- بين سنوات 724 و 727 ميلادية وبنيت بأمر من الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك. رغم ذلك يرى بعض علماء الآثار أن المسجد والمئذنة يعودان إلى القرن التاسع الميلادي في عهد الخليفة زيادة الله الأول؛ في هذه الحالة فنحن أمام أقدم مئذنة سجل وجودها في بلاد المغرب.

في كل الحالات، يرتبط ظهور المئذنة بالعهد الأموي؛ الخلفاء الذين نقلوا الخلافة العاصمة السياسية للإسلام من مكة إلى دمشق، والذين حكموا العالم الإسلامي من 661 إلى 750 ميلادية، وقبل أن يتم تعميمها فعليا وبشكل اكبر خلال القرون التالية من حكم العباسيين. فهل يمكننا هنا، ملاحظة التأثير الذي أحدثته الكنائس السورية التي كانت ، في معظمها ، تملك أبراجا؟

لقد كانت دمشق مدينة مسيحية كبيرة، سكانها ونخبها الذين قبلوا مبدأ التبعية للسادة الجدد الوافدين، تمكنوا من التأثير فيهم في مجالات عدة؛ إن ما نسميه "حضارة أموية" هو في الواقع ثمرة التقاء بين فرسان الجزيرة العربية والعالم السوري.

لكن لم بنيت المآذن؟ لتكون شاهدا على انتصار الإسلام؟ لتشير من بعيد إلى وجود أماكن لأداء الصلاة؟ لدفع الأعين إلى النظر إلى السماء؟ لإلقاء أذان الصلوات الخمس المفروضة في اليوم؟ لتكون بمثابة برج للمراقبة، بل وحصنا في حالة وجود تهديد؟ يمكننا إن نفترض أن هذه المباني أصبحت تقوم سريعا بمجموع هذه الوظائف. فمع بداية القرن الرابع الميلادي، شكلت الكنائس السورية للوعاظ الدعاة مكانا لممارسة التبشير( فيما يشبه " كراسي دراسية" في الهواء الطلق) وأماكن يلقى منها نداء الصلاة؛ لهذا لم يكن ارتفاعها يتجاوز 18 مترا. ثم صارت هذه الأبراج لاحقا علامات مرئية على الوجود المسيحي وشاهدا على تأكيد الإيمان بالمسيح في الحاضرة. هكذا إذن يمكن القول أن المآذن التي بنيت فوق المساجد كان لها هي أيضا وظيفة التأكيد على مسيرة النصر الإسلامي. نستطيع أن نتذكر أيضا أننا شهدنا في الغرب لاحقا ( لاسيما بعد القرن الثاني عشر) كيف أن كل القرى وأحياء المدن شهدت ارتفاعا لصوامع الأجراس فوق الكنائس التي تضاعف بناؤها لغرض التأكيد على النصر المسيحي الذي تحقق بدخول أوروبا بأكملها في الدين المسيحي.

الكلمتان الاثنتان اللتان تشيران إلى اللفظ الفرنسي Minaret تحمل في طياتها هذا المعنى المزدوج؛ فكلمة مئذنة التي وجدت في الكتابة العربية القديمة في "بصرة"  تحيل دون شك إلى فكرة الأذان أي نداء الصلاة. المئذنة( والكلمة تشير إلى مؤنث في العربية) تعني إذن وقبل كل شيء المكان حيث يوجد المؤذن آو المنادي إلى الصلاة. الكلمة الأخرى هي"المنارة"( والكلمة مؤنث أيضا) تشير إلى البرج سواء احتوى نارا أم لا، لكن الإشارة إلى المئذنة باعتبارها منارة تعتبر ثانوية في التاريخ الإسلامي. ويمكن أن نشير أيضا إلى أن فكرة المئذنة كمكان للصلاة قد أصبحت أيضا تحيل إلى الفضاء حيث تظهر فيه قوة وجود العقيدة الإسلامية. أما الكلمة الفرنسية Minaret فتاتي من اللفظ العربي منارة وهو مصطلح حديث بحيث تعود أصوله إلى كلمة menâr التركية التي استخدمت فقط منذ القرن السايع عشر في العهد العثماني، وهو اللفظ المشتق هو الأخر من الكلمة العربية" منارة".

تستخدم المئذنة و المنارة أيضا كتعبير عن المكان حيث توجد النار"مكان النار" أي Phare . وهذه الإشارة إلى المئذنة  كمنارة أو كفنار قد غذت في التاريخ الإسلامي تشابها بين المآذن وبين الفنار الشهير الموجود في جزيرة"فاروس" Pharos، القريبة من الإسكندرية، وهي إحدى عجائب الدنيا السبع والتي أنارت دروب البحارة لمدة سبعة عشر قرنا من الزمن: ثلاثة قرون قبل ميلاد المسيح و أربعة عشر قرنا بعد ميلاده. هناك من يرى أن هناك تشابها بين الهندسة المعمارية الدقيقة لفنار الإسكندرية( من حيث السطوح الثلاثة المتتالية التي تشكل طوابق: مربعة، ثمانية ودائرية)، وبين المآذن الثمانية الأضلع القائمة على قواعد مربعة والتي ظهرت في حلب في سوريا ثم في القاهرة في مصر في بداية القرن الرابع عشر. بل إن هندسة مسجد الحكيم( القرن العاشر) الذي يقع جنوبي القاهرة، بقاعدته التي تشبه القطع الهرمي، قد تكون مستوحاة من فنار الإسكندرية.

من وجهة نظر معمارية، هناك ثلاثة أنواع من المآذن واكبت ثلاثة مناطق كبرى توطن فيها الإسلام: المآذن المربعة، والمآذن ذات الساق الاسطوانية والمآذن ذات الساق المضلعة. المئذنة المربعة هي الأقدم، وهي التي انتقلت من سوريا ثم تطورت  في شرق البحر المتوسط ، ثم وصلت إلى أوروبا عبر الذين نجوا بعد سقوط الخلافة الأموية في اسبانيا. وهذه المآذن المربعة تشمل عدة طوابق مع غرف متداخلة زينت بنوافذ. جامع "الكتبية" في مراكش (القرن الثاني عشر) هو واحد من أروع الأمثلة على هذا النوع من المآذن. وكانت المئذنة اسطوانية الشكل قد ظهرت في القرن الحادي عشر على يد السلاجقة. ولدت هذه  المئذنة في إيران وتركستان ثم انتقلت إلى الهند في القرن الثاني عشر، قبل أن تزدهر في الأناضول؛ مآذن المسجد الأزرق في اسطنبول تقف شاهدا على ذلك. و يجب أن يضاف إلى هذه القائمة المآذن التسعة للمسجد الكبير في مكة المكرمة، كل واحد يرتفع تسعا وثمانين مترا. المئذنة المضلعة هي نوع من المئذنة الاسطوانية، و ظهرت في إيران، في "غزنة"، ووجدت في "سمرقند" كما في القاهرة، و أشهرها مئذنة قطب منار في دلهي. المآذن ذات الساق الأسطوانية والمضلعة قد يضاف لها شرفات صغيرة  وأسقف عالية مخروطية الذروة.

نحن لا نعرف ما هو الشكل الذي قد تتخذه المآذن في سويسرا، ولكن هناك سؤال يطرح: فحتى لو كنا قد وجدنا في النصوص التاريخية آثارا للمئذنة في الأيام الأولى للإسلام ، فهل من شأن ذلك أن يعني أن ذلك قد يجعل وجود هذه المآذن أكثر قبولا في أعين المواطنين السويسريين من غير المسلمين ؟ إذا كان هؤلاء الناس يشعرون بالانزعاج أو محل استجواب بسبب من هذه الإنشاءات ، فهل كانوا سيكونون اقل انزعاجا لو كانت للمآذن شرعية دينية "لا جدال فيها"؟ تناول المسالة عبر هذا الطريق يقف على خطأين اثنين: الأول، إعطاء أهمية قصوى  للدور المعياري للنصوص الأصولية ؛ وثانيا ، اعتبار هذه النصوص ذات سيادة حيث يختفي البعد الإنساني في إنتاج التقاليد الدينية التي لا تنبع حصرا من النص الديني: بل هي أيضا تشكل نتاجا اجتماعيا وتاريخيا.

السؤال إذن ليس فيما إذا كان الكثير من هذه المنشآت هي مشروعة من منظور ديني أم لا، بل السؤال هو كيف يمكن أن يستمر ويترسخ وجود المسلمين اليوم في بلد غير مسلم. ونحن نلمس هنا مسألة لا مفر منها ترتبط بهذا الوجود هي مسالة إدخال رموز إسلامية في التراث المعماري الأوروبي.    هذا انتقال لابد منه مما يدل على أن ما كان يعتبر في السابق "أجنبي"أو"خارجي"، هو الآن "ذاتي". حتى لو كان ذلك يتم أحيانا بطريقة جدلية ويعمل بشكل كبير على تحويل المشهد المعماري والتاريخي والثقافي لأوروبا.


المصدر: الانترنت
  • Currently 254/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
85 تصويتات / 1365 مشاهدة
نشرت فى 29 نوفمبر 2009 بواسطة razanonline

ساحة النقاش

عدد زيارات الموقع

221,937