ذ رمضان مصباح الإدريسي

 

 

توطئة:

لم تعجبني أبدا تسمية " المجالس العلمية" لأنها توحي بعلم جالس,كسول,ينتظر أن يقصده المستفتون,ليتململ ويفتي فتوى بعدية؛متعالية عن الناس ؛مفارقة-غالبا- لتفاصيل الحياة اليومية.

أفضل عليها "العلم الواقف"؛علماء واقفين ,حيث يقف الناس ؛تكاد لا تميزهم بشيء لأنهم موغلون في العضوية ,الانخراط ,المبادرة؛وصناعة الحدث.

مع هذه "المواقف العلمية"-وليس المجالس- لا حاجة للاستفتاء ؛لأن العالم ,بنفسه,يصبح فتوى قائمة تؤطر الناس.

 

نموذج الفقيه محمد الجبلي:(الطالب أجبلي)

أشرقت عليه الشمس ,ذات صباح من عشرينيات القرن الميلادي الماضي, و هو بتراب قبيلة أولاد سيدي زكري ,باقليم وجدة. لم يزد أول لقاء له مع القائد اعمرو –طالبا للشرط- على إثارة ارتياب

هذا القائد الشرس؛المتمترس في جبال الزكارة كنسر جارح.

لما انصرف الفقيه الشاب ,غير مقبول وغير مطرود,قال القائد الأمي لجلسائه,بأمازيغيته الفصيحة,مبررا إعراضه: باله من فقيه بعينين خضراوين متقدتين كعيني ثعبان( اطاون انس ذزيزاون آموصاض).

لم ينتظر الفقيه الجبلي-خريج القرويين- أن يأذن له القائد بالإمامة ؛بل استغل أيام ضيافته بالقبيلة فصار يؤذن ويصلي بالناس ؛وحينما هم بالرحيل استوقفه القائد- بمسعى من الجماعة- وقال له:حسنا أنت فقيهنا فتوكل على الله.

حينما أدركته الوفاة,في أواخر السبعينيات ؛تقاطر على القبيلة كل من عرفه, أو تتلمذ على يديه ,أو تعلم منه أمور فلاحته ومعاشه ؛فكان يوم وداعه يوما مشهودا؛ أكثر من وداع مجرد فقيه جبلي "براني", وأكثر حتى من وداع الأعيان النافذين.

 حينما تطوع البعض لأداء ديون محتملة للفقيد لم يطالب أحد بشيء.

كبف أسر هذا الفقيه قلوب الناس؟ لماذا لم تنسه القبيلة؛ولا تكرر فيها مثيل له؟لماذا أذكره كلما ذكر العلم والفقه؛ رغم أني لم أتتلمذ على يديه إلا أياما معدودات؟

 

ألا يغرس الزيتون والجبلي في القبيلة؟

لم يستسغ الفقيه أبدا هذا الإعراض عن الشجرة المباركة؛خصوصا وهو يرى سواقي الماء الزلال تنحدر من عل ,وتعبر بساتين خضراء ,فيحاء ,عن يمين وشمال؛ويتأمل عفو الماء يسيل عبر الوادي ,ينعم به السابحون من الأطفال وترتاده الأنعام ,وتصدر عنه وعن ظلاله جذلى, رشيقة كغزلان.

أما شجيرات الزيتون المعمرة؛في جوف الوادي, فلم تكن ملكا لأحد؛ولم يعرف لها غارس ولا جان؛عدا الأطفال .

يحكي الوالد:كنا ننتظر قدوم التجار اليهود إلى القبيلة لنستبدل الزيتون بأعواد الثقاب؛ومن شدة خبث اليهودي ,كان يمضغ حبة الزيتون ثم يتفلها وهو يقول لنا:هذا زيتون مر لا قيمة له...خذوا علبة ثقاب واحدة فقط..

يشمر الفقيه عن فقهه ألفلاحي ,الذي حصله بقبائل جباله ,ويشرع في غرس أشجار الزيتون في حواشي البساتين ,والأراضي المهملة ؛بمعية تلامذته؛بعد الانتهاء من حصص التحفيظ, الممتدة من الفجر إلى الظهر.

 سأقطع أرزاقكم أيها اليهود ؛هل يوجد زيتون حلو؟

توالت السنون ؛والفقيه ماض في برنامجه التعليمي والفلاحي.لم يكن لينا في الشقين معا:

إذا كان بصدد تحفيظ القرآن أبان عن شراسة نمر,في مواجهة الكسلاء ؛لا يضاهيه حتى كبار التلاميذ قوة .وإذا كان بصدد  الشق ألفلاحي فلا يشق له غبار ,وهو يتقدم الصفوف, يستنهض الهمم ويقوي العزائم:

هذه أرضكم"لفقيه ما عندو والو"؛ويضحك:  زيتون مر؛ياأعداء الله و النبي.

الفقيه يذهب في مهمة:

بعد أن تلاحقت غلال الزيتون,ما غرسه الفقيه  وما قلده فيه سائر الفلاحين-تبركا بالشجرة المباركة-,استأذن القائد في الذهاب إلى بني عروس,قبيلته, لاستقدام حرفيين متمرسين ببناء المعاصر ,وتصنيع لوازمها ,من الجذوع وصلد الصخور.

أيام غيابه كانت بمثابة أعياد بالنسبة لطلبة؛ لا يعرفون أهم فرحون باستراحتهم من قرآن الفجر ,ولسعات البرد والعصا ؛أم من الحفر والسقي وفقيه لا يزيده التعب إلا عنفوانا وجلدا؟

تم كل شيء كما أراد الله لهذه البلدة الطيبة يوم "سلط" عليها الفقيه محمد الجبلي بعينيه الثعبانيتين.

لكن بقرآن وفقه يسعيان بين الناس؛واقفين وغير جالسين على أرائك متقابلة,تسر الناظرين.

فتاوى الفقيه ؛كانت تتخلل عرقه ,وهو يمارسها ولا يتلفظ بها: لا فرق بين العبادة والعمل.لا عبادة بدون عمل. لا فرق بين من يصلي لله, ومن يغرس زيتونا يحبه الله ويباركه. الصلاة دعاء,الغرس استجابة...

حينما شرع الفقيه في استصلاح جانب من مقبرة قديمة, ليحيي بها شجرا ,بعد أن أمات الله بها ناسا ؛لم يصده أحد من القبيلة ؛حتى وهو وتلامذته يجمعون العظام في أكياس ,ويعيدون دفنها بعيدا.

لقد اجتمعت فيه الدراية الفقهية والفلاحية – إضافة إلى شدة البأس- فمن يعترض عليه؟

لا ألذ اليوم من زيت الزكارة؛وحيثما تجولت تجد ذكرى هذا الفقيه :أشجار زيتون وجوز تغطي أراضي كانت معتبرة مواتا ؛وحيثما اتخذ مسجدا إلا وأحاطه بأشجار .لايزال مسجد الإمام مسلم يستظل بشجرة جوز كبيرة من بنات ساعديه؛وحبذا لم تسمى باسمه لأن للإمام مسلم مساجد حيثما وليت وجهك في العالم الإسلامي.

 

الفقيه يلتحق بالمقاومة في شمال المغرب:

"بات ما اصبح",لم يخبر أحدا عن وجهته ؛كما يقول ابنه البكر حماد الجبلي,وقد رافقه في بحثه الشاق ,في جبال الشمال, عن خلايا المقاومة: كنا نسير ليلا وننام نهارا ؛وحينما نتيه نحتاط من سؤال الناس.

استمر الغياب ثلاث سنوات ؛كما يحكي الوالد ,وذات فجر –في نهاية الأربعينيات- استيقظت القبيلة كلها على صوت آذان مألوف لديها .من؟ سيدي محمد الجبلي عاد؟ هو بلحمه وعظمه.

اختار أن يدخل القبيلة ليلا ,وأن يكون سلامه آذانا يصدح فجرا .  لم يحزن حتى تلامذته لأن الشوق إلى الفقيه- ولو شرسا- ملك عليهم نفوسهم.

منذ عودته وهو يحدث الناس عن المقاومة ,والوطن المحتل,وكفر المستعمرين الاسباني والفرنسي.

إن الكبار,الذين يتذكرون اقتحام كتيبة فرنسية سنة 1916لجبال القبيلة ,واعتقالها للقائد بلعيد وأعوانه

بتهمة"المس بأمن الدولة الفرنسية" وكأنهم ضبطوا في نواحي باريز؛كانوا يعرفون ما يدور في ذهن الفقيه,ويتواطؤون معه سرا وعلانية.

وقد أثمرت مساعي الفقيه الوطنية- بعد إثمار الزيتون- حركة شبابية ,بدأت تستعد للتوجه معه إلى

حيث"شغل الرجال" كما كان يردد دائما على مسامعهم؛حيث يغرس زيتون مبارك ,من نوع آخر.

هزمته العيون المنبثة في كل منعطف,فاعتقل مع مجموعته؛وغيبهم سجن المستعمر.أما أشجار الزيتون فقد واصلت نموها واحتجاجها..إلى أن عاد الجميع مبشرين بالاستقلال.

يوم بكى في جنازة طفل بكاء مرا :

يحكي الابن أنه احتار في أمر الوالد الفقيه:ما الذي يبكيه ,وهو الشيخ المتمرس بالجنائز ؟يبكي طفلا بئيسا لم يمهله المرض طويلا.

حينما انصرف الناس سأل أباه عن السر؛فكان الجواب: لما كنت بصدد غسل الطفل لاحظت أن يديه خشنتان متورمتان ؛خضراوان من كثرة ظفر حبال الحلفاء. يواصل:لن يغفر لنا الله أبدا حينما يرى هاتين اليدين ,لطفل صغير ,فقير ومضطر ؛في الوقت الذي يلعب فيه أقرانه.

كان بعض التجار يجمعون ما ينتجه فقراء القبيلة من "كوردة"-مقابل دريهمات قليلة- ويصدرونها إلى الجزائر ؛حيث تستغل في كروم المعمرين .

كانت شراسة الفقيه تخفي قلبا رحيما بالبلاد والعباد.

يوم بكت الهمزة:

دأب الفقيه الجبلي ,رحمه الله,على استضافة أبناء جيرانه ,من التلاميذ العائدين ,في العطل,إلى ذويهم.وهم أحفاد الجيل الأول الذي غرس معه زيتون القبيلة.

بعد طعام العشاء ,وحول صينية الشاي,بشرع- وقد بلغ من الكبر عتيا, في الحديث عن أخبار الأولين ,والمسالك والممالك, وهاجوج وما جوج؛ويعرج على الألفية ,والتحفة ؛وبعضا من البردة.

  شذرات من هنا وهناك ؛فهمنا في ما بعد أنها من محفوظاته ,وهو بجامع القرويين؛حيث درس زمنا ؛دون نيل العالمية.

ولن أنسى أبدا حديثه عن خلق الله للحروف العربية؛وكيف أن الهمزة حينما بدا لها عوجها ,شرعت في البكاء؛دموعا غزيرة – بل طوفانية- كانت وراء ظهور البحار والأنهار..

لعل لمسة الطبري ,في تاريخه ,ظاهرة هنا. لكن ما هو ظاهر أكثر هو حب الفقيه الجبلي للتلاميذ ,وسعادته بهم وهم ضيوفه؛يستمعون إلى بقية فقه وعلم لا تزال لها مواقع في ذاكرته.

هذا هو الفقه الواقف ,وقوف أشجار الزيتون ؛أما حينما يتحول الى فقه جالس ,مفارق للمجتمع ,لصيق بالمتون فقط ؛فهو- لا محالة- الى ركود وفساد ؛ولم لا الى انحراف أيضا.

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 485 مشاهدة
نشرت فى 3 يوليو 2012 بواسطة ramdane3

ساحة النقاش

عدد زيارات الموقع

20,401