authentication required

مارتن هايدغر: من هو زرادوشت، نيتشه؟

 ترجمة:رمضان مصباح

 المرجع: MARTIN HEIDEGGER ESSAIS ET CONFERENCES GALLIMARD :1988 P :116-145

تقديم المترجم: هل استوعب العقل الغربي فلسفة نيتشه؟ هل يعود ما لحق العالم من دمار حربي وحضاري إلى " إرادة القوة" ؛كما أرادها " الجبابرة" أن تكون؟ إلى أي حد استبد السياسي بالفلسفي ,ليمرغه بإساءة فهمه,ربما عمدا؟ والإنسان في كل هذا ,هل هو الإنسان الأعلى – بالمفهوم الذي أبرزه نيتشه من خلال زرادوشت/الرمز- أم هو " السوبرمان" الذي توهم الغرب أن لونه بالضرورة أشقر وعيونه خضراء؛وأن من مهامه قهر العالم (ثقافيا),والذي يرى هايدغر أنه فعلا "وحش أشقر " اثبر" حمقه العنيف" يدخل هايدغر ,هذه المرة," الغابة السوداء" ليقرأ فكرا ولينصف رجلا ,وليحدد موقفا؛وليطرح الأسئلة الوجودية التي لا يقوى عليها سوى من يعشق " السكن في قلب الغابات الايكولوجية والرمزية " المتن الهايدغري تبدو الإجابة عن هذا السؤال سهلة؛لأنها واردة في كتابات نيتشه نفسه على شكل قضايا مصاغة بوضوح. انها توجد في الكتاب ,حيث يعرض نيتشه –بصفة خاصة- ملامح زرادوشت . يتكون الكتاب من أربعة أقسام ؛وقد كتب ما بين 1883 و 1885,ويحمل عنوان:هكذا تكلم زرادوشت. أعطى نيتشه لهذا الكتاب –كرفيق طريق- عنوانا فرعيا :كتاب للجميع وللاأحد.للجميع ,وهذا صحيح,لاتعني :لكل إنسان,بمعنى أي إنسان .للجميع تعني :لكل إنسان بقدر ما هو إنسان ,لكل إنسان مهما كانت الظروف وفي الإطار الذي يصير فيه- بالنسبة لنفسه , وفي وجوده – خليقا بأن يكون موضوع تفكير. وللاأحد: تعني للاأحد من الفضوليين الوافدين من كل حدب ,في آخر سفينة ؛من الذين ينتشون بمجرد مقطوعات وعبارات مقتطفة من الكتاب ,والذين يصابون بالدوار أمام لغته المتراوحة بين الخفوت والجهر ,الحذرة تارة والمندفعة تارة أخرى .هذه اللغة ذات مستوى عال غالبا ؛وأحيانا تبدو سطحية .كل هذا بدل سبر أغوار الفكر الذي يبحث هنا عن كلمته. هكذا تكلم زرادوشت :كتاب للجميع وللاأحد . كم هي محيرة الكيفية التي تم بها تأكيد العنوان الفرعي للكتاب –بصورة معكوسة- خلال السبعين سنة التي اعقبت نشره .لقد صار كتابا لجميع الناس ولم يجد-الى الآن- أي إنسان مؤهل لمستواه الفكري, وفي مستوى إدراك فكرته الجوهرية,وتحديد أصلها بكل بعده. من هو زرادوشت؟ لنقرأ بتركيز العنوان الرئيسي للكتاب ,وسنعثر على إشارة توضيحية : هكذا تكلم زرادوشت : زرادوشت يتكلم ,انه متكلم.ومن أي صنف؟ هل هو خطيب شعبي ,أم مبشر ؟ لا,زرادوشت ؛نعثر هنا على كلمة ألمانية قديمة ,بمعاني متعددة : fursprecher المتكلم لسان حال: بالمعنى الدقيق تعني (أمام). Fur ,تعني "قماش أمامي" "صدرية" furtuchا أي المحامي ,يتكلم أمام ... يترجم ويفسر موضوع كلامه ,والداعي اليه : ما ذا؟ ولماذا؟furspres زرادوشت ,لسان حال ,بهذه الأبعاد الثلاثة.ينادي بماذا؟ ويتكلم لصالح ماذا ؟ويريد أن يشرح ماذا؟ هل زرادوشت مجرد أي لسان حال ,لأي شيء ؟أم هو ناطق باسم شيء واحد ,ذلك الشيء الذي يهم الإنسان أولا ,وفي كل الأحوال. قرابة نهاية القسم الثالث من "هكذا تكلم زرادوشت" توجد قطعة عنوانها :"الناقه" ان زرادوشت هو المقصود بهذا العنوان .ولكن ماذا تعني " الناقه" ؟ان كلمة "شفي"le convalescent هي نفس الكلمة الاغريقية التي تعني " العودة الى المنزل" ؛الوطان:guerir La nostalgie هو الحنين إلى الوطن ,ومكابدة البعد عنه . ان الناقه يستجمع قواه من اجل العودة ,وربما من اجل تحقيق قدره.الناقه متجه صوب ذاته ,بحيث يستطيع أن يقول عن نفسه: من هو . في القطعة المشار إليها يقول الناقه: أنا زرادوشت الناطق باسم الحياة ,الناطق باسم المعاناة ,الناطق باسم الدائرة. زرادوشت يجاهر بالكلام من أجل الحياة ,والمعاناة ,والدائرة. وثلاثية الحياة ,المعاناة ,والدائرة مترابطة ؛انها شيء واحد. اذا استطعنا أن نتصور –كما ينبغي- هذا الشيء الثلاثي,كشيء واحد ,وكنفس الشيء؛فسنكون في مستوى استشعار ما الذي ينطق زرادوشت باسمه ؟ ومن تراه يكون هو نفسه ,بصفته لسان حال ؟ يمكن ,بدون شك, ان نتدخل من الآن , مزودين بتوضيح مهم ونقول بدقة أكيدة: ان الحياة في لغة نيتشه تعني إرادة القوة ؛الأساس الجوهري لكل ماهو موجود, وليس الإنسان فقط وما يجب أن نفهمه من المعاناة يشرحه لنا نيتشه بنفسه في الكلمات الآتية:" كل ما/من يعاني, يريد ان يحيا ...."ص:469 أي كل ما هو على شاكلة ارادة القوة.و"الدائرة" هي رمز الحلقة ؛حيث يدور المنحنى حول نفسه,منتجا بدورانه هذا, المطابق (للأصل) الذي تتكرر عودته دائما. بناء على هذا فان زرادوشت يبدو كناطق باسم هذه الفكرة:"ليكن كل ما هو موجود ارادة للقوة ,التي تعاني كإرادة خلاقة ,متصادمة ذاتيا ,ومريدة لوضعها هذا في العود الأبدي للمطابق. بهذا الاقتراح نكون قد أخضعنا للتعريف –كما يقال في التعبير المدرسي- وجود زرادوشت .نستطيع ان نسجل هذا التعريف, ونرسخه في ذاكرتنا لاستحضاره عند الحاجة .ونستطيع ,بصفة خاصة , حتى ابراز التعريف المصاغ ,باللجوء إلى هذه العبارات المتميزة الخط ,’والتي تبين لنا –في كتابات نيتشه- من هو زرادوشت. في قطعة الناقه المشار اليها نقرأ:" أنت (أي زرادوشت) الذي يعلم العود الأبدي ......."وفي مقدمة الكتاب نجد :"أنا (زرادوشت) أعلمكم الإنسان الأعلى " Le sur-Homme بناء على هذه العبارات ,فان زرادوشت –لسان حال- معلم " يعلم" علانية أمرين :العود الأبدي للمطابق ,والإنسان الأعلى.أولا وقبل كل شيء لا نعرف هل يترابط ما يعلمه ؟ وكيف يترابط؟ ومع ذلك – حتى اذا أصبح الترابط واضحا- نظل دائما لانعرف ,هل الذي نسمعه هو بحق لسان الحال؟ وهل نتعلم شيئا من هذا المعلم ؟ في غياب الاستماع اليه والتعلم منه ,لن نعرف –أبدا- من هو زرادوشت بالضبط .ولا يكفي أيضا أن نربط بين الجمل المعبرة على ما يقوله لسان الحال , والمعلم, عن نفسه . يجب أن نعرف كيف يقوله ,وبأية مناسبة ,ولأية غاية. الكلمة الحاسمة : " انك الذي يعلم العود الأبدي" ليس زرادوشت هو الذي يكرر – تلقائيا- قولها لنفسه ,انه يسمعها من حيواناته ,المذكورة في مدخل المقدمة ,وبوضوح أكثر في ,في خاتمتها . نقرا هناك :" حينما كانت الشمس في كبد السماء :ثم رفع ( زرادوشت) بصره الى السماء مستفسرا؛فقد سمع فوقه نداء حادا لطائر ,فأبصر عقابا يحوم في الفضاء-راسما دوائر واسعة- يتدلى منه ثعبان ؛ليس كفريسة وإنما كصديق ,اذ كان ملتفا حول عنقه " في هذا العناق اللغز ,نستشعر , منذ الآن, كيف تتداخل, بكيفية ضمنية ,الدائرة والحلقة,في منعطفات العقاب ,وحلقات الثعبان .هكذا تتألق هذه الحلقة : : الحلقة الختمية والسنة الأبدية . منظر الحيوانين يظهر بأي شيء يتعلقان في الدوران أو الالتفاف . .ان الدائرة والحلقة ليستا من إبداعهما ,ولكن يندمجان فيها ,ليشعرا – هكذا- بوجودهما.ANULUS RETERNITATIS في منظر الحيوانين يتضح لنا ما يهم زرادوشت ,حين يستفسر السماء بنظرته .ولهذا يواصل النص: " انها حيواناتي. يقول زرادوشت وهو يشعر بالابتهاج" " الحيوان الأكثر أنفة ,تحت الشمس, والحيوان الأكثر حكمة تحت الشمس ,كلاهما انطلقا مستكشفين" " يريدان ان يعرفا ما اذا كان زرادوشت لازال حيا .وفي الحقيقة أما زلت حيا؟" لا يتجلى سؤال زرادوشت بكل ثقله ,الا اذا فهمنا كلمة" الحياة " الواسعة الدلالة ,بمعنى" ا رادة القوة " يتساءل زرادوشت :هل تتجاوب إرادتي مع هذه الإرادة التي – باعتبارها ارادة القوة- تتحكم في كل ما هو موجود؟يريد الحيوانان استكشاف وجود زرادوشت انه يسأل نفسه ,اذا كا ن لايزال من هو حقيقة؛أو اذا كان فعلا قد بلغ من هو . في ملاحظة حول " هكذا تكلم زرادوشت" نقرا:" هل لدي متسع من الوقت لانتظار حيواناتي ؟ اذا كانت حيواناتي ,فستعرف كيف تجدني " و"سكت زرادوشت." حيواناته أيضا تقول له – في قطعة الناقه- ما سيأتي ,والذي يجب ألا تصرفنا عنه العبارة المكتوبة بالحرف الايطالي. تقول : " حيواناتك تعرف جيدا من أنت يا زرادوشت , ومن ستكون : انظر انك الذي يعلم العود الأبدي.هذا هوقدرك الآن " هكذا يبدو جليا ان زرادوشت يجب عليه ,قبل كل شيء,’ ان يصير من هو ( لكنه) يتراجع أمام صيرورة كهذه ؛نحس بهلعه من أول الكتاب الى آخره .هذا الهلع يطبع الأسلوب و يفسر المسار المتردد للكتاب ,والذي يتكرر تعثره باستمرار ,في كل أحاديثه( زرادوشت) التي تبدو- غالبا- متكلفة ,يطبع سياقها الهوس ؛هذا الشخص لن يعرف أبدا من هو زرادوشت. اذا كان من الواجب على زرادوشت – قبل كل شيء- ان أن يصير هو نفسه معلم العود الأبدي ,فانه لا يستطيع ان يشرع على الفور في تعليمه .لهذا السبب نقرا في القولة الأخرى ,في منطلق مساره :" أعلمكم الإنسان الأعلى". بالنسبة لكلمة/عبارة الإنسان الأعلى,يجب – في الحقيقة- ان نستبعد كل الأصداء الخاطئة والمثيرة التي ترافق هذه الكلمة ,في الرأي العام . من خلال "الإنسان الأعلى" لا يقصد نيتشه – بالضبط- إنسانا من الصنف الذي نعرفه , والذي لا يتميز سوى بحجمه الكبير .انه لا يفكر في جنس بشري يرفض كل القيم الإنسانية ,وينصب –كقانون- الاستبداد المطلق ,القائم على تسلط الجبابرة . الإنسان الأعلى باعتبار المعنى الحرفي للكلمة ,هو الذي يسمو على إنسان الأمس واليوم , لكن في اتجاه تمكين هذا الإنسان – بشكل أساسي- من الوصول الى ذاته التي تعاني باستمرار , من أجل تعزيزها. في ملا حظة بعدية تتعلق ب:زرادوشت نقرأ : " زرادوشت لا يريد ان يضيع كل شيء من ماضي الإنسانية , انه يريد ان يطمر كل شيء " لكن ما هو سبب هذه الدعوة الى الإنسان الأعلى ؟ لماذا لم يعد إنسان الماضي والحاضر كافيا ؟ لأن نيتشه يعي اللحظة التاريخية ,حيث يستعد الإنسان للهيمنة المطلقة على الأرض .نيتشه هو أول مفكر يطرح السؤال الحاسم ,مستحضرا هذا التاريخ الإنساني الذي يتجلى لأول مرة,ومستوعبا السؤال بكل بعده الميتافيزيقي . السؤال هو الآتي: الإنسان كانسان ,كما تجلى في وجوده الى الآن , هل هو كفء لينهض بأعباء الهيمنة على الأرض ؟ اذا كان الأمر هكذا فان" الإنسان الأعلى " المفهوم فهما سليما ,لا يمكن ان يكون ثمرة خيال ساقط ,يتهاوى في الفراغ بدون كابح .ومن الممكن أيضا أن نكتشف- تاريخيا- طبيعته ,من خلال تحليل الزمن المعاصر .لا يجب ان نبحث إذن عن الملامح الجوهرية للإنسان الأعلى, في هؤلاء الأشخاص الذين يجعل منهم نوع من ارادة القوة ,ذات النظرة الضيقة, والمفهومة فهما سيئا ,مستخدميه الرئيسيين ,ويدفع بهم الى مركز الصدارة ,في هذه التنظيمات المختلفة الأشكال .هناك ملاحظة يجب ,بحق,ان نسجلها في الحين : هذا الفكر المتجه صوب معلم يعلم الإنسان الأعلى , يهمنا ؛ يهم أوروبا ,والأرض كلها , ليس فقط " اليوم كذلك" ولكن , بالخصوص, وقبل كل شيء ,غدا .ان الأمر هكذا سواء قبلنا هذا الفكر أم حاربناه: سواء صرفنا عنه النظر ,أو موهنا عليه بحشد من التفسيرات الخاطئة .كل فكرة جوهرية تجتاز- سليمة- جموع مؤيديها ومعارضيها. يجب اذن أن نتعلم – أولا – كيف نتعلم ,من الذي يعلم ؛ ولا يعني هذا سوى ان نتعلم اثارة تساؤلات أعمق من تساؤلاته .بهذه الكيفية – لا غير- سنكتشف يوما,من هو زرادوشت نيتشه , وإلا فلن نكتشفه أبدا. بقي ,بدون شك, ان نتبصر ,هل نستطيع- بتساؤلاتنا التي تذهب الى ابعد من فكر نيتشه -أن نواصل مسيرة هذا الفكر ؛أم هل يجب – عندئذ- أن نتراجع بخطوة. ويبقى ابيضا أن نتفحص مسبقا ,هل هذا" التراجع " يمثل ماضيا مثبتا تاريخيا , نريد تجديده (مثلا عالم غوته) أم أنه ( التراجع) يحيل على وجود آني مركز, لا تزال انطلاقته تنتظر فكرة منبهة ,لتصبح بداية سيكشف عنها المستقبل القريب جدا. أما الآن – وفي المقابل –( لنبق في حدود تعلم قليل من الأشياء عن زرادوشت ؛ مجرد أشياء احتياطية .(ان) الطريقة الأكثر ملاءمة هي ان نحرص على تتتبع خطواته الأولى كمعلم .انه يعلم بالإيضاح ,يتنبأ بوجود الإنسان الأعلى ويرسم له شكلا مرئيا .ان زرادوشت معلم فقط ,وليس الإنسان الأعلى ذاته ؛ ونيتشه , بدوره, ليس هو زرادوشت ,بل المتسائل الذي يحاول ان يدرك بفكره وجود زرادوشت. الإنسان الأعلى يتجاوز كثيرا صيغة وجود الإنسان المعروف الى الآن ,فهو معبر ,جسر, ولنتمكن من تتبع – بالتعلم- المعلم الذي يعلم الإنسان الأعلى , يجب – لنحافظ على انطباعنا- أن نصل الى الجسر .سنفهم دلالة المعبر بكيفية قريبة من الصحة ,اذا أخذنا بعين الاعتبار ثلاث نقط: 1_ المكان الذي يبتعد عنه المعبر. 2_المعبر ذاته. 3_ المكان الذي يقصده المعبر. هذا المكان الأخير يجب ان يكون موضع تأمل عميق من طرفنا ,وبالخصوص من طرف العابر ؛وبدءا من طرف المعلم , الذي يجب أن يرشد اليه . اذا لم نعرف , مسبقا , أين نتجه سيظل المعبر بدون وجهة ,وسيبقى المكان الذي يجب أن يبتعد عنه العابر بدون تحديد . ولكن ,من ناحية أخرى , هذا المكان الذي يدعى اليه العابر , لا يتجلى بوضوح الا حينما يصل اليه( العابر). بالنسبة للعابر ,وأكثر من هذا , بالنسبة للمعلم الذي يجب ان يرشد الى المعبر , بالنسبة لزرادوشت نفسه , تظل نقطة الوصول بعيدة الإدراك تماما.وهذا البعد قار ,وما دام قار ا يظل على مقربة ؛ وربما في " المقربة" التي تبقي على البعد كبعد , في حين تفكر فيه كموضوع ,،وهدف, مقربة البعيد ,تلك التي تجعل ذكراه حاضرة دوما ,هي في لغتنا الوطان /النوستالجية .إننا نربط خطأ بين الكلمتين الألمانيتين: "بحث" و " مدفوع" الكلمة القديمة :" SUCHENوDIESUCHT تعني " المرض" الدوار, الألم.والوطان هو الألم الذي تسببه لنا مقربة البعيد ( حضور SUCHT البعيد في أذهاننا). المكان الذي يقصده العابر هو موضوع وطانه ؛فالعابر ,وقبله الذي يوجهه : المعلم ,يوجد – وقد عرفنا هذا- في طريق العودة الى وجوده الخالص . انه " الناقه" . في القسم الثالث من " هكذا تكلم زرادوشت" ألحقت قطعة " الناقه" ,مباشرة , بقطعة أخرى تحمل عنوان " الوطان الكبير" . بهذه القطعة ,وهي ما قبل الأخيرة في القسم الثالث يصل كتاب " هكذا تكلم زرادوشت" , بأكمله ,الى ذروته القصوى . في ملاحظة بعدية يقول نيتشه: "الألم الإلهي يشكل محتوى زرادوشت القسم الثالث " .وفي قطعة الوطان الكبير يتحاور زرادوشت مع روحه. حسب مذهب افلاطون ,الذي هيمن على الميتافيزيقا الغربية , فان وجود الفكر يتجلى في الحوار الذاتي للروح .انه التأمل المعبر عنه , الذي تجتازه الروح , كمرحلة في طريقها صوب ذاتها ؛ محيطة بالموجودات الحاضرة دوما في تصورها . في حواره مع روحه يصل زرادوشت الى " فكرته الأكثر عمقا" ؛فقطعة "الوطان الكبير" تبتدئ بعبارة زرادوشت هذه: " ياروحي لقد علمتك ان تقولي : اليوم مثل الغد والأمس , وان تعبري , راقصة فوق الكل ,هنا وهناك وهنالك" الكلمات الثلاث: "اليوم", " الأمس" و " الغد" لها حروف بداية ووضعت بين هلالين مزدوجين. انها تعبر عن خطوط الزمن الأساسية والكيفيةMAJUSCULES التي يعين بها زرادوشت هذه الخطوط ؛تدل على ما يجب على زرادوشت نفسه ان يردده – مستقبلا- في عمقه. ماذا يعني اذن" الغد " و " الأمس" ؟ المستقبل والماضي , إنهما مثل " اليوم" .اليوم بدوره مثل الماضي ,ومثل ما سيأتي . تتوحد أطوار الزمن الثلاثة – باعتبارها كلا واحدا- في اتجاه نفس " الكل" , وتنصهر في حاضر وحيد , في " الآن" الثابت. هذا " الآن" الدائم تسميه الميتافيزيقا: الأبد.نيتشه أيضا يفكر في أطوار الزمن الثلاثة انطلاقا من الأبد ؛باعتباره " الآن" الدائم ,لكن هذه الديمومة لا تنحصر عنده في وضع ثابت ,بل في عود(تكرر) للمطابق: بتعليم زرادوشت هذا القول لروحه , يكون هو معلم العود الأبدي للمطابق .RETOUR DE L’IDENTIQUE هذا العود هو زاد الحياة السعيدة والشقية , الذي لا ينفذ ,وهو ما يتوق اليه " الوطان الكبير" الذي ينعش زرادوشت ,يثير فيه الإحساس ب" الأمل الكبير" ويطبعه بطابعه . ولكن ما الذي يطمئن زرادوشت ويوجهه صوب أمله الكبير؟ أي جسر يمكنه من العبور صوب الإنسان الأعلى , ويسمح له – في عبوره هذا- بالابتعاد عن إنسان اليوم ؛بكيفية تمكنه من الانفصال عنه؟ البنية الخاصة ل: هكذا تكلم زرادوشت – الكتاب الذي يجب أن يرشد الى ممر الإنسان ,الذي يعبر الى الوضع الآخر- اقتضت أن يقدم الجواب عن هذا السؤال في القسم التمهيدي ,وهو الثاني. هناك في القطعة المعنونة ب:" العناكب" يقول نيتثه على لسان زرادوشت:" أن يتخلص الإنسان من الانتقام ,هو بالنسبة لي الجسر الموصل الى الأمل الكبير ,وقوس قزح ,بعد اضطرابات طويلة. -كم هي بعيدة هذه العبارة عن الرأي السائد ,كم هي غريبة مقارنة بالفكرة السطحية التي كوناها عن فلسفة نيتشه .ألا يعتبر نيتشه هو مؤسس ارادة القوة؛ بالنسبة للمحرض على سياسة القوة والحرب ,بالنسبة للذي أثار الحمق العنيف للوحش الأشقر Bette blonde لابرازعبارة " أن يتخلص الإنسان من الانتقام " طبعت في النص بالحروف الايطالية. ان فكر نيتشه موجه صوب الخلاص الذي يبعدنا عن روح الانتقام .يسعى فكره ليكون في خدمة روح تؤسس – بعد التحرر من الرغبة في الانتقام- لمجرد المؤاخاة العادية ,كما تؤسس لكل " رغبة في مجرد العقاب" روح تتقدم كل جهد من اجل السلام ,كما تتقدم كل سلوك حربي .روح مخالفة لهذه الروح الأخرى التي تريد- بمجرد العهود – تأسيس وضمان السلم ؛ مجال هذه الحرية المنتزعة للانتقام يوجد,كذلك, خارج السلمية , وسياسة القوة ,والحياد المصلحي . انه أيضا خارج الضعف الذي يترك المصلحةPACIFISME تسقط, أو التهرب ساعة التضحية ,وخارج الانحيازات العمياء ,والرغبة في التأثير مهما كانت الوسائل. بروح الحرية هذه , المخلصة من الانتقام ,يرتبط التفكير الحر الذي يدعوا اليه نيتشه. يجب أن يتخلص الإنسان من الانتقام ؛رغم أننا لا نتأمل الا من بعيد روح الحرية هذه ,المعتبرة كأساس جوهري لفكر نيتشه ,فان الصورة المكونة عنه – المسلم بصحتها الى حد الساعة , والتي لا تزال جارية على الألسن- يجب ان تنهار. "أن يتخلص الإنسان من الانتقام هو بالنسبة لي – يقول نيتشه- الجسر الموصل الى الأمل الكبير" ؛بهذا يذكر في نفس الوقت , بلغة تخفي ما يمهد له, ما يتوق اليه" وطانه الكبير"ولكن ماذا يقصد هنا بالانتقام ؟VENGEANCE ما هو – بالنسبة اليه- قوام الخلاص الذي يبعد عن الانتقام؟ سنحاول تسليط بعض الضوء على هاتين النقطتين ؛ وربما سيمكننا هذا الضوء من الرؤية الواضحة للجسر ,الذي يجب- في فكر كهذا- أن يحقق العبور من الإنسان الذي نعرف الى الإنسان الأعلى . ومع وسيلة العبور تتضح وجهة العابر. هكذا سنتمكن ,مسبقا, من إدراك : بأي مقياس يكون زرادوشت – اضافة الى كونه الناطق بلسان الحياة , والمعاناة والدائرة – هو أيضا المعلم الذي يعلم ,في نفس الوقت, العود الأبدي للإنسان الأعلى .ولكن لماذا تتوقف مسألة حاسمة كهذه ,على ابتعادنا عن الانتقام ؟ أين يكمن حس الانتقام ؟ أين يمارس تدميره؟ يجيبنا نيتشه في القطعة المعنونة ب:" الخلاص" والواردة في القسم الثاني من " هكذا تكلم زرادوشت" يقول:" روح الانتقام :هذا ما شكل الى وقتنا الحاضر – يا أصدقائي- أهم ما تمحور حوله فكر الإنسان ؛فحيث يوجد الألم يجب أن يوجد دائما العقاب " هذه العبارة تربط الانتقام – دفعة واحدة- بكل عمل تأملي انجزمن طرف الإنسان الى يومنا هذا . التأمل الذي يقصده نيتشه لا يعني مجرد أي رد فعل ؛ ولبكن هذا الفكر حيث توجد ,نابضة,’ علاقة الإنسان بما هو كائن , بالوجود. وفي حفاظ الإنسان على علاقته بالكون , يستحضره بكينونته وما هيته , وكيفيته الآنية والمستقبلية, وما يجب أن يكون عليه .و باختصار يستحضر الكون في علاقته بذاته , وهذا الاستحضار هو الفكر. بناء على عبارة نيتشه ,فان هذا الاستحضار ظل ,الى يومنا هذا , خاضعا لتأثير الرغبة في الانتقام , والناس حريصون على الإبقاء على علاقتهم - المحددة بهذا التأثير – بالموجودات, على هذه الصورة. ومهما تكن الكيفية التي يستحضر بها الإنسان الكون ,بهذا الشكل, فانه يستحضره من حيث وجوده . وباقتصاره على هذا الجانب ,فانه يتجاوز دائما الكون ويعبر الى الوجود. ,ولهذا فكل علاقة الإنسان بالكون- UETX "ماوراء" يعبر عنها في الإغريقية ب:AU-DE LA بهذا الشكل- هي في حد ذاتها علاقة ميتافيزيقية. حينما ينظر نيتشه الى الانتقام كروح تعطي لعلاقة الإنسان بالكون نغميتها /نبضها ,وحتمياتها ,فانه يفكر , في نفس الوقت,في الانتقام ميتافيزيقيا. الانتقام المقصود هنا ليس مجرد موضوع أخلاقي ,ولا تتحمل التربية الخلقية مسؤولية التخلص منه ؛كما أن علاقة الانتقام و التعطش اليه –كموضوعين- بعلم النفس ضعيفة ؛فنيتشه ينظر الى الكائن والحمولة الانتقامية ميتافيزيقيا .ولكن – قبل كل شيء- ماذا يعني الانتقام ؟ اذا تمسكنا اولا –مع سعة النظر الضرورية- بمعنى الكلمة ( في الألمانية) نستطيع العثور على التوضيح: تعني" الانتقام" RACHE تعني " انتقم"RACHEN تعني: جابه, دفع, اقتاد أمامه ,لاحق,اقتفى أثره .بأي معنى نفهم اقتفاء الانتقام للأثر ؟URGERE انه لا يطمح فقط الى اللحاق و القبض والأسر ؛ ولا يسعى أبدا الى مجرد إصابة ما يقتفي أثره . هذه المطاردة التي يعنيها الانتقام تعترض , مسبقا, على ما تنتقم منه. انها تعترض عليه بكيفية تنتقص منه,لتتموضع – في رفعة- قبالته؛ وهكذا تعلي من أهميتها , بالنظر اليها على أنها الوحيدة المعتبرة ؛فالتعطش الى الانتقام يثيره الإحساس بالهزيمة والغبن . خلال السنوات التي ألف فيها نيتشه كتابه "هكذا تكلم زرادوشت" سجل هذه الملاحظة: " سأطلب من كل الشهداء ان يسألوا أنفسهم اذا لم يكن التعطش الى الانتقام هو الذي دفع بهم الى الحد الأقصى" ماذا يعني هذا الكلام؟ يتبع

المصدر: MARTIN HEIDEGGER ESSAIS ET CONFERENCES GALLIMARD :1988 P :116-145
  • Currently 30/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
10 تصويتات / 1021 مشاهدة
نشرت فى 6 إبريل 2011 بواسطة ramdane3

ساحة النقاش

عدد زيارات الموقع

20,377