فصل فيما ذكره الشافعي رحمه الله في التحريض على تعلم أحكام القرآن .
( أخبرنا ) أبو عبد الله محمد بن عبد الله الحافظ رحمه الله أنا أبو العباس محمد بن يعقوب أنا الربيع بن سليمان ؛ أخبرنا الشافعي رحمه الله في ذكر نعمة الله علينا برسوله صلى الله عليه وسلم بما أنزل عليه من كتابه ، فقال : ( وإنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنـزيل من حكيم حميد ) ، فنقلهم به من الكفر والعمى إلى الضياء والهدى وبين فيه ما أحل لنا بالتوسعة على خلقه وما حرم لما هو أعلم به [ من ] حضهم على الكف عنه في الآخرة والأولى ، وابتلى طاعتهم بأن تعبدهم بقول وعمل ، وإمساك عن محارم وحماهموها ، وأثابهم على طاعته من الخلود في جنته والنجاة من نقمته ما عظمت به نعمته جل ثناؤه ، وأعلمهم ما أوجب على أهل معصيته من خلاف ما أوجب لأهل طاعته ووعظهم بالإخبار عمن كان قبلهم ممن كان أكثر منهم أموالا وأولادا وأطول أعمارا ، وأحمد آثارا ، فاستمتعوا بخلاقهم في حياة دنياهم ، فأذاقهم عند نزول قضائه مناياهم دون آمالهم ونزلت بهم عقوبته عند انقضاء آجالهم ؛ ليعتبروا في آنف الأوان ، " - ص 21 -" ويتفهموا بجلية التبيان ، وينتبهوا قبل رين الغفلة ويعملوا قبل انقطاع المدة ، حين لا يعتب مذنب ، ولا تؤخذ فدية و ( تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا ) .
وكان مما أنزل في كتابه ( جل ثناؤه ) رحمة وحجة ؛ علمه من علمه وجهله من جهله . قال : والناس في العلم طبقات ، موقعهم من العلم بقدر درجاتهم في العلم به ، فحق على طلبة العلم بلوغ غاية جهدهم في الاستكثار من علمه والصبر على كل عارض دون طلبه وإخلاص النية لله في استدراك علمه نصا واستنباطا والرغبة إلى الله في العون عليه ، فإنه لا يدرك خير إلا بعونه ، فإن من أدرك علم أحكام الله في كتابه نصا واستدلالا ، ووفقه الله للقول والعمل لما علم منه فاز بالفضيلة في دينه ودنياه وانتفت عنه الريب ونورت في قلبه الحكمة ، واستوجب في الدين موضع الإمامة .
فنسأل الله المبتدئ لنا بنعمه قبل استحقاقها ، المديم بها علينا مع تقصيرنا في الإتيان على ما أوجب من شكره لها ، الجاعلنا في خير أمة أخرجت للناس أن يرزقنا فهما في كتابه ، ثم سنة نبيه صلى الله عليه وسلم وقولا وعملا يؤدي به عنا حقه ، ويوجب لنا نافلة مزيده .
فليست تنزل بأحد من أهل دين الله نازلة إلا وفي كتاب الله الدليل على سبل الهدى فيها . قال الله عز وجل : ( الر كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد ) وقال تعالى : ( ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للمسلمين ) وقال تعالى : ( وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون ) . " - ص 22 -"
قال الشافعي رحمه الله : ومن جماع كتاب الله عز وجل العلم بأن جميع كتاب الله إنما نزل بلسان العرب والمعرفة بناسخ كتاب الله ومنسوخه والفرض في تنزيله ، والأدب والإرشاد والإباحة والمعرفة بالوضع الذي وضع الله نبيه صلى الله عليه وسلم من الإبانة عنه فيما أحكم فرضه في كتابه وبينه على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم وما أراد بجميع ، فرائضه أأراد كل خلقه ، أم بعضهم دون بعض ؟ وما افترض على الناس من طاعته والانتهاء إلى أمره ، ثم معرفة ما ضرب فيها من الأمثال الدوال على طاعته ، المبينة لاجتناب معصيته ، وترك الغفلة عن الحظ والازدياد من نوافل الفضل . فالواجب على العالمين ألا يقولوا إلا من حيث علموا .
ثم ساق الكلام إلى أن قال : والقرآن يدل على أن ليس في كتاب الله شيء إلا بلسان العرب .
قال الله عز وجل : ( وإنه لتنـزيل رب العالمين نـزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين ) .
وقال الله عز وجل : ( وكذلك أنزلناه حكما عربيا ) . وقال تعالى : ( وكذلك أوحينا إليك قرآنا عربيا لتنذر أم القرى ومن حولها ) .
فأقام حجته بأن كتابه عربي ، ثم أكد ذلك بأن نفى عنه كل لسان غير لسان العرب ، في آيتين من كتابه ، فقال تبارك وتعالى : ( ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين ) وقال تعالى : ( ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لولا فصلت آياته أأعجمي وعربي ) .
" - ص 23 -" وقال : ولعل من قال إن في القرآن غير لسان العرب ذهب إلى أن شيئا من القرآن خاصا يجهله بعض العرب . ولسان العرب أوسع الألسنة مذهبا ، وأكثرها ألفاظا ، ولا يحيط بجميع علمه إنسان غير نبي . ولكنه لا يذهب منه شيء على عامة أهل العلم ، كالعلم بالسنة عند أهل الفقه لا نعلم رجلا جمعها ، فلم يذهب منها شيء عليه فإذا جمع علم عامة أهل العلم بها أتي على السنن .
والذي ينطق العجم بالشيء من لسان العرب ، فلا ينكر إذا كان اللفظ قيل تعلما ، أو نطق به موضوعا أن يوافق لسان العجم أو بعضه قليل من لسان العرب فبسط الكلام فيه .
ساحة النقاش