شكلت المرحلة العباسية الانعطاف الأكبر في توليف مختلف الثقافات وصهرها في البوتقة العربية الثقافية، وهو الأمر الذي أعطى الكتابة دورها المتميز في ترسيخ الإنجازات العلمية والأدبية، وإعادة إنتاجها من خلال نشوء فئة متميزة في الثقافة هي فئة الوراقين.
إن نشوء هذه الفئة، يعكس في آن واحد متطلبات الثقافة وإعادة إنتاجها، إذ أنه حدد بدوره قيمتها التاريخية والعلمية من جهة، وأهميتها الأدبية والروحية والجمالية، من جهة أخرى.
إن قيمتها التاريخية والعلمية، تقوم في حفظها الإنجازات الثقافية وإيصالها لنا، ليس فقط إبداعات الحضارة العربية - الإسلامية، وإنما أيضاً كتابات الفلسفة الإغريقية، والأدب الهندي والفارسي.
أمّا قيمتها الروحية والأدبية والجمالية، فتقوم في استلهامها البعد الحقيقي للثقافة العربية - الإسلامية، باعتبارها ثقافة كلمة، فكلمة «قرآن» لها علاقة بكلمة قراءة، و «الحديث» له علاقة بالكلام. واللاهوت الإسلامي ارتبط بمفهوم الكلمة «الكلام «، والأدب، سواء في الشعر أو النثر، تفنّن بصناعة الكلمة، وكذلك الرسم والنحت، وفن العمارة، مرتبط وثيق الارتباط بالكلمة العربية.
ومهنة «الوراقة» أوجدت الإحساس الفني عند الوراق، لا سيما في مسألة «الخط العربي» وتجويده، حيث صار مفهوم /حسن الخط / من الركائز الأساسية في عمل الوراق، الأمر الذي أفرز أنواعاً جديدة من الخطوط العربية، رافقت الوراقين في مهنتهم، ومن ثمّ برز نمط متخصص من الوراقين، استقل بفن الخط، وأصبح «الخط العربي» فناً قائماً بذاته، برز فيه أعلام مشهورون.
إضافة الى ذلك، إن مسألة «الاستقلال الفكري» هي من أهم عوامل وجود مهنة الوراقة، حيث أن أكثر الوراقين كانوا من رجال الفكر والفلسفة والأدب والدين واللغة، الأمر الذي فرض عليهم أن لا يكونوا تحت «بطانة» أحد، لذلك مالوا إلى ابتداع هذه المهنة، لحفظ كرامتهم، من ناحية، وعدم الاعتماد في المعاش على مؤسسة حكومية، إضافة إلى نشر أفكارهم بعيداً من أيّ تأثير أيديولوجي، من أي طرف كان.
كل ذلك يكشف عمّا للكتابة والخط من أثر هائل في فهم الثقافة العربية - الإسلامية، ومن هنا، فإن دراسة تاريخ الخط العربي وتاريخ الوراقين أنفسهم، باعتبارهم الفئة الحاملة للمخزون الثقافي، يمتلك ليس قيمة عالمية مجردة، بل وعملية أيضاً، انطلاقاً من أن اللغة والكتابة هما كيانات حية. وعلى هذا الأساس، كان التفاعل الثقافي - عند الوراقين - ومهنتهم، يأخذ طابعاً تفاعلياً، بين الحِرفية والإبداع، من جهة وبين الوعي والثقافي والمسؤولية الشخصية، من جهة أخرى.
ومن هنا، تنبع أهمية العمل، هذا الذي قمنا برصده وجمع مادته وتحليله، وتوثيق مصادره، مدة زادت على 22 سنة، من البحث والتنقيب، والمتابعة والتقصي، وتحقيق الخبر في مظانّه و مراجعه، وليست المسألة مجرد نزهة، كما يتصور البعض، بل هي - مسؤولية الكلمة - التي نقولها، أو ننقلها، على اعتبار، أن تاريخ الكلمة، هو تاريخ ثقافي، يحدد مسؤولية كل شعب من الشعوب، وهو في الوقت نفسه، الأمانة التاريخية في وعي الباحث، لتتبع مسار الكلمة الصحيحة، عبر كل المطبات والمنعطفات، في كل مرحلة. وعلى أساس من هذه الأمانة التاريخية. كان مشوارنا في هذا البحث، والذي أخذ كل هذا الوقت، إذ أن ظاهرة الوراقة والوراقين في الحضارة العربية - الإسلامية، هي واحدة من أبرز المعالم في المدنية والتحضّر التي أفرزها العصر العباسي، وبدورها هي، أفرزت تلك الفنون المتعددة، وأنبجست عن خواص ثقافية أخرى، دلت عليها بالشاهدة والمكان، والأثر والعين، منها - المكتبات - وفن الزخرفة، والترجمة، وغير ذلك من أمور إبداعات الثقافة للكلمة المكتوبة. ثم أن موضوع الدراسة الموسوعية هذه، يحمل بعنوانه «الوراقة والوراقون في الحضارة العربية - الإسلامية» هو محاولة أولى وجادة في البحث الدقيق حول إيجاد دراسة متكاملة لبدء نشوء صناعة الكتابة في الحضارة العربية – الإسلامية.
وتهدف الدراسة الموسوعية إلى تسليط الضوء على ظاهرة الوراقة والوراقين في الحضارة العربية الإسلامية، أو ما يعرف اليوم، على الصعيد المهني بـ «دور النشر» والدور التاريخي الذي اضطلعوا به، باعتبارهم صانعي أسس الثقافة العربية - الإسلامية، على الصعيد المهني والثقافي والإنساني، وفي الوقت نفسه الإشارة إلى المراكز الحضارية الإسلامية التي تبرعمت بها هذه الظاهرة الثقافية، بدءاً من بغداد كعاصمة للخلافة العباسية، ومروراً بدمشق والقاهرة وأشبيلية وبلاد فارس وبقية أطراف الخلافة الإسلامية، الممتدة بين حدود الصين شرقاً وأقاصي الأطلسي غرباً، مارّة بتأثيراتها في كل الإثنيات والأعراق والثقافات المتواجدة في تلك الأماكن الجغرافية، لذلك هذه الدراسة - الموسوعية - تنطلق من بغداد إلى أن تصل إلى تلك البقاع أو الأمصار الإسلامية المذكورة، لتؤشر في شكل إيجابي على النهوض الحضاري، في تلك الأماكن، رافدة كل ثقافات تلك البلدان «الأمصار الإسلامية» بمنهج معرفي يعلّمهم أسلوب «صناعة الكتابة والكتاب» وفق شرائط مهنية وإبداعية يظهر فيها التأثير الإسلامي واضحاً، من الناحيتين العقائدية والحضارية، وفي الوقت نفسه يبين دور الإنسان المبدع في عملية الخلق الثقافي، في شروط زمنية واجتماعية محددة، على رغم اختلاف ظرفي الزمان والمكان، من بلد الى آخر، ومن شخص الى سواه، ولكن يبقى القلق المعرفي هو الخيط الرابط بين كل هؤلاء الوراقين، مبدعي هذا العمل الحضاري، المؤثر والفاعل في ثقافة العرب والمسلمين في العصر الوسيط، وامتداد تلك المؤثرات في آننا الحالي، وحتى هذه اللحظة.
ومن أجل بلورة الغاية والهدف، وضعنا المهمات التالية نصب أعيننا، بغية إضفاء الصدق والشرعية التاريخية على العمل:
1 - تحليل ماهيّة العمق الحضاري - السومري - البابلي، وامتداداته التاريخية في الوعي والصيرورة الاجتماعية على مناطق العراق وشبه الجزيرة العربية، وبلاد الشام، وكيف بدأت تلك الحضارة الرافدية، بوضع الخطوات الأولى لصناعة الكتاب والكتابة، كمؤشر حضاري لإنسان البيئة تلك، وأهمية وجود الإبداع في عقله، في المسألة الثقافية، كي يوصل حضارته إلينا، مشفوعة بتراث هائل من المكتبات والرقيمات في مختلف العلوم الإنسانية، وليعطي في الوقت ذاته المعنى الجوهري للإنسان، باعتباره سيد الخليقة، وعقله المميز على سائر المخلوقات، وعليه إثبات تلك الميزة، من خلال عمله الإنساني في كل مرحلة من مراحل التاريخ.
2 - تحليل ماهية الوراقة والوراقين، وأثرهم في تطوير صناعة الكتاب وتطور فنون الخط العربي والتجليد والتذهيب، وبروز فن الزخرفة «الأرابسك « كمرافق لفن الخط والتزويق في بناء العمارة، ضمن الطراز الإسلامي العام، وضمن خصوصّيته المحلية (خاص ) في هذه البيئة أو تلك.
3 - تقديم صورة جامعة عن الوراقين وأخلاقهم ومعاناتهم، وسلوكهم الاجتماعي والسياسي في تلك الفترة الزمنية، من عمر الخلافة الإسلامية في عصرها الذهبي - العصر العباسي.
4 - دراسة الكيفية التي منهجوا على ضوئها صناعة الكتاب العربي، وتأثير الوعي الديني - الإسلامي - في أخلاقية العمل الإبداعي.
5 - الكشف عن دور وأهمية « سوق الوراقين «في هذا البلد أو ذاك، انطلاقاً من سوق الوراقين ببغداد، وموقع هذا السوق في الحياة الثقافية العامة.
6 - البرهنة على ثقافة الوراقين الواسعة، وحسهم المعرفي العالي، وكيفية بنائهم الفكري، ودورهم في رفع الوعي الثقافي لدى جمهور الناس، ومن مختلف المشارب والملل.
7 - إثبات الدور الحضاري لمهنة الوراقة، في الثقافة العربية - الإسلامية، كإبداع أفرزه الوسط الاجتماعي، الحامل الثقافة.
8 - إيجاد الدليل والبرهان القاطع على سعة الثقافة العربية، وتلاقحها مع بقية الثقافات العالمية / هندية، فارسية، يونانية / وذلك من خلال «توريق وترجمة» كتب تلك الثقافات إلى الثقافة العربية - الإسلامية.
المرحلة المتناولة في الدراسة
يؤرخ موضوع الدراسة الموسوعية إلى فترة ظهور مدينة بغداد كعاصمة للخلافة العباسية سنة 145 هـ/757 م، إلى سنة سقوطها على يد المغول - التتار سنة 656 هـ/ 1258 م، كمفصل رئيس وأساس، إلا أن مديات البحث امتدت إلى نهايات القرن 8 هـ/ 14 م، حيث ظهرت هناك - في بعض الأمصار الإسلامية، الأندلس - مصر - فارس، استمراراً للتعاطي مع مهنة الوراقة، على رغم سقوط الدولة العباسية، وبداية النكوص الحضاري للثقافة العربية - الإسلامية.
وهذه الفترة – لا سيما الأولى منها - شهدت أوج الازدهار الحضاري، على يد الخلفاء الأكفاء من بني العباس، من أمثال (أبو جعفر المنصور 138 - 158 هـ / 750 - 790 م)، وهو باني مدينة بغداد، و (هارون الرشيد 170 - 193 هـ / 782 - 805 م) ثم ابنه (عبدالله المأمون 198 - 218 هـ / 810 م - 830 م)، وهؤلاء الخلفاء، كانوا ميالين للثقافة والعلوم، الأمر الذي أعطى دافعاً قوياً لتطور مختلف العلوم والفنون، إذ تطورت الوراقة وصناعة الورق في بغداد ودمشق والقاهرة المعزية - أيام الفاطميين – لا سيما الخليفة المشهور (المعز لدين الله الفاطمي) وكذلك تجاوبت الأندلس الأموية، مع هذا الإيقاع المتصاعد، حتى غدت إشبيلية المنافس الأول لبغداد في الوراقة والتوريق، حيث لعب الخلاف السياسي بين الدولتين - الأموية والعباسية - دوراً أساساً في تطوير صناعة الكتاب، وثقافة الكلمة، إذ كانت إشبيلية تستقطب كل وافد إليها من أهل المشرق، لا سيما أصحاب الإبداع في الفن والكتابة.
إن موضوعاً حضارياً - ثقافياً، كموضوع « الوراقة» أو صناعة الكتاب، هو موضوع عالمي، يخص كل شعب من الشعوب أو أمّة من الأمم، وهو في الوقت نفسه، موضوع يخص الحضارات العالمية المختلفة.
والمتتبع للحضارات القديمة، كالسومرية والبابلية والأكادية والفرعونية، والإغريقية والصينية، يتلمس تلك الكتابات، التي كانت تكتب على الطين والرُقُم، أو أوراق البردى والخشب، وعلى الصخور، والرقوق ولحاء الأشجار، وغيرها، بغية حفظ تراث تلك الحضارات، وهو ما وصل إلينا عبر الدراسات الآركيولوجية.
وتعد الحضارة الفرعونية / الألف الرابع قبل الميلاد / أقدم الحضارات التي اكتشفت ورق الكتابة من قصب البردي، والتي لا تزال آثارها قائمة حتى اليوم في مصر، وتجدر الإشارة هنا، إلى أن الفينيقيين / الألف الثالث قبل الميلاد / والذين سكنوا الساحل الشرقي للبحر المتوسط، قد توصلوا إلى إيجاد «أول أبجدية» للغتهم، ونشروها في كل بلدان حوض المتوسط، وحفظوها بسجلاتهم، وأودعوها في مدينتهم الخالدة « قرطاجة».
وعندما انبثق الإسلام من الجزيرة العربية، كانت مؤثرات بيزنطة وبلاد فارس، واضحة على تلك المنطقة العربية، ناهيك عن وجود الديانات السماوية فيها من «يهودية ومسيحية» وهذه المسألة تفرض على العرب والمسلمين تحدٍ حضاري وعقائدي، يفرض وجوده بين تلك الثقافات، باعتباره ديناً جديداً، خاطب العرب بلغتهم، فقد كان «القرآن «كتاب العرب والمسلمين الأول، لذلك ارتبطت به اللغة العربية أيّما ارتباط، بحيث أصبح هذا الترابط، يشكل وحدة عضوية متكاملة لا تعرف الانفصال ولا التجزؤ، لذلك انصب اهتمام المسلمين الأوائل على جمع القرآن وتدوينه، وشكلت عظام الجمال وأوراق سعف النخيل وجلود الحيوانات والرقوق، المواد الأساسية الأولى للتدوين.
عندما أمر الخليفة الراشدي الثالث عثمان بن عفان / 23 - 31 هـ / 648 - 655 م / بأن يجمع القرآن من صدور الرجال «الحفاظ « وأوكل تلك المهمة الجليلة والخطيرة إلى (زيد بن ثابت) وهو صحابي، من الرعيل الأول للمسلمين، وأول كاتب للوحي عند الرسول محمد (صلى الله عليه وسلّم) وبذا يكون هذا الصحابي هو أول وراق في الإسلام، يقوم بهذه المهمة، حيث قام بوضع منهج خاص لوراقة القرآن، اعتمدت الأمانة العلمية مبدأً أساسياً، ثم الوضوح في الخط، والتوقف عند الفواصل الواجب التوقف عندها، ولذلك سار كل من جاء بعده على نفس المنوال، من الصحابة المسلمين، الذين تفرغوا لنسخ المصاحف القرآنية.
وعندما تطور المجتمع العربي - الإسلامي، إبان الخلافة العباسية، أصبح من الضروري فهم الفلسفة اليونانية الوافدة على المجتمع العربي - الإسلامي، الأمر الذي أبرز الحاجة إلى وجود تراجمة يحولون اللغة اليونانية إلى اللغة العربية، وما رافق ذلك من تطور ثقافي، فرض وجود الوراقين، لنسخ الكتب المترجمة، وإيجاد المتخصصين بذلك الفن. ويعد ابن النديم، وهو من أشهر الوراقين في العصر العباسي، أول من صنف كتاباً يتطرق لسيرة هؤلاء العلماء والأدباء والفلاسفة والمترجمين والوراقين، بكتابه الهام «الفهرست» وهذا الكتاب - الفهرست - يعد أول التفاتة ذكية في وضع المعاجم لتراجم الرجال في الثقافة العربية - الإسلامية، ثم جاء بعده ورّاقاً ثانياً اسمه «ياقوت الحموي « ليضع موسوعة أكبر وأضخم من «الفهرست» لحياة هؤلاء العلماء أسمها «معجم الأدباء» أو «إرشاد الأريب لمعرفة الأديب» وهذه الموسوعة تقع في عشرين مجلداً، ضمنها الكثير من تراجم الوراقين.
وعلى الصعيد المهني لحرفة الوراقة، كممارسة وإنتاج للإبداع، تصدى الفقيه ( الشيخ عبد الباسط بن موسى بن محمد العلموي/ توفى سنة 981 هـ / 1593م ) لموضوعة منهجية الوراقة، ضمن الرؤية الإسلامية، وذلك في كتابه المعروف بـ «المعيد في أدب المفيد والمستفيد» وتحديداً في الباب السادس من الكتاب،
وظلت هذه المقالة من أقدم وأبرز ما كتب في الموضوع الوراقي، في الثقافة العربية - الإسلامية. ثم جاءت مقالة الباحث (حبيب زيّات)، والتي حملت عنوان «الوراقة والوراقون في الإسلام» والمنشورة في مجلة «المشرق» البيروتية، الصادرة عام 1947، وهي واحدة من أمتع الدراسات في هذا الموضوع، إلاّ أنها قصيرة لا تتجاوز 16 صفحة، إذ كانت بمثابة عرض مقتضب لبعض سيرة حياة الوراقين المعروفين، وبعض ما يعانونه في مهنة الوراقة.
ساحة النقاش