أميرات الخط العربي

رحاب وشيماء عبدالله

 اسكن مدينة باريس منذ عام 1969 ، واعرض أعمالي الفـنـيـة المـسـتوحاة من الخط العربي بعدة  مدن أوروبية ، وللحديث عن كـيفـية تـطـبـيق الخط الـعـربي في الفـنون المـعـاصرة أرى من الأفضل أن أتكلم عن تجربـتـي الشـخصية فـقـط ، لأني فنان تشــكـيـلي ولسـت ناقدا ، ويـصعـب علي الـتكلم بشكل عام عن هذا الموضوع ، وكما يقول المثـل الياباني : ( الخط هو الإنسان نـفسه ) أي إن كل خطاط له تجربة مميزة تعكس مســيرة حياته الـفـنـيـة .

      منذ طفولتي كنت محاطا دائما بالخطوط العربية مكبرة على جدران المعالم المعمارية في مدينة النجف بالعراق ...على جدران المساجد والمقابر والمدارس الدينية والمكتبات .

     اكتــشــافي للخط يعود أيضا إلى خالي الذي كان خطيبا وكاتبا وخطاطا هاويا ، رايته يخط بقلم القصب وبالحبر الأسود وعمري خمس سنوات .

     في العاشـرة من عمري كنت اعمل خطوطاً جذبت انـتـباه المعلم في المدرسة الابتدائية ونلت  تـشـجيعه ، كما ساهمت بمـعارض الرسم والخط لكل سنوات الدراسة الابتدائية والمتوسطة  .  ومن جهة اخرى عملت بعض اللوحات الإعلانية لمحلات تجارية في مدينة النجف .

     في عام 1961 وعند إكمالي المتوسطة رحلت من النجف الى بغداد وعملت مع بعض الخطاطين  هناك ، فتعلمت بعض أساليب الخط وتقـنياتة ، ولكني بقيت في عمل تجاري يسـتجـيب لمطالب الدعاية والإعلان  ، بينما تـنبض في داخلي احساسات عميقة بالرغبة في التعبير الفني ، ويراودني باستمرار حلم الذهاب إلى باريس لدراسة الفن .

   

     بعد ثمانية أعوام من العمل كخطاط في بغداد سنحت لي الفرصة للذهاب إلى باريس عام 1969 فدخلت المدرسة العليا للفنون الجميلة ( البوزار ) واثناء دراستي كنت أريد معرفة الفن الغربي منذ أصوله الاغريقية مرورا بفنون عصر النهضة الاوربي في القرن السادس عشر حتى القرن العشرين حيث تنوعت وتعددت الحركات الفنية الحديثة .

وفي ( البوزار ) درست أيضا الـتقـنيات الأسـاسـية للعـمل التـشـكيلي  في التصوير الزيتي وتحضير الألوان ،  ا ضافة  لدراسات جانـبـــية كالمنـظور الهندسي  ،  والمعمار  ،  والموزاييك  ،               والفريسك  ...  الخ  .

 

      عندما تركت العراق كنت قد جلبت معي بعض أقلام القصب للخط ، أعانـتـني  على دفع مصاريف الدراسة بعمل بعض الخطوط العربية لصحيفة جزائرية تصدر في باريس .

 

      دراسـتي في ( البوزار ) استـمرت خمس سنوات ، في عام 1975 حصلت على الدبلوم الوطني  العالي للفنون الـتـشـكيلية ، ولكن في ذلك الوقت بدأت اشعر انني اتجه نحو طريق مغلق وأحســسـت بضرورة إيجاد طريق شخصي ، فاتجهت أولا نحو التأثر بفـنانـين أعطوا أهمية للتعبـير في رسومهم بخطوط قليلة ، حركات تبسط الشكل في اقل كمية  من الخطوط  ، ثم بدأت انظر للفن التجريدي واهتم به محاولا إدراك ُكنهُ ، وفي هذه اللحظات بدا الخط   العربي يدخل لوحاتي ، فشعرت بالسعادة لهذا الاقتراب من الخط ، ولكن الخط هنا كان مجرد مادة تزويقية  اذ مازلت استعمل المادة الزيتية وقماش اللوحة         واللذين لايتجاوبان مع الحس الداخلي العميق ،  فأدركت ان المادة التي ُتستخدم في انجاز العمل الفني هي شي مهم جدا .

 

      بعد العمل لمدة ثماني سنوات كخطاط في بغداد ثم خمس سنوات لدراسة الفن التـشـكيلي في باريس . كنت اشعر في عام 1975 باني لست خطاطا بالمعنى المتعارف عليه تقليديا  ولست فنانا تشــكــيلياً بمستوى الدبلوم العالي الذي منحتني اياه ( البوزار ) .  فالخط الذي كنت أمارسه في بغداد لم يعد يقـنعني والتصوير الزيتي الذي علمتـني اياه ( البوزار ) كذلك ...

     مالعمل اذاً ؟      والى أين الذهاب ؟      تذكرت آنذاك مثلا ً افريقيا ً يقول :    ( عندما لاتعرف أين تذهب تذكر من أين أتيت ) .  فبدأت ادرس الخط العربي من جديد . ماهو الخط العربي ؟ ومن أين ياتي  ؟  كيف عاش الألف سنة الأخيرة  ؟

      خلال ست سنوات أقدمت على تحليل كل الوثائق التي استطعت دراستها في الكتب وفي المتاحف، أو على جدران المعالم المعمارية . ثم ذهبت اطرق أبواب اخر كبار الخطاطين  ، كالخطاط حامد الامدي  في اسطنبول  ومجموعة من خطاطي القاهرة  ، طارحا عليهم الأسئلة  حول ما لم اتمكن من إدراكه  .

ثم إن الثـقافة التاريخية والمعرفة الـتـشـكيلية التي حصلت عليها في ( البوزار)  أعطتـني  منظاراً آخر لرؤية الخط العربي القديم ، فبدأت أتحسس الفروق الرهيفة في هذا الفن ، وملخص نتيجة هذه السنوات الست صدرت في كتاب اسمه ( الخط العربي ) ظهر بباريس عام 1981 يتـناول لمحات عن الجوانب التـقـنـية  والتـشـكيلية والاجتماعية  باللغـتـين العربية والفرنسية ، مع صور وخطوط متعددة .

 

      وفي هذه الفترة  ، أي في بداية الثمانــيــنات ،  تركت الزيت والقماش ورجعت إلى الحبر والورق ، بدافع رغبة داخلية غامضة . ولكني الان اشعر بان الحبر والورق هي مواد الكــثـيـر من الفنون     الشرقـية  ،   بينما الزيت والقـماش رافـقا مسيرة الفـن الغـربي  منذ قرون عديدة  .  وحتما إن المادة تلعب هنا دورا  نفـسـيا ، فالماء الملون ليس كالدهن الملون ، والورق الذي يمتص جزءاً من الحبر ليس كالقماش المغطى بمادة صمغـية تمنع امتصاص الألوان .

      وفي هذه الفترة أيضا قررت ان اعمل تكوينات تجريدية أساسها الحرف العربي ولكن دون أي معنى غير شكل الحروف ... اكـتـشـفـت بعد فـترة قصيرة  إن هذا الطريق لايناســبـني ، لأني أضع اشكالا ً تـتـشـابه باسـتـمرار أي إنني أضع دائماً التساؤلات نفسها والأجوبة نفسها من الناحية التــشــكيلية بـيـنما إن الكلمات  يمكن ان تفرض  بمعناها اشكالاً لم أفكر بها مسبقا . مثلا ً إن النار من طبيعتها الصعود إلى الأعلى ، فخط هذه الكلمة يوحي بتكوين عمودي بيـنما  خط كلمة ماء سيأتي بشكل أفقي .

وهنا جاءت الحاجة إلى نصوص لخطها ...أي عبارات سأخطها ؟  ...فضرورة التحطيم للعبارة وإعادة بنائها تـتـطلب أن أجد نصوصا أدبية  يمكنها تحمل هذه المعاناة  .  وهكذا فرض الشعر العربي دوره ،  كمادة أدبية لعملي الفني .

      أولا ، لان الشعراء سوف يزيدونني ثراءً بصورهم وأفكارهم وأحاسيسهم  ... وثانياً ، لان الشعر يعطي للتعـبـير الـتـشـكيلي الحرية في كسر الكلمات من جهة وإعادة بنائها من جهة اخرى ...

فالشعراء هم أيضا  يلعبون بالكلمات  .

وهكذا فان توجهي نحو الشعر فرض علي تأمل المنظر الشعري العربي منذ الأفق البعيد الذي يتــيه  في   

لانهائيات الفضاء الصحراوي ، أي منذ زمن المعلقات .   

ففي الوقت الذي عبر فيه العرب القدماء بواسطة الشعر كان الخط في طفولته ، لكنما الكتابة الشعرية آنذاك كانت تخفي بداخلها ما سوف يكون عليه الخط العربي فيما بعد . لا نهما كليهما يفخمان الشكل ويحجبان المعنى .

      الشعراء العرب القدماء الذين الذين كانوا يعيشون في الصحراء تركوا  لنا  أشعارا  تشعرنا بالفضاء الواسع  ،  فالزمن والفضاء الصحراوي كانا  لانهائيين ، وكان كل إنسان هناك يشعر بأنه  مركز دائرة واسعة يرسمها  الأفق ، فالمسافة نحو كل الأفاق في الصحراء متساوية إزاء عيون الإنسان  ،  والإنسان يكون وسط دائرة فسيحة جداً يحاور الضوء في النهار والنجوم في الليل .

الشعر العربي ماقبل الاسلام كان في أكثره إنشادا ، وقد صاغه الشعراء كالحلي ، أو كتكوين خطي     ماهر ، وجعلوه يعكس هذا الفضاء الصحراوي ، بأسلوب رزين وكلام بسيط .

هنالك شئ مهم في الشعر يقترب من الخط ، فالشاعر لايبوح بكل الكلمات ولا يعطي كل المعاني ، إنما يترك لذكاء السامع إكمال الصور الشعرية وإعطاء معنى قد يختلف عما أراده الشاعرفيسمح له بان يلبي رغباته الذاتية ، وبالتعـبـيرعن احساساته وأفكاره الشخصية . فتـمتـزج كلمات الشاعر بافكارواحساسات السامع .

     وهذه الإمكانية المعطاة للقارئ ما بين الكلمات ، لكي يخلق صورهُ هو أيضاً ، لها أهميتها الكبرى للإنسان ، لان العقل البشري بحاجة لتحرير صورُه وأفكارُه وإخراجها كل  يوم ، وهكذا إن الشعر يكون هنا ككل الأعمال الفنية ، يعطي للإنسان امكانات إخراج فيض العواطف من القلب ، وبالشعور بأنه هو نفسه شاعر ، عند سماع أو قراءة الشعر .

الخط يشارك الشعر جوهريا في هذه القدرات التعبـيرية . ولما كانت كل الفنون أخوة ، وكل فن يضئ الطريق للاخر فان اقـتراب الخط من الشعر يزيد من قدرات التعبـير التــشــكيلي للخط .

 

     اتجه دائما نحو الشعراء ، آ ملا ً  ان يغذوا عملي التــشــكيلي بصورهم الشـعرية ، وهكذا تمكنت باستمرار ان أجد أجواء جديدة ، فاني ابحث عن الإيحاءات ككل فنان ، ورغبتي أن تلتقي صوري الخطية بصور الشعراء لكي يولد طريق جديد ، أريد أن أضع صورا مرئية بجانب صورهم الافتراضية .

     واني متأكد هنا من صحة استعمالي كلمة ( صور )  عند التكلم عن الخط ، فبالنســــبة لي الكتابة هي بنت الصورة  ، فالكتابة السومرية والمصرية القديمة لم تكن إلا صور مبسطة  ،  والحروف الأبجدية  فيما بعد كانت كذلك ، والخط ماهو إلا جوهر صور ، ولكن أي نوع من الصور ؟ إنها صور أصلية وليست صوراً طبيعية أو فوتوغرافية ، صور كالعلامات تنـشـط نظر وتفكير المشاهد .

 

                                   *                    *                      *

 

مابين عام 1972 وعام 1985 شاركت مع الممثـل الفرنسي كي جاكه والموسيقي فوزي العائدي بإقامة حفلات في قاعات مليئة بالحضور . كان الممثـل يقرا الشعر باللغة العربية  واللغة الفرنسية ، والموسيقي يعزف ويغني المقاطع الشعرية نفسها  ،  وأنا أخطها على جهاز يعكس الخطوط على شاشة كبيرة  كالسينما ، وقد لاقى هذا العمل نجاحا ً فرض علينا الإبداع  والابتكار المتواصل .

     من خلال الاحساسات المكثـفة داخل الصالات وجدت نفسي اقترب في خطوطي من الموسيقا تارة ، وتارة اخرى من نص الشعر ،  فأصبحت خطوطي ملتقى لأكثر من فن  لو أضفنا صوت الممـثـل وقدراته التعـبـيــرية .  فكنت أسرع أحيانا للحاق بزملائي ، مما جعلني اكسر العهد الذي فرضته علي مهنة الخط بالبطئ في الإنجاز ، ولكني كنت واعيا بضرورة عدم التضحية بجماليات الخط  العربي ، فالاسراع نعم  ، ولكن بشرط الحفاض على هذه الجماليات .

      في الخط أمام الجمهور وتحت تأثير مشاعر مختلفة وتحت رقابة عيون مئات الأشخاص في القاعة تبرز صعوبات جديدة كل مرة ، فالضوء المسلط علينا لكي يرانا الجمهور في صالة مظلمة يكون للعيون  كالنظر با تجاه  نور قرص الشمس المحرقة ، وهنالك المفاجئات الغير منتظرة  فكل ماهو مفاجئ في العمل الفني الحي أمام الجمهور تتطلب مواجهته طاقات واسعة يبحث عنها الذهن والجسم هنا وهناك لحظة الخط . ومقابل هذا الكفاح تأتي لحظات حاسمة يولد فيها مالم يكن منتظراً ، إذ تتداخل الفنون فيما بينها بما هو أساسي وجوهري .

وبعد هذه التجربة التي امتدت اثـني عشر عاما ً قدمنا خلالها العشرات من الحفلات الثـقافـية ، وجدت ان معالجات جديدة للحرف أخذت تظهر في خطوطي على الورق ، ففي هذه الحفلات كان الشعر يتكلم عن الألم ويدعوا للأمل  .  فتخللت خطوطي حالات متنوعة المظاهر كفصول السنة ، حيث إن الشتاء الحزين يختفي ازاء الربيع الزاهر . وهكذا كنت اعكس في خطوطي الشحنات الدراماتيكية لهذا العمل الفني .  فان كان الشعر يعكس الألم استعمل آلات عريضة تغلق الفضاء وتـثـقـل التكوين ، وان تحشرج صوت الممثل تبطئ يدي في هدوء وقور ، ولكنه إذ يغضب ويثور تتبعه اليد في حركات هوجاء . كنت أحاول أن أزج الخط العربي القديم   نحو تعبير خطي جديد يوازي التعبير المسرحي للممثـل والموسيقي .

      وفي كل اسبوع كنت اعتزل وحيدا ً بمرسمي لبضعة ايام ،  لأعمل خطوطا على الورق ، فلاحظت تدريجيا مدى التأثر والتبادل مع ما اعمله على خشبة المسرح  ، فتركتُ هذه التأثيرات تأخذ مكانها في أعمالي الخطية على الورق ، وتدريجيا ً أخذت الحروف العريضة والحركات الراقصة تكون تشكيلاتي الخطية  ، خطوط  حديثة ولكن  تجاورها دائماً بعض السطور من الخط الكوفي القديم لعدم التنكر لأول خط عربي يقترب من الرسم ... والخط الكوفي في لوحاتي الخطية يكون  كخط أفق تحت الكتلة الخطية الموضوعة كتـمثال كبـير في الصحراء .

      خطوطي الحديـثة تبـدي بوضوح انتماءها للخط العربي لأنها نابعة من كل ماتعلمته اثناء عملي  مع الخطاطين  لكنها بنفس الوقت  لا تشـابه الخط العربي المعروف ، فبعد أكثر من ثلاثين عاما من الاغتراب لايمكن أن يبقى الإنسان كما هو سابقا ، فالخط ماهو إلا مرآة  تعكس حياة الخطاط نفسه .

      لو نمعن النظر جيداً في كل الخطوط القديمة فإننا سنرى انه في كل قرن شهد الخط العربي تحولات  وابتكارات ، وفي كل منطقة جغرافية سافر اليها الخط العربي ظهرت عليه ملامح تحولات لم تكن متوقعة  وعلى سبيل المثال  فهل يقبل خطاطوا الكوفي القديم ما عمله الطابوق بما يسمى الخط الكوفي الهندسي ؟

      لا اريد هنا القول إن على كل الخطاطين أن يتركوا أساليبهم التقليدية  نحو خط حديث ، فنحن بحاجة لان يمتلك الخط العربي  تيارات متعددة ، وغالبا ما ارجع للنظر والتمتع بما تركه لنا خطاطون كبار كالاماسي والحافظ عثمان وراقم وهاشم . واثمن واقدر كذلك محاولات جديدة داخل نطاق الخطوط الكلاسيكية لخطاطين معاصرين . أراها هنا وهناك في بعض البلدان العربية والإسلامية .

 

                                   *                   *                     *

 

     أعود ألان لأذكر على سبيل المثال بعض الشعراء الذين دخلوا في خطوطي بأشعارهم ، وعلى سبيل المثال اذكر منصور الحلاج من القرن العاشر ، حيث يبتكر في شعره وببضع كلمات تكويناً موسيقياً كديكور عالٍ مليء بالانفعالات ، اسلوبه الشعري لايشابه أي أسلوب اخر بقوة صوره الشعرية وتكويـناتها المتـناظرة ، أبياته الشعرية المدهشة تطرب الإذن كما يقول مثلا ً :

 

روحه روحي وروحي روحه      إن يشـــــا شـــئت وان شــــئت يشــــا

 

كلماته المتــقــابلة كالمرآة  ألهمت الكثــير من الخطاطين في الماضي وفتحت أسلوبا بالخط ، كما نرى في اللوحات الكثــيرة  التي تزين الجامع الكبير في مدينة بورصة بتركيا .

      ولكن هذا الهدوء في التـناظريخفي انفعالات واندفاعات آتية من الداخل مما يميل بخطورة الخط الشاعري كالقارب المتماوج وسط العاصفة :

 

مازلت أطفو في بحار الهوى      يـــرفــعــني الموج وانـــحـط

فــتارة ً يرفعـــني موجـــهـــا      وتـــارة  أهوى  وا نــغـــط

 

إن صورة شعرية كهذه لايمكن خطها دون التأثر بعواطف قائلها ولا يمكن للخطاط أن يتجاهل الانفعالات للشاعر، ففي عبارة كهذه تكون أحاسيس القلب طريقا ً للمعرفة ، ولاسيما إن هذا الشعر واضح ويتميز بالبساطة الموسيقية . ويقـترب شعر كهذا من الخط عبر التنغيم الموسيقي والهندسية للشكل العام ، كما انها كلمات ـ مسموعة كانت أو مكتوبة ـ تخفي أسرارا تجعل كل واحد يفسرها حسب وعيه لها . وهكذا فان هذه الأبيات دخلت عالم الفن بسبب كونها تسمح بتفسيرات متعددة .

 

     مثال آخر لشاعر آخر عملت له خطوطا أيضا وهو ابن زيدون ـ القرن الحادي عشر ـ ترك لنا ديوانا ً

كبيراً يتناول قسم منه حياته السياسية ، لكنما الجانب الخالد من أشعاره ماهوموجه للأديبة ولادة وحبه لها . فقد كتب لها أشعارا ًطيلة حياته تعتبر اليوم من الأبيات التي تمتاز بالقدرات الجمالية العالية  في بناء الشعر العربي .

فإزاء الم الفراق يوجه ابن زيدون كل أحاسيسه نحو الابتكار الفني ، فان يرى غيوما تمر في السـماء يكلمها :

 

ياساري البرق غاد القصر واسق به        من كان صرف الهوى والود يسقينا

 

     ان هذه الصورة الشعرية عند ابن زيدون إنما انبعثت من أحاسيس القلب مباشرة ، لشاعر هضم التراث الأدبي العربي القديم ... وكل صور ابن زيدون ملونة وديناميكية ، فبمجرد ان يمر النسيم يكلفه ابن زيدون بنقل رسالته إلى ولادة :

 

ويانسيم الصبا بلغ تحيـتـنا        من لو على البعد حيا كان يحيينا

 

وأمام الآلام القلب يجد الشاعر مايؤاسيه في الخلق الفني ، بكلمات عفوية بسيطة ، إذ يرى ولادة عبر كل مظاهر الطبيعة .

     وهكذا ، إنني دائماً أرى منظرا طبيعيا عند قراءتي لأبيات ابن زيدون فأشاركه الأفراح والأحزان والأمل . وتدخل هذه الرؤى خطوطي فيما بين الحروف ومعنى الكلمات .

 

                             *                     *                      *

 

      كيف يتحول بيت من الشعر إلى لوحة خطية ؟

      كيف تتحول الكلمات إلى تكوين خطي ؟  بالنسبة للخطاط في الماضي إن أراد ان يخط بيتا من الشعريختار اسلوبا ً كالـثـلث أو الديواني أو الفارسي ...الخ ، ويحاول إتقان الخط بشكل يوحي باحترام القواعد المعترف بها من الكل ، وان ما يضيفه الخطاط من عنده ، إنما هو إعطاء الخط حيوية وقوة أكثر مما يستطيع من جهة  ،  ومن جهة أخرى يحاول ابتكار اشكال جديدة للتشكيلة الخطية ، بإيحاءات طرق كبار الخطاطين القدماء .

بالنسبة لي استخدم الخط بطريقة أخرى ، وتغلب على خطوطي تأثيرات المناظر والصور . ابتدئ دائما بتخيل الصورة الشعرية وانتظر ان تفرض احدى الكلمات نفسها لكي أكبرها وأعطيها مظهرا جديدا ً ، احسب عدد الحروف المستقيمة ثم الحروف المنحنية لكي أكون بناء متناغما من خلالها ، فأبقى أتصور أشكالا مختلفة لهذه الكلمة ، أفكر بها بكل الأساليب التي اعرفها ، فاعمل بقلم الرصاص تخطيطا سريعا للشكل الجديد ،  أغير أشكال بعض الحروف التي لاتريد المشاركة بالشكل العام ، أو أبدل مكانها في الكلمة ...وكمثال يمكن رفع حرف الالف من أول الكلمة إلى الأعلى ليساهم في بناء سقف التكوين الجديد ، ولا أنسى في هذه اللحظات الصورة الافتراضية للشاعر ،  وأخمن بالحدس ما أراد قوله خلف الكلمات .

      في البداية دائما ماتكون الصورة غير واضحة  ،  بعض السطور تظهر أسرع من الأخرى ،  أحيانا ً في أول يوم وأحيانا لشهور ، وهذا البطء يعني إنني لم استطع حل لغز البيت الشعري ولابد من الاصرار على الاستمرار في البحث .

     الحروف عندي ليست مجرد كتابة إنما هي عمل فني بحد ذاتها ، والحرف  هو نفسه طاقة ، ولابد ان يعكس شـيـئـيـن ، الأول هو القوة والدقة والثاني هو الاسترخاء والرهافة  ،  فيجب ان يعكس الحرف مسيرته هو نفسه ، الدفع مرة والسحب مرة اخرى ،  السرعة أو البطء ، الثقل أو الخفة ، الاستقرار أو الانفجار .

      إن عملية ولادة خطوط جديدة هي معاناة أيضا ً ،  إذ لابد من المروربحالة التمرد على الخط القديم  والانفصام عنه ، ومن ثم العودة للحوار مع هذا الخط القديم نفسه  ،  ففي يوم اشعر باني مع الخط القديم وفي يوم اخر أجدني بموقع مضاد له .  أدرك جيدا ً ضرورة الاستلهام من تركة الخطاطين القدماء  ، ولكن في الوقت نفسه أريد التغلغل عميقا في الحياة المحيطة بنا ، ومعرفة موقعنا في العالم  ، ودورنا الثقافي نحو مجتمعنا ونحو البشرية جمعاء ، وهنا تبرز كلمة رهيبة للفيلسوف الصيني كونفسيوس  : إن من لايتقدم كل يوم ، إنما يتراجع كل يوم .

 

                                         *                    *                    *

     إن معرفة تحضير المواد لمهنة الخط ضرورة لابد منها  ، فالخطاط القديم كان يحضر أقلامه وحبره . مثلا ً إن قلم القصب يبقى رفيعا ً بالنسبة لحجوم لوحاتي ، وأردت أن اعمل آلات تخط مباشرة بالعرض المطلوب .  فقد شاهدت في عام 1979 أكثر من مائة خطاط ياباني جاؤوا إلى باريس للخط أمام الجمهور في جامعة السوربون  ،  بقوا اسبوعا كاملا ً شاهدت خلاله كل هولاء الخطاطين يضعون أوراقهم الكبيرة على الأرض ،  وبفرشاتهم  ا لعريضة كالمكنسـة الكبيرة  ،  يرقصون بحركاتهم الخطية كالبرق السريع على الورق ... ومنذ تلك الســـنــين  اعمل خطوطا ً عريضة بشكل مباشر ، محا ولا ً الاسراع  قدر الامكان  وابتكر الالة للخط  بالعرض المطلوب  . فالخط العربي التــقـــليدي  يخط بالقصبة  ، بينما    كل  الخطوط العريضة التي عُملت على الجدران كانت ُترسم وُتملا  بفرش دقيقة  .

 واعرض آلة ٌ عملتها انا  لحد الان كانت بعرض 50 سنتمتر والخط المباشر على الارض  كان على ورقة بقياس 3 أمتار × 5 أمتار .

      إن مشــاهداتي للخطاطــين الـــيابــانيـــين أثمرت بعد سنوات .  وهكذا إن تقـنيات الخط الياباني أضافت جديدا ً لتـقـنيات الخط العربي  .  ثم إن ماعملته لايمت شكليا ً بأي صلة للخط الياباني  ،  إنما هو خط عربي حديث .

      أكثر خطوطي اعملها بالات  مصنوعة من الكارتون  السميك أو الفرش ، الات ٌ تشابه منقار القصبة الخطية المعروف سابقاً ُمكبرا عشرات المرات . اغمسها بالألوان واسحبها ضاغطا ًعلى الورق ، دائما ً ابتغي المحافظة على مظهر للحروف يوحي للمشاهد بان هذه الحروف آتية من الخط العربي  .  وذلك عبر الانحناءات للالة على الورق ... بعض الحروف تشبه تماما ً الحروف القديمة وأخرى تغيرت بسبب الظرف الجديد ، احاول ان ابقي على اشكال الحروف من حيث الثخن والرفع حسب قوانين الخط العربي القديم  ، كما اعي ضرورة الابقاء على كل ما هو جوهري في الخط العربي ، أحاول ذلك قدر الامكان وأود ان يبقى هذا  مرئيا ً في خطوطي ، فالهدف بالنسبة لي هو إضافة تطوير وتـجديد في الحروف العربية  كما حصل باستمرار في تاريخ الخط العربي  بالماضي  ، وكذلك اريد فتح مجالات جديدة للخط  تتلائم مع حياتنا المعاصرة  كادخال الخط في العمل المسرحي  مثلا ً. أريد أن تكون خطوطي نابعة من الخط العربي القديم ولكن لاتشابهه .

       اهتم كذلك بفضاء الخط العربي ، أي البياض المحيط بالشكل . أرى التكوين الخطي كشجرة وحيدة في فضاء الصحراء حولها وخلفها الفراغ لاحدود له .

      هنالك أشياء كثيرة آتية من الخط العربي القديم تبقى تفرض جمالياتها ، كالأناقة  التي صاحبته منذ البداية  ، وغلبة الاستدارات في أكثر أساليبه واتصال الحروف ببعضها ، فيكون للكلمة مظهر جسم  مكتمل ، والمقادير السليمة التي درست منذ قرون عديدة  ، أي نسبة الطول للعرض ... والخ  ، كل هذا الحساب يتم من قبل الخطاط نفســه بتخمين وحدس شخصي و يرتبط بذوقه وثقافته  .

     في الخط الحديث يمكن ان نستـفـيد من كل هذه التركة الثرية وان نضيف لها كل ما تعطينا الحياة المعاصرة من معلومات وثـقافة جديدة  واكتـشافات بمجال الفضاء ، اهتم بالفضاء في كل خط اعمله وارى اشكالي الخطية كتماثيل عالية في السماء تقاوم ضغط الفضاء وتكافح ضد سحب الجاذبية الأرضية .

       استلهم من الطبيعة اشكالها ، فكم من  مرة أرى منظر شجرة مائلة يثير في الحزن لأنها توحي بالسقوط بينما تتجول عيوني نحو شجرة أخرى منتصرة في الصعود ، يدفع النسغ أغصانها نحو الأعلى ، وعندما ارجع لمرسمي أحاول إن أجد مظهر تلك الشجرة الزاهية ، فاعمل الحروف كالأغصان ، فالخط هو فن يعكس ماهو جوهري ، وليس ما هو منظور طبيعيا ً ، وصعوبة عملي الخطي انه يحاور اللامرئي دائما ً، أي إنني أريد إن اسـتلهم من الاشكال ما هو خلف المظاهر كالهياكل ... مثلا ً هيكل دار هو القوة في الأعمدة وليس الشكل الكامل للدار .

      عندما أريد الخط وتتراءى في ذهني الاشكال واضحة ، أجد إن ولادتها على الورق شئ آخر ، وعلى الرغم من كل التحضيرات لولادة سهلة  .

فربما ان المادة الصمغـية لاتـتعايـش مع مادة البودر الملون ، أو الا لة تكون يابسة وتجهض عملية الخط .

      أحيانا أخرى على العكس ، فبعد نهار كامل من العمل المتعب تأتي لحظات استرخاء ، حيث تكون الحركات لا أبالية وغير مطيعة فتعطي شكلا ً مدهشا ً ،  تكون بالنسبة لي مفاجأة ًغير متوقعة ، إذ أجد خطوطا ً تـتمتع بحرية واسعة ، حركات طائرة دون خطر السقوط ، خطوط عريضة جدا ً ولكنها ليست ثـقيلة ، رهيفة ولكنها لاتـنكسر ، وكلها بقياسات صحيحة وسليمة .

      وفي اليوم التالي أتحضر للاستمرار في نفس ما عملته بالأمس ،  واعتـقد باني وجدت اسلوبا ً حرا ً رائعا ً ، ولكن هيهات ، إذ لابد من العودة إلى البداية من جديد ، ولاياتي شيء يشابه الاندفاع الحر  بالأمس ، فان الجمال يأتي ويذهب عندما يقرر هو ولست أنا .

     وهكذا أعود للبداية من جديد ، اعمل تخطيطات للكلمات ، أتخيل الشعر وصوره ، ابحث عن الكلمة التي يمكنها ان تصعد عاليا ً بثـقلها دون السقوط ، وبحركة ديناميكية دون كسر للشكل ، ادع اللون يخترق اشكال ا لحروف ، وعبر هذه الحروف الصاعدة أتحسس الفضاء البعيد خلف الكلمة الكبيرة .

  كلمة مبسطة ولكن هذا التبسـيط ليس تـفـقـيرا ً لها ، كلمة مجردة ولكنها توحي بصورة  ما ... وتبقى دائما ً في عملي الفني إمكانية العثور على الحروف وتهجي الكلمة .

     اشعر وأدرك باستمرار ان طاقاتي الـتـعبـيـرية تـتـأثـر  بالمجموعة  البشــرية التي انتمي إليها  ، وأدرك أيضا إمكانية الـتـأثـير عليها بعملي الفني .

      الهدف أيضا ً من الخط كل يوم في بناء اشكال متيـــنة إنما هو بــبـناء نفسي من جديد كل يوم ، وكل بحث اقوم به للإتقان ، فإن ما أريده ايضا ً هو ان أكون أنا نفسي متـقـنا ً . لذلك لابد ان يكون الهيكل الهندسي واقفا ً بتعادل ولا يوحي بالسقوط ، وان لا احقق التعادل في خط الكلمة العالية فمعنى ذلك الفشل ، ولابد من إعادة الخط من جديد ، ولكن هذا يوضح لي حدود امكاناتي كشخص ، وان لااصل هذا اليوم إلى التعادل فمعنى ذلك فقدان التعادل في داخلي أنا أيضا ً...ولابد ان انتبه الى نفسي ، وهكذا تكون تجربة الخط هنا معرفة للذات ، وربما ستكون تطورا ً ، ان انهض بعد السقوط للعودة للخط من جديد ...

     التناقضات التشــكـيلية هي انعكاسات لتـناقـضات الحياة اولتناقضات نعيشها ... كل هذه التجارب إنما هي الرغبة في التطور ، ولايوجد تطور دون سقوط  ( فالسقوط ليس فشلا ، انما الفشل ان يبقى الانسان حيث سقط  ) كما يقول سقراط  .

     الخط يسمح بالسيطرة على طاقات الجسم وقيادتها نحو الحركات المضبوطة ، فعندما تكون الكلمات خفـيفة يطير معها ، وأحيانا ً يصبح الخطاط سيد نفسه ولو للحظات قصيرة .

     ولكن في كل عودة جديدة للخط لابد من التـفكير بتغيـيرالاتجاه ، فربما سيكون من الأفضل اختيار البطء بدل السرعة ، ولكن السرعة تبقى دائما ً من اهتماماتي الآنية ، إذ أنها تعكس الزمن المعاصر ، وبالتالي تسمح بقطف فاكهة الاندفاع الداخلي ... تسمح للاحساسات بالمرور بسرعة امام الفكر وعدم الرضوخ لطغيانه باستمرار .

      كما في الموسيقى المعاصرة او الرقص الحديث ، عندما انظر إلى الراقص يطير في الفضاء اشعر وكأنه يترك جسمه يخط الكلمات في الفضاء ... ولكن كيف يمكن الطيران بحرية دون السقوط ؟  ...

كيف تعمل الطيور ؟ ... لابد من طاقات كبيرة للتغلب على الجاذبية والسماح للاحساسات الجسـدية بان تخط بسرعة فائقة ، أريد لخطوطي إن تعكس انتماءها للقرن الواحد والعشرين ، هذا القرن الذي يعيش عصر السرعة ... سرعة أوصلت الإنسان إلى القمر .

المصدر: منتدي الفنان العراقي
princesslines

shaymaandrehababdallah

  • Currently 90/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
26 تصويتات / 797 مشاهدة
نشرت فى 27 فبراير 2010 بواسطة princesslines

ساحة النقاش

عدد زيارات الموقع

1,454,716