نقاشات من ذلك الزمان:
حين صدوره، اثار كتاب "الاسلام واصول الحكم" صدمة كبرى. لم يكن وصول مؤلفه الى المحاكمة سوى نقطة صغيرة من العواصف الهائلة من النقاش التي اثارها الكتاب.
كتب، حينها، الشيخ محمد شاكر، الوكيل سابقاً في الأزهر، مقالا وصف فيه عبد الرازق بانه يحبذ ان تقوم في مصر "جمهورية لادينية". وانعقدت "هيئة كبار العلماء" في الازهر "محاكمة" الشيخ علي عبد الرازق. ورصدت سبع تهم ضده، شملت جعله الشريعة الاسلامية شريعة روحية محضة لاعلاقة لها بالحكم والتنفيذ في امور الدنيا، وان الدين لا يمنع ان بعض جهاد النبي (صلعم) كان في سبيل الملك لا الدين، وان نظام الحكم ايام النبي (صلعم) كان موضوع غموض وموجباً للحيرة، وان مهمة الرسول كانت بلاغاً للشريعة مجرداً من الحكم والتنفيذ، وانه انكر اجماع الصحابة على وجوب تنصيب امام للأمة، وانكاره ان للقضاء وظيفة شرعية، وقوله ان حكومة ابي بكر والخلفاء الراشدين من بعده كانت لادينية (اي انها كانت سياسية). وفي 12 اغسطس 1925، اجمعت الهيئة (التي تألفت من 24 عالماً ازهرياً) بإخراج الشيخ عبد الرازق من زمرة العلماء.
دافع عن عبد الرازق مفكرون ليبراليون، مثل الدكتور محمد حسين هيكل وسلامة موسى، اضافة الى جمع من الكتاب في مجلات "المقتطف" و"الهلال" و"كوكب الشرق" (الناطقة بلسان حزب الوفد) و"السياسة" ( الناطقة بلسان حزب الاحرار الدستوريين- الذي انتمى اليه عبد الرازق نفسه) في مصر، و"الصواب" التونسية. وارتكز دفاع الكثيرين، وخصوصاً جريدة "السياسة"، على استعادة نصوص للامام محمد عبده. ففي كتابه "الاسلام والنصرانية مع العلم والمدنية"، رأى عبده ان الحاكم الذي تنصبه الامة (الخليفة) يمثل "حاكماً مدنيا من جميع الوجوه...ولا يجوز ان يخلط الخليفة عند المسلمين بما يسميه الافرنج "ثيو كراتيك" Theocratic ، أي السلطان الالهي...ليس في الاسلام سلطة دينية سوى سلطة الموعظة الحسنة والدعوة الى الخير والتنفير عن الشر...وليس يجب على المسلم ان يأخذ عقيدته او يتلقى اصول ما يعمل به عن احد، الا كتاب لله وسنة رسوله...ولكل مسلم ان يفهم عن لله من كتاب الله، وعن رسوله من كتاب رسوله، بدون توسيط احد من سلف او خلف...فان لم تسمح حاله بالوصول (الى ذلك) فعليه ان يسال العارفين بها...وان يطالب المجيب بالدليل...فليس في الاسلام ما يسمى عند قوم بالسلطة الدينية بوجه من الوجوه...ومعلوم ان الشرع لم يجئ ببيان كيفية مخصوصة لمناصحة الحكام ولا طريقة معروفة للشورى...وكان النبي (صلعم) يحب موافقة اهل الكتاب في ما لم يؤمر فيه...(لذا) ندب لنا ان نوافق في كيفية الشورى ومناصحة اولياء الامر، الامم التي اخذت هذا الواجب عنا وانشأت له نظاماً مخصوصاً...".
ويصعب استعادة النقاش الثري الذي اثاره الكتاب حينها. ويمكن القول انه لم يصل لا الى تكفير عبد الرازق ولا تخوينه. دار نقاش اسلامي وليبرالي، على صفحات جرائد ومجلات، يطال اشد امور الدين والسياسة حساسية، من دون سفك دم, ومن دون عنف رمزي، بحسب تعبير الاناس الفرنسي الراحل بيار بورديو، كذلك الذي تحمله كلمات التكفير والخروج عن الدين والمروق والالحاد والتبعية للغرب والعمالة وغيرها، مما بات شأناً شائعاً في ما بعد. كانت تلك المرحلة التي يشار اليها بالليبرالية الاولى في العالم العربي. والحال انها حدثت في ظل تسلط الاحتلال الغربي. ومثل ذلك الاحتلال، وسبل الخلاص منه، بعداً اخر في نفاشات ذلك الزمان. ويؤدي الامر الى رسم صورة معقدة وثرية عن الحياة الثقافية والسياسية في تلك الازمنة، اضافة الى الالتباسات المتعددة التي تتضمنها. وفي المقابل، نسمع من يقول بخفة، بعد كل ما مر بالامة من تجارب، ان الليبرالية فشلت، وكأن الامر يتعلق بجولة انتخابية, وليس بامر ثقافي عميق. من المهم، وربما المؤلم، القول ان كل حقب الاستقلال العربي لم تشهد نقاشات مماثلة، مما يعيدنا مجدداً الى مسالة مصادرة السلطات القمعية في النظام العربي لفعالية المجتمع، بما في ذلك الثقافة والسياسة.
وبالعودة الى احد التعقيدات المهمة في نقاشات ذلك الزمان، يمكن ملاحظة ان بريطانيا لم تكن ببعيدة عن معركة الخلافة، فقد نشرت الاهرام حينها، مقالاً عن جريدة "التايمز" البريطانية رات فيه تأييداً بريطانياً لفكرة عودة الخلافة. وظل امر الموقف الانجليزي من الخلافة حينها، موضع تجاذب سياسي، اساسه احتلال انجلترا لمصر وخوضها في اقتسام تركة الرجل المريض (الخلافة العثمانية) عبر اتفاقية سايكس-بيكو. وثمة مفارقة ملفتة. اذ يدور راهناً نقاش عن حقيقة الموقف الاميركي من الحركات الاسلامية، خصوصاً في العالم العربي. واذا كان واضحاً ان المحافظين الجدد يشنون حرباً على الاصولية الاسلامية المسلحة (نموذج القاعدة)، فان مشروع الشرق الاوسط الكبير يتضمن "نفض اليد" الاميركية من دعم الانظمة العربية القائمة، بما فيها تلك التي ترفع شعارات علمانية. ونضمنت الحرب الاميركية على العراق، اسقاطاً لنظام "علماني"، وليس ذلك للقول بان علمانية النظام على الطريقة العربية الراهنة في "الجملكيات" العربية تمثل هدف تلك الحرب. وتنتقد الاوساط المقربة من واشنطن، بما فيها تقارير التنمية وتجمعات الهيئات المدنية غير الحكومية، تلك الانظمة. هل تقبل واشنطن، او انها قد لا تعارض، ان يتسلم السلطة في الاقطار العربية تنظيمات اسلامية "معتدلة"؟ الاعتدال المقصود يظهر بالمقارنة مع نهج القاعدة وماشابهها. والمفارقة، انه بعد قرن من النقاش عن "الالتباس" البريطاني حول الخلافة، الذي قد لا يكون سوى افتراضاً محضاً، يثور "التباس" مشابه عن الموقف الاميركي من وصول تنظيمات مثل الاخوان المسلمين الى السلطة. ليست صدفة ان تقرير وكالة الاستخبارات المركزية الاميركية "سي اي ايه" يتضمن فصلاً عن...الخلافة.
وعندما استعاد المفكر الاسلامي محمد عمارة الكتاب، وضم نصه ونصوص المحاكمة وغيرها من النقاشات في كتاب صدر في العام 2000، وصفه بعبارة :" منذ عرفت الطباعة طريقها الى بلادنا، لم يحدث ان اخرجت المطبعة كتاباً اثار من الضجة واللغط والمعارك والصراعات، مثلما اثارها هذا الكتاب". ولاحظ عمارة ان صدور الكتاب تزامن مع انشاء "المؤتمر الاسلامي العام للخلافة"، الذي اصدر مجلة "الخلافة الاسلامية" كي تدعو لمبايعة ملك مسلم بالخلافة. وحينها، لم يكن فؤاد الاول، ملك مصر، يخفي طمعه في ان ينال لقب الخلافة.
لقد استعمل الملك فؤاد قضية الخلافة وحلمها، في تبرير استئثاره بالسلطة، على عكس مما نص عليه دستور سنة 1923، وخصوصاً صدامه مع حزب الوفد وزعيمه سعد باشا زغلول. ففي شباط من ذلك العام 1925، فاز الوفد بالأغلبية الساحقة في اول مجلس نواب منتخب في مصر، فحله الملك فؤاد في اليوم التالي من انتخابه.
والحال ان محمد عمارة، بعد ثلاثة ارباع القرن من الكتاب، جعل من سعي الملك المصري للخلافة سبباً لسعي عبد الرازق لنفي فكرة الخلافة. وفي المقابل، فان جموعاً من المفكرين الاسلاميين لم تتردد في وصف مؤلف الكتاب بالعمالة للغرب. ولعل اولها كتاب (نقض كتاب الاسلام واصول الحكم) الذي وضعه الشيخ محمد الخضر حسين. ولعل اقربها، كتاب ضياء الدين الريس "الاسلام والخلافة في العصر الحديث: نقد كتاب الاسلام واصول الحكم". وبلغ من سخط الريس المتأخر على عبد الرازق انه نسب الكتاب باكمله الى عمل مستشرق بريطاني! وليس التخوين، وخصوصاً العمالة للغرب، من التهم غير الرائجة في دنيا العرب!
من المثير ملاحظة ان كتاب الريس صدر في القاهرة في العام 1972، في مطلع فترة حكم الرئيس محمد انور السادات، الذي مال لاطلاق العنان للاسلام السياسي، وخصوصاً الاخوان المسلمين، لاسباب شتى. والمفارقة، ان السادات توصل الى صفقة سيكون لها اثرا زلزالياً، ربما لم يكن في حسابات الرئيس الراحل. فقد تضمنت الصفقة مع الاخوان المسلمين عودتهم الى عالم السياسة عبر مجلة "الدعوة"، وبالعمل ضمن صفوف حزب العمل. وكذلك عادت لمصر قيادات اسلامية (مثل الشيخ محمد الشعراوي) سبق ان ابعدها الرئيس جمال عبد الناصر، خصوصاً الى السعودية. وكذلك تضمنت الصفقة عينها ان يحتوي الدستور المصري نصاً يجعل من الاسلام مصدراً اساسياً له، الامر الذي اخل بمفهوم المواطنة في الدولة التي يفترض تساوي رعاياها دستورياً، مما سيلعب دوره لاحقاً في اثارة شعور عدم المساواة لدى الاقباط. في مصر السادات، انتشرت كاسيتات الشيخ شعراوي وعبد الحميد كشك، لتعيد صياغة تفاصيل الحياة اليومية بما يتفق مع "الفتوى". وتكاثرت مظاهر التدين الاسلامي، يدعمها تدفق العمالة المصرية باتجاه الخليج العربي. وعادت الكتب الاسلامية بانواعها الى الصدارة. وتدوالت الايدي، مثلاً، كتب المفكر المصري سيد قطب (الذي اعدمه عبد الناصر في العام 1964)، خصوصاً كتابة "معالم على الطريق"، الذي تضمن تنظيراً اسلامياً لمفهوم "الحاكمية" (ان الحكم لله، وهي فكرة تتفق مع مفهوم الخلافة، وتنفي ان يكون العقل البشري حداً لسلطان الله عليه) مقابل "جاهلية" المجتمعات المعاصرة، بما في ذلك الدعوة لترك كل ما هو غير اسلامي سواء كانت افكاراً (ليبرالية وشيوعية واشتراكية وحداثة ...الخ) او ديانات سماوية (مسيحية ويهودية). يعرف كل متتبع للحركات الاسلامية المسلحة الدور الذي لعبته مفاهيم الحاكمية (المتصلة بالخلافة) والجاهلية فيها.
لقد انتهى السادات صريعاً بايدي القوى التي اطلقها من عقالها. وردد كثير من المعتقلين في قضية اغتياله شعارات تتصل بفكرة الخلافة الدينية. وليست اشارة اسامة بن لادن، في خطب متفرقة في العام 2004، لسقوط الخلافة باعتباره اشارة الى زعزعة شأن المسلمين، ولا دأب حزب التحرير الاسلامي على التذكير بان سقوطها فتح بلاد المسلمين امام النفوذ الغربي، سوى امثلة عن المكانة التي تحتلها الخلافة وفكرتها في اذهان الكثير من المسلمين، عبر عصور مختلفة.
المصدر: مدونة أحمد مغربي / http://amoghrabi.blogspot.com/2005/04/blog-post_10.html
نشرت فى 28 مايو 2009
بواسطة orangeno
عدد زيارات الموقع
32,097
ساحة النقاش