العلاقة المباشرة مع النص الديني:
تمتع كتاب "أصول الحكم في الإسلام" بميزة الجرأة على التقليد في التفسير، بمعنى انه هجر التفاسير المتراكمة منذ القرن التاسع الميلادي، ومروراً بالقرون الوسطى. وارتكز في مقولاته الى علاقة مباشرة بين الكاتب والنص الديني للإسلام، الذي يكونه القرآن أساسا، إضافة الى الحديث النبوي. وطرح أسئلة من نوع "اين تجد في القرآن نصاً عن دولة او نظام حكم، على الرغم من احتوائه تفاصيل شؤون الدين"؟ و"في أي حديث دعى الرسول (صلعم) الى دولة إسلامية من بعده...لكنه قال "انتم اعلم بشؤون دنياكم" و"لو ان الدنيا تساوي عند الله اكثر من جناح بعوضة، لما نال الكافر منها شربة ماء"...الخ". وتتصف تلك الأسئلة كلها بصفة اتصال التفكير الزمني مباشرة مع النص الديني، وكذلك بهجر التفاسير السابقة من دون إعطائها صفة المرجعية، التي تنحصر برأيه في القرآن والحديث. وبدا في ذلك على صلة، مع تيار تجديدي مستنير في الإسلام، يتشكل افقه من اعمال الشيخ محمد عبده ورفاعة الطهطاوي وجمال الدين الأفغاني وسواهم. واستطراداً، لا بد من القول بان الجرأة على التقليد في التفسير، أي فتاوى السلف ونصوصهم، لم تكن سمة تيار التجديد المستنير وحده. فالمفارقة ان التجديد، بمعنى اقامة علاقة مباشرة مع النص الديني وهجر التفاسير التقليدية، يعتبر ايضاً ميزة التفسير "الثوري" الذي يقف في حده الاقصى من ناحية، تيار المعتزلة وفلاسفتهم. ويقف في الطرف النقيض، تيار "ثوري" يتسم بالتزمت الفائق، ذلك الذي ابتدأ مع ابن تيمية، واستمر وصولاً الى الحركات الدينية المعاصرة، مثلما يظهر في كتاب سيد قطب "معالم في الطريق", وفتاوى ابو الاعلى المودودي، وأيديولوجيات الحركات المسلحة مثل "القاعدة" و"التكفير والهجرة" و"جماعة الجهاد الاسلامي" و"الجماعة الاسلامية المسلحة" وغيرها.
وبالاختصار، يعبر كتاب "الإسلام وأصول الحكم"، حدود المسائل التي استثارت دوماً الفكر الإسلامي، لحد الآن، وخصوصاً الموقف من الدولة (بما في ذلك المرجع الصالح لتفسير الدين في دنيا المسلمين)، والموقف من التجربة البشرية، خصوصاً علاقة العقل البشري مع النص الديني، والعلاقة مع الامم الاخرى، بما في ذلك الحداثة ذات العلاقة المباشرة مع الغرب. والحال ان الموقف من النص الديني وما يحتويه من مقاصد، يتصل باقدم خلاف نشب بين المسلمين: الخلاف على تاريخية القرآن (قدمه او خلقه)، الذي فجر "الفتنة الكبرى" في القرن التاسع الميلادي، حين قالت المعتزلة بخلق القرآن، وتمسك ملوك بني امية بذلك لتبرير ملكهم السياسي دينياً. ويتصل بمسألة قدرة العقل البشري على التعامل مع النص الديني، النقاش حول السبل التي تكفل تجديد تلك العلاقة في كل مجتمع وزمان. وهكذا نرى في "اصول الحكم في الإسلام"، محاور: العقل والتفسير والدولة والنص والحداثة والغرب، وكلها امور تحكمت في الفكر الاسلامي على مر العصور.
ومن أسباب إثارة النقاش مجدداً عن كتاب عبد الرازق، إننا نعيش في لحظة لم يعد مستبعداً فيها احتمال وصول تنظيم ديني الى السلطة، اي الى إدارة الدولة الموروثة من الفكر الغربي وممارساته، في اكثر من بلد عربي، بما في ذلك ادراة العلاقة مع الغرب والحداثة والإرهاب ومفهوم المواطن وغيرها. ومثلاً، يتحدث بعض قادة "الإخوان المسلمين" في مصر، عن سعيهم الى دولة من المجتمع المدني، على ان تكون مرجعيتها الدين الاسلامي. هل انهم يقولون ذلك استناداً الى تبني فهم دستوري حداثي يرتكز الى المساواة بين المواطنين، بما في ذلك علاقة اديانهم (أي المواطنين) مع الدولة، ام انه مجرد كلام مخفف، يصل الى النتيجة نفسها، اي الدولة التي دستورها الاسلام، وهو تحوير طفيف للشعار المعروف "القرآن دستورنا"؟ هل يقبل إسلاميو الحاضر بان يقودوا دولة لادينية، يحكمها دستور بشري، يستند الى التجارب الإنسانية عموماً، ويتساوى فيه المواطنين في علاقتهم مع الدولة، وخصوصاً علاقة التشريع في الدولة مع اديان مواطنيها؟ اسئلة ربما كانت راهنة تماماً.
المصدر: مدونة أحمد مغربي / http://amoghrabi.blogspot.com/2005/04/blog-post_10.html
نشرت فى 28 مايو 2009
بواسطة orangeno
عدد زيارات الموقع
32,097
ساحة النقاش