" بسم الله الرحمن الرحيم"
ما هو الجمال ؟
" الجمال " هذا المفهوم النسبي الغريب المتباين، هو الذي حيّر الفلاسفة في وصفه و تقديره... و لعل أكثر الآراء إقناعاً، هي تلك التي قدمها الفيلسوف الإيطالي ـ كروتشي ـ في كتابه المثير " الجمال " لقد بدأ كروتشي دراسته بالتاريخ و الآداب، و انتهت به هذه الدراسة إلى الإقبال على الفلسفة .فكان طبيعياً أن تأخذ فلسفته لوناً يتّجه فيه إلى النقد و تذوق الجمال، وإننا لنجد في أعظم مؤلفاته و هو كتاب " الجمال " الذي نشره في العام 1902: تفضيلاً واضحاً للفن على الميتافيزيقيا والعلم، فقد مجدَّ الفن بقوله: " إن العلوم تقدم لنا الفائدة، لكن الفن يقدم لنا الجمال، إن العلوم تباعد بيننا و بين الفرد والحقيقة وتنقلنا إلى عالم حافل بالمجردات الرياضية، أما الفن فيتجه بنا مباشرةً إلى الشخص المُعيّن و الحقيقة الفريدة، إلى الكلي الفلسفي المعروف بالبداهة في صورة الفرد المعين".
و يقول كروتشي: " للمعرفة صورتان: فهي إما وجدانية أو منطقية، معرفة نحصل عليها عن طريق الخيال أو معرفة نحصل عليها عن طريق العقل، معرفة الفردي أو معرفة الكلي، معرفة الأشياء الفردية أو معرفة ما بينها من صلات، فهي إما أن تكون نتيجة الصور الفردية أو الأفكار الكلية".
و يضع " كروتشي " في مقدمته الجميلة، مفاهيم أساسية تحدد الفن و توضحه:" إن أصل الفن يكمن في القدرة على تكوين الصور الذهنية، و الفن يحكمه الخيال و ثروته الصور الذهنية فقط، والفن لا يبوب الأشياء و لا يحكم عليها بأنها حقيقية أو خيالية، و لا يصفها و لا يعرّفها، بل يحس بها ويصورها ليس إلا "
و بما أن الخيال يسبق الفكر، وهو شرطٌ ضروري له، كانت فعالية العقل الفنية، أي قدرته على تكوين الصور الذهنية، أسبق من فعاليته المنطقية، أي التي تكون الأفكار الكلية .
يقول " كروتشي " : " لا يكاد الإنسان يقوى على التخيل حتى يصبح فناناً قبل أن يبلغ المقدرة المنطقية بزمن ٍطويل"
و هذا ما أكد عليه أعلام الفن في العالم .إذ يقول " ميخائيل أنجلو :" إن الإنسان لا يرسم بيده بل برأسه "
ويقول " ليوناردو دافنشي:" إن عقول العباقرة أكثر نشاطاً و إبداعاً في أقل الأعمال الخارجية "
وكلنا نعرف القصة التي تروى عن " دافنشي " عندما كان يصور " العشاء الأخير "، فقد جلس أياماً أمام لوحته ساكناً بلا حركة، قبل أن يمس اللوحة، ممّا ضايق رجل الدين الذي كلفه بالعمل، و انتقم الفنان لنفسه من رجل الدين الذي كان يلح عليه بشدة لبدء العمل بأن اتخذ من وجه رجل الدين نموذجاً لصورة يهوذا .
يقول " كروتشي " : ليست معجزة الفن في إظهار الصورة و إخراجها، بل في تصور الفكرة و تخيلها لأن إخراج الصورة ليس إلا صياغة ً آلية وبراعة ً يدوية"
إن كل هذا، يساعدنا بلا شك للإجابة على السؤال المحير .. ما هو الجمال ؟!
يقول " كروتشي " في كتابه : " إن في الجمال آراء بقدر ما في العالم من رؤوس، وكل محبٍّ للجمال يعتبر نفسه حجّة ً في هذا الموضوع لا مرد لرأيه، والحقيقة أن الجمال هو التكوين العقلي للصورة الذهنية أو " لسلسلة من الصور " يبدو فيها جوهر الشيء المُدرَك، فالجمال يمتّ إلى الصورة الباطنية أكثر منه إلى الصورة الخارجية التي هي في الحقيقة تجسيدٌ للباطنية ".
و يتابع " كروتشي " فيقول : " إننا نميل إلى التفكير بأن الفرق بيننا و بين شكسبير هو الفرق في طريقة التعبير الخارجي فقط، و أن لدينا نفس الأفكار التي طافت بذهن شكسبير، و لكننا لا نجد الكلمات التي تعبر عنها. إن هذا وهمٌ باطل، فليس الفرق في قوة إخراج الصورة، بل في المقدرة على تكوين الصورة الباطنية التي تعبر عن الشيء".
و يفسر " كروتشي " الإحساس بالجمال فيقول : " إن الإحساس بالجمال تعبيرٌ باطني، فدرجة فهمنا أو تقديرنا للعمل الفني تعتمد على قدرتنا في أن نرى الحقيقة المصوّرة ببصائرنا مباشرة ً، أي قدرتنا على أن نكوّن لأنفسنا صورة ً ذهنية مُعبّرة، إننا نعبّر عن بصائرنا دائماً عندما نستمتع بالعمل الفني الجميل و أقول " بصائرنا و ليس بصرنا "، فبصيرتي أنا هي التي تكوّن الصورة الذهنية ل " هاملت " أو " عطيل " حين أقرأ " شكسبير ".
و ينتهي " كروتشي" ببوح سر الجمال :" إن سر الجمال هو في الصورة الذهنية المُعبّرة عنه سواء أكانت ناجمة ً عن الفنان المبدع أو المتفرج المتأمل، فالجمال تعبيرٌ سديد، و بما أنه لا وجود لتعبير ٍ حقيقي ما لم يكن سديداً فيمكننا الإجابة على السؤال المحير القديم ببساطة إذ نقول : " إن الجمال تعبير".
ساحة النقاش