نسمات مديحة حسن

شعر / خواطر / قصة قصيرة / وطنيات


امام المسجد الكبير في مدينة طولكرم ساحة واسعة , تتزاحم فيها الاقدام يوم الجمعة قبيل الصلاة , والرزق يطلب عند تزاحم الاقدام , لذلك تجدها تعج بالباعة المتجولين , وبخاصة النساء وان كانت لا تخلو من بعض الرجال , يصطفون على جدرانها بشكل منتظم , وكل منهم يعرض بضاعته من خضار وفواكه وطيور وارانب ومصنعات البيت الريفي , يأتون من المدينة او القرى المحيطة بها . 
في ركن من الساحة تجلس عجوز خط الزمان على صفحات وجهها الذي ما يزال يحتفظ بمسحة من جمال الاف الاخاديد , اشبه بما تفعله السيول المنحدرة من اعلى الجبال على سهل اخضر مصفر , كما احنت السنون ــ اقدرها بالثمانين ــ ظهرها , ولكنها لم تفتّ في عزيمتها , ففي ساعديها بقايا من قوة , تجعلها تحمل سلال الفجل الى الساحة , فاردة فرشا ترص عليه حزم الفجل بعناية ودقة فائقتين , تجعلك تشتهي الفجل حتى ولو كنت من زرّاعه , تجلس متربعة وتحت ركبتيها بقايا حذاء , تنادي بصوتها المتهدج الضعيف ( يلا يا فجل يلا يا فجل) . 
راقبتها من بعيد , وانتظرت حتى لم يبق في جعبتها غير حزمة واحدة , اقتربت منها واشتريتها , فقالت : الله يعوض عليك يا ابني , ارحتني الله يريح قلبك , واخذت تلملم اشياءها استعدادا للرحيل , قلت : هل اخدمك يا خالة بشيء ؟ وكان الاذان قد اقترب . قالت: شربة ماء من ثلاجة المسجد الله يسقيك من رحيق الجنة . ذهبت لإحضار الماء لكنني رجعت فلم اجدها , وقد غابت بين جموع القادمين للصلاة وبقايا اصحاب البسطات . 
عدت الى البيت عقب الصلاة وصورة العجوز لم تفارق مخيلتي , ماذا فعلت بها الايام , ما الذي يجبرها على تحمل المشاق للوصول الى السوق , هل لها ابناء , مثلها يجب ان تجلس في بيتها معززة مكرمة , صممت بحكم الفضول البشري ان اعرف كل شيء عنها مهما كلفني الثمن , حتى لو اضطررت ان اتبعها من بعيد , وانتظرت الجمعة القادمة على جمر .
يوم الجمعة وصلت الساحة مبكرا , وعيناي تطوفان في كل ركن من اركانها , حتى وقع بصري عليها , سعدت كثيرا لأنني وجدتها , وتألمت لأنها مازالت تحمل هذه الاعباء على عاتقها , اقتربت منها : يسعد صباحك يا خالة هل تتذكرينني ؟ اين ذهبت الجمعة الماضية ؟ احضرت لك الماء فلم اجدك . قالت : لقد حالت جموع المصلين بيننا ولم اشرب الا بعدما وصلت البيت . قلت وهل بيتك بعيد من هنا ؟ قالت لا يا بني انا اسكن في مخيم نور شمس . قلت على الفور : يا خالة أتقبلين ان اكون ضيفك ؟ احب ان اشرب كوب شاي بالنعناع من تحت يدك , فقد ذكرتني بأمي رحمها الله , قالت : انت مثل ابني اهلا وسهلا بك , قلت اذن انتظريني مكانك ريثما تنتهي الصلاة . 
ما ان انتهت الصلاة حتى خرجت مسرعا قبل اداء السنة , فأخذت بيدها وانطلقنا الى موقف سيارات المخيم , لا يبعد كثيرا عن الساحة , امام مكتبة الطبري مقابل مدرسة نور الدين زنكي الشهيرتين , ركبنا الباص وكان مخططا باللونين الاحمر والابيض كتب عليه بخط كبير ( نقليات ابو علي) , في رحلة تستغرق قرابة ربع ساعة بين تحميل وتنزيل . 
مخيم نور شمس ــ ايها السادة الكرام ـــ لمن لا يعرفه هو مخيم اقامته هيئة اغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين عام 1951 , بعد مرور ثلاث سنوات على نكبة فلسطين عام 1948. وذلك في أعقاب العاصفة الثلجية التي شهدتها البلاد حيث أطاحت بمخيم اللاجئين في سهل جنزور بالقرب من مدينة جنين . يقع المخيم على بعد ثلاث كيلومترات من مدينة طولكرم شرقا , على تلتين متقابلتين بفصل بينهما خط (طولكرم ــ نابلس) وواد صغير , ثم سكة حديد للقطار الذي كان يسير قبل الاحتلال بين المدن الفلسطينية , توقف بعدما تقطعت اوصال الوطن عام 1948 , وعند محطة سكة الحديد بقايا سجن نور شمس سيء السمعة , الذي اقامته سلطات الاستعمار البريطاني لسجن وتعذيب واعدام المجاهدين , حيث يحوي مجموعة من الزنازين الانفرادية , والمشانق التي علق عليها اعداد منهم , وقد سجن فيه شيخ المجاهدين فرحان السدي قبل فراره على يد مجموعة من المجاهدين , بجانبه بقايا مقلاع للحجر كان السجناء يجبرون على العمل فيه كأشغال شاقة (المؤقتة والمؤيدة ) , وقد شاهدت بقايا هذا السجن لكن السلطة الفلسطينية ازالت اثاره , وماتزال المنطقة تسمى المحجر . المخيم مكون من وحدات سكنة , كل وحدة غرفة كبيرة ومطبخ اماهما مسطبة بطولهما وعرض حوالي مترين على ما اذكر , على مساحة مائة متر فقط , ومن كانت عائلته كبيرة عليه بناء غرفة اخرى بإذن مدير المخيم , وموافقة وكالة الغوث بعد مكاتبات وروتين عانى منه اهل المخيم ما عانوا , اما الحمامات فكانت في بداية الامر عامة قسم مخصص للرجال واخر للنساء , ثم لا حقا سمح للناس انشائها في البيوت . 
وصلنا بيت العجوز ,غرفة متوسطة لكنها مرتبة , تشع من اركانها رائحة النظافة , فيها بعض الاثاث وادوات الطبخ , بجانبها حمام صغير وامامهما مسطبة , والمساحة المتبقية من الوحدة رتبتها وقسمتها احواضا زرعت فيها الفجل وبعض الخضار وشجرة زيتون . 
ما ان دخلنا الحجرة حتى بادرت ففردت حصيرا نظيفا , وفرشت فرشة من الصوف وبعض الوسائد , من يراها يعرف مهارة من صنعتها , قالت : تفضل يا بني . جلست فأحضرت البريموس ( وابور الكاز) واشعلته وضعت عليه ابريق الشاي , قلت : يا خالة اهذه الحديقة التي تجني منها هذا المحصول ؟ قالت : اجل يا بني , قلت : بارك الله في هذه اليد , قالت : يا بني في بلدنا كانت عندي حاكورة اربع دنمات , كنت معتادة ان ازرع فيها كلما يحتاجه البيت , ولا نشتري شيئا للأكل الا السكر والشاي والارز . قلت : الك اولاد ؟ قالت : ربي يحمي شبابك , عندي اولاد وبنات , اما البنات فكل واحدة في بيت زوجها , واما الاولاد فهم ثلاثة ــ بلعت ريقها واكملت ــ : اما الكبير فشهيد واما الثاني فهو مشروع شهيد , واما الثالث فيعمل لينفق على اسرته واسرتي اخويه , وانا اساعد فأكفيهم مؤونتي , قلت : يا خالة اعذريني على قصر فهمي لكن ما معنى مشروع شهيد ؟ قالت : الكبير استشهد في الانتفاضة المباركة , وترك اسرة مكونه من اربعة افراد , اما اخوه الاوسط فمن يومها وهو مطارد ومطلوب لسلطات الاحتلال , ولا نعرف هل يؤسر في النهاية ام يستشهد لذلك قلت لك مشروع شهيد , وهو اب لطفلتين , قلت : لم تبقين وحدك ولا تعيشي عند احدهم ؟ قالت : يا بني البيت وطن , في كل ركن من اركانه ذكرى معهم ومع ابيهم رحمه الله , هنا كنا نجلس على مائدة واحدة , وهناك ننام او نجلس نتسامر , يا بني كل ركن ولي فيه ذكرى لا تنسى , ثم كما يقول المثل (الحجر في مكانه قنطار ) , افهمت ما اقصد ؟ هززت راسي بالإيجاب . 
انهت العجوز عمل الشاي وصبّته في كاسة كنا نطلق على هذا النوع في لهجتنا ( كاسات ام الجرس ) لما لها من صوت رنان اشبه بالجرس عند الرقص الشعبي بها في الاعراس , خاصة النسوة بالزي الشعبي , على ايقاع الطبلة والكف على الحان اغنية :
ميلي يا شجرة السريس ميلي يا حاملة سريس
ميلي ع محمد العريس ميلي ميت اسم الله عليه
حيث كنا نشاهدها ونحن اطفال وحرمنا منها عندما كبرنا . قالت العجوز اشرب يا بني بالهنا , وتالله ما دريت ايهما الاجمل : الشاي في الكاسة ام الكاسة نفسها . قلت ما اطيب الشاي من يديك يا خالة ؟ وودت لو قبلتهما . طبتم وطابت اوقاتكم .

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 60 مشاهدة
نشرت فى 12 سبتمبر 2018 بواسطة nsmat

مديحة حسن كاتب وشاعر

nsmat
شعر / خواطر / وطنيات / قصة قصيرة / اخري »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

163,883