نسمات مديحة حسن

شعر / خواطر / قصة قصيرة / وطنيات

authentication required

 

في ستينيات القرن العشرين ، كانت هناك قرية ، بيوتها الواطئة الضيقة ، من الطوب النيء ، تربض وسط المزارع والغيطان ، لا يصلها بالعالم الخارجي سوي أتوبيس نقل عام ، وبعض أجهزة الراديو لدي الأثرياء فيها ، والثراء هنا كان مرتبطاً بامتلاك الأطيان الزراعية ، والمواشي ، والبيوت من دورين ، وقد كان هناك كبار الملاك ، وهناك صغار الملاك ، والباقي من أهل القرية كانوا يعملون أجراء لدي الأغنياء . وكانت الكهرباء قد زارت القرية علي استحياء ، لأول مرة في تاريخها ،عندما قام عمدة القرية بشراء ماكينة توليد كهرباء تعمل بالديزل ، يتم تشغيلها حتي منتصف الليل ، ثم يفصل التيار، توفيراً لنفقات السولار ، وتغط القرية في الليل البهيم ، وقد زودت بها بيوت الأثرياء ، وشوارع القرية ، وبعض الحوانيت القليلة . أما بيوت الفقراء فقد كانت تضاء ليلاً بلمبة الجاز. وقد كان جهاز التلفاز الوحيد لدي عمدة القرية ، ويشرف علي إدارته أحد أقاربه ، وكان يجري الترفيه عن أطفال القرية ، بتشغيله بالساحة المجاورة للدوار ، لبضع ساعات ، في الأسبوع . وقد كان الإنبهار بهذه القطعة من الحديد ، وهي تبث صوراً متحركة ، تصدر عنها أصوات ، ، رغم أن المشاهد أبيض / وأسود ، انبهاراً شديداً ، وعلامة من علامات يوم القيامة . كانت القرية شبه مكتفية ذاتياً من الناحية الإقتصادية ، حيث يربي أهلها البط والأوز والدجاج ، والماعز والأغنام ، والماشية ، ويأكلون من بيضها ، ولحومها ، وألبانها ، ويصنعون الجبن والزبد والسمن منها ، أما الخضار فكانوا يأكلون مما تزرع أيديهم ، أو يشترون أحتياجاتهم من أسواق القري المجاورة ، حيث تزحف السيدات والفتيات علي الأقدام في وقت مبكر ، متشحات بالسواد كالغربان إلي هذه الأسواق ، ويعودن في وقت الظهيرة. ومن بين تلك الفتيات فتاة ترتدي الجلباب الريفي الأسود ، وتضع علي شعرها طرحة سوداء ، تلفها علي نحرها ، فيبدو وجهها كالبدر في الليلة الحالكة ، قسمات وجهها ، وأنفها ، وفمها ، وشفايفها دقيقة ، ومنابت الشعر منها تقول بأن شعرها ناعم مسترسل ، وأكثر ما يلفت النظر فيها ، عيناها الدعجاوين ، وتطل منهما علي حزن دفين . وعودها كعود البان ، إلا أنها تميل ميلاً في مشيتها إلي جهة اليمين ، كأن بقدمها عرج . يطل من وجهها القمري إحساس مزمن بالآسي . يبدو أن مكانة عائلتها لم تشفع لها في الزواج المبكر ، وكانت وبالاً عليها ، لاستنكافهم عن قبول من هو دون عائلتهم مكانة وقدراً وثراءًا . وبدأ العمر يزحف عليها ثقيلاً لزجاً من دون أن تتزوج . وفي السوق كان عليها أن تتجول بين التجار لشراء ما يحتاجه البيت ، وتقفل عائدة مع العائدات . وكانت نفسها تحدثها ـ فيما يري النائم ماشياً ـ بابن الحلال ، الذي يراها ، فينجذب لها ، ويتقدم لخطبتها ، والزواج بها . وفي كل مرة تعود خائبة الأمل ، كسيرة البال والخاطر ، فتجلس في البيت منكفئة علي نفسها ، تجتر أحزانها وآلامها ، دون أن يكترث بها أحد من ذويها ، أو يهتم لشأنها ، وكل ما كان يشغلهم هو القيام علي خدمتهم ، من كنس ، ومسح ، وغسيل ، وتجهيز الطعام ، ووضعه ، ورفعة بعد انتهائهم من طعامهم ، وتفريغ الأواني من البقايا وغسلها ، وعمل الشاي وتقديمه ، ورفع الأكواب بعد إفراغها في أجوافهم النهمة ، حتي يأتي الليل فتنزوي في فرشتها تعبة مكدودة ، قد هدها العمل ، ومع ذلك لا تنام ، بينما جسدها يصرخ عليها من الألم ، وروحها كذلك . ودائماً ما تري في أحلامها ذلك الرجل الذي يجيئها منتشلاً إياها ، من الوضع الكابوسي الذي تستظل به في بيت أبيها ، وهي تري أبناء قريناتها ، يجرون ممسكين بذيول ملابس أمهاتهن ، في شوارع القرية . في هذا اليوم ، وأثناء انصرافها ، تأخرت قليلاً عن رفيقاتها ، وقد تسرب إلي أذنيها صوت حركة قادمة من الخلف ، فأبطأت من خطواتها دون أن تتلفت ، حتي أصبح راكب الحمار في محاذاتها ، فهمس لها بصوت خفيض :
ـ انتظري .
فنظرت إليه ولم تعقب ، ولم تتوقف عن السير ، إلا أن ضربات قلبها تكاد تكون مسموعة ، وهي تتعثر في ملابسها ، ويبدو أن وجنتيها قد احمرتا ، وفرائسها قد ارتعدت . ضرب بطن الحمار بساقيه حتي يسرع في المشي ، وسبقها ببضع خطوات ، ثم ترجل عن حماره معترضاً طريقها ، فقالت بصوت خافت مذعور :
ـ ماذا تريد ؟
فردعليها :
ـ مالك خائفة هكذا ؟ .أريدك أن تركبي .
وتقدم ناحيتها بثبات ، ورفع الحاجيات من فوق رأسها ، ثم وضعها علي الأرض . وطلب منها الركوب ، فأبت قائلة له :
ـ لن أستطيع الركوب ، لأن حمارك عالي ، والطريق منخفض .
قال لها مطمئناً :
ـ لا عليك .
انحني إلي جانب الحمار ، مشبكاً أصابع يديه ، طالباً منها وضع أحد قدميها في يده ، والإلتفاف حول ظهر الحمار بالأخري ، حتي تستوي عليه ، ففعلت مثلما طلب ، فسقطت بين يديه وصدره ، ففرت منه مسرعة ، كأنما صعقتها كهرباء التيار العالي ، فهرع إليها قائلا :
ــ لا بأس . حاولي ثانية .
قالت :
ــ لا .
فأمسك بيدها ، وسحبها ناحية الحمار ، فانسحبت له بتدلل دون مقاومة ، والحمار يقف لا يحرك ساكناً ، غير أن عينيه تدوران في محجريهما متابعة للموقف . وقف مشبكاً أصابع يديه ، ووضعت قدمها اليمني ، وحاولت الصعود ، إلا أنها سقطت كذلك بين ذراعيه وصدره ، فضمها إليه ، ووقف ينظر في عينيها ، ونظرت هي الأخري في عينيه ، واقتربت الشفاه الملتهبة ، والتقمت بعضها البعض، كأنها كانت علي موعد . لم تحتملها أقدامها ، وسيقانها ، وقد خارت كل مقاومة ، فحملها بين يديه ، ودخل بها إلي غيط الذرة ، بينما كانت الشمس تميل للمغيب مخلفة ذيول الشفق من وراءها ، والطيور تضرب بأجنحتها قافلة إلي أوكارها ، أسراباً، وانسدلت غبشة الليل علي الوجود . ولا يزال الحمار واقفاً في مكانه في انتظار صاحبه . خرجا من غيط الذرة ، وهما يستكملان إرتداء ملابسهما ، وهي تلطم خديها بكفيها مولولة بصوت خفيض ، حاول طمأنتها فقالت له بعيون دامعة :
ـ لن يقبلوا بك ، وأنت متزوج ، وأولادك رجال .
فال لها :
ـ ما حدث سيجبرهم علي الخنوع . لا تخافي .
انحني عليها ، ورفعها بذراعيه ، واضعاً إياها علي ظهر الحمار ، وأسندها حتي استوت عليه . ثم رفع حاجياتها من الأرض ، ووضعها أمامها . وأمسك بلجام الحمار، وهو يسير أمامه مترجلاً . وما هي إلا بضعة أمتار ، حتي سمعا صوتاً قادماً من بعيد . فتخوفا أن يكون لأناس يبحثون عنها . فصرخت صرخة مكتومة :
ـ يا مصيبتي ! يا مصيبتي .
قال لها :
ــ سأنزل إلي غيط الذرة حتي لا يرانا أحد سوياً .
أسرع بإنزالها من علي ظهر حماره ، ومعها حاجياتها ، وسحب الحمار ودخل به إلي غيط الذره ، فابتلعه الظلام ، وهي حملت حاجياتها علي رأسها ، ومشت تجرجر قدميها خلفها ، وتشق طريقها وسط الظلام . الأصوات المنبعثة من حولها تزلزلها ، صرصرة الصراصير في شقوق الأرض ، ونقيق الضفادع في برك الماء ، ونعيق البوم علي رؤوس الأشجار العالية ، وأصوات الباحثين القادمين من أحشاء القرية . تشعر أن الأصوات كلها تنبعث من جوفها صارخة . وجدتهم أمامها ـ كأنما فجأة ـ حملوها في صمت مطبق ، صمتت معه أصوات الوجود . وجدت نفسها في غرفة صغيرة في جوف المنزل ، غارقة في بحور من الأسئلة المنهمرة ، كأنها سهام نارية خارقة حارقة . تركوها لحالها تلك الليلة ، حتي تنام ، فما نامت . وطالت الليلة إلي ليالي ، وأسابيع وشهور . وقد وجدت نفسها منبوذة ، وحيدة ، محاصرة . ومع كل ليلة تزداد تلك الجمرة الرابضة في أحشائها حجماً ، وتبرز بطنها ، وتتبلور ، حتي فوجئت ذات ليلة بإحدي قريباتها ، وتعمل داية ، تقتحم عليها عالمها الخاص ، الذي صنعوه لها ، وصنعته لنفسها في محاولة للتكيف ، وبرفقتها أخويها ، وأمها . طلبت منها الداية أن تتغطي بملاءة حتي تكشف عليها ، فندت عنها صرخة مكتومة ، وهي تحاول التشبث بملابسها ، والإحتماء بها ، وجسدها يرتعد متزلزلاً . قام أخويها بدفعها في مخدعها ، وتكتيفها إسكاتاً لحركتها الدائبة 
. وأمسكت أمها بساقيها . وقامت الداية بعد لحظات ، وهي تمسح يدها قائلة :
ــ حامل .
ـ ........
تجهمت الوجوه المتغضنة ، واحتقنت بالدماء، ولم تنبس ببنت شفه . حركات متوترة عنيفة حادة مدببة . التفاهم بالإشارة ، والإيماءة . ولم تمض عليها بضع سويعات ، إلا وهي مصحوبة برفقة أخويها ، لا تدري إلي أين يأخذها قدرها . كل ما تذكره ، تلك الدمعة المتحجرة التي رأتها في عين أبيها ، الذي نظر إليها ، ثم سرعان ما أشاح عنها بوجهه . وكذا أمها . كانت ليلة مظلمة ، وهي محمولة من ذراعيها بين أخويها ، ولا تكاد رجلاها تلمسان الأرض . وعندما وصلوا إلي المكان ، وضعاها في حفرة بطولها ، وضعاها حية ، وجعلا يردمان عليها بالتراب ، وهي تستغيثهما ، طالبة الرحمة ، حتي استوت الحفرة بالأرض .

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 40 مشاهدة
نشرت فى 4 أكتوبر 2016 بواسطة nsmat

مديحة حسن كاتب وشاعر

nsmat
شعر / خواطر / وطنيات / قصة قصيرة / اخري »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

186,194