هاني فحص**

 

 هاني فحص

الكلام في التقريب بين المذاهب الإسلامية، أو بين أهلها من المسلمين، وأحيانا بين أهل المذهب الواحد؛ عندما يفرق بينهم أمر سياسي مثلا ويصبح هناك خطر جراء ميل كل طرف إلى تغطية خصومته أو صراعه مع الطرف الآخر بالمذهب، أي بالمتحقق من الدين في المذهب.. هذا الكلام، تفريع على الكلام عن الاختلاف، والحاجةُ إلى التقريب تُشنّ كلما دُفع الاختلاف، من خارج الدين بالطبع، إلى مقام الخلاف، حيث يُلبَس ما هو من خارج الدين بالدين، ليضر بالدين والمتدينين.

هذا على أن الاختلاف بذاته ليس مشكلة، بل هو حل أو مشروع حلٍّ للمشكلة، مشكلة البعد الواحد في المعرفة والسلوك والاجتماع، ما يعني عطالة وبطالة في المعرفة وفي الحياة، والدين في الأصل أطروحة حياة وإحياء (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يُحييكم).

إضافة إلى ذلك فإن الوحدة الشاملة والتامة -إن أمكن لها، ولا ندري كيف ولماذا؟- هي إذابة للمتعدد في واحد، أو للمتعدد الحقيقي في واحد افتراضي، والواحد في هذه الحال هو أحد الأطراف، يتغلب على البقية فتصبح واحدا، أو ذلك الواحد، أو هو الواحد الملفق من المجموع، وكل ذلك يفترض لتحقيقه عنفا ماديا ومعنويا، مباشرا (جسديّا بالقتل) أو غير مباشر (بالقمع والمنع)... وبالطبع فإنه يستتبع عنفا ينفجر عندما يكف الطرف المهيمن (الموحِّد قهرا) عن فرض هيمنته لضعف طارئ، يطرأ دائما أو عندما يبلغ إلغاء المهيمن عليه بداعي الوحدة، التي هي بالواقع مصادرة، عندما يبلغ هذا الإلغاء درجة غير قابلة للاحتمال.

أما الوحدة بالمعنى المنهجي والايجابي والممكن والمطلوب، فهي حفظ التعدد بالوحدة وإغناء الوحدة، أي إدامة حيويتها بالتعدد. من هنا يرقى الاختلاف في نصوصنا التأسيسية، كتابا وسنة، وكتابا بالخصوص، إلى مستوى الدلالة والبينة على وحدة الخالق وعظمة المدبر وحسن التدبير، (ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم).

الدولة أساس في التقريب

ما الذي يدفع الاختلاف إلى مقام الخلاف، ليحوّل استقطاب الوحدة في المتعدد إلى استقطاب التقابل الحاد والمفاصلة الحامية، أي تبادل الإلغاء: معرفة ووجودا، أي التكفير ثم القتل؟.

تقديري أنه ما من حالة حضارية سالبة (الفرقة والفصال) أو موجبة (التقارب) إلا وهي -باعتبارها مركبة- إنجاز مشترك، أو ارتكاب مشترك، لشركاء يقع في مقدمتهم الدولة والمجتمع والطليعة العلمية والثقافية المتصلة الموصولة بمستجداتها الاجتماعية بما يمنع من تحولها إلى نخبة منفصلة، أي انفصال العالِم عن العالم، وهذا الاتصال يحقق إنجازا موجبا (تقارب) أو ارتكابا سالبا (تفرقة)، بقدر ما يكون محكوما بمنهجية علمية ملتزمة بأنظمة قيم تمنعها من إنتاج المعرفة على مقتضى العصبية أو المزاج، مزاج الجماعة الدينية التي تتيسر لها درجة من القوة تجعلها في موقع الحكم أو الغلبة فتستأثر وتمنع ولا تشارك الجماعات الأخرى في حركة العلم بناء على المشترك، أو مزاج الجماعة التي تعزل فتنعزل وتنتج من أجل تماسكها في مواجهة الإلغاء فكرا وفقها انعزاليا لا علاقة له بنظام المعرفة الديني أو الإسلامي تحديدا.

وهكذا نجد أن كثيرا من علماء المذاهب الإسلامية قد أنتجوا في فقه العبادات أحكاما تختلف عن الأحكام التي أنتجوها في ظرف مختلف، فالإلغاء الذي مارسته الدولة في عهود مختلفة، عهود التراجع، أدى بالأطراف الدينية المقصية إلى حركة فقه تمايزي، مخالفة بذلك تراثها، لسبب يكاد يكون وحيدا. وهو أن هذا الفقه الاندماجي لا يساعد على إشباع النزوع إلى الاحتماء بالذات في مقابل التهميش.

على هذا، فإذا ما قررت الدولة أن تقوم بوظيفتها كحاضن، فإنها تصغي لمجتمعها وطليعته العلمية، بداعي الشراكة، فتكون بذلك قد استحقت وألزمت مجتمعها وطليعته بالإصغاء لها، أي إقامة العلاقة على الحوار، الذي يجعل الدولة تتبصر في تعدد اجتماعها، وتتلمس علاماته في تكوينها، فإن تراجع منسوبه، تراجع دورها وفعلها، وإن تقدم هذا المنسوب التعددي، تقدمت الدولة والمجتمع معا، إذن فلا بد للدولة أن تنشط أواليات الحوار والاندماج، ما يوفر لها حراكا يحفظها ويجددها كضرورة اجتماع، بالولاء والنقد معا، ويمنع الاعتراض عليها من أن يتحول إلى سعي لنقضها أو تقويضها.

وعندما تختار الدولة أن تنفصل عن اجتماعها، تكف عن الإصغاء، فيكف الاجتماع عن الإصغاء لها، فإذا ما كابرت الدولة ردت بالاشتغال على تظهير وتعميق الفوارق بين مكونات اجتماعها وطلائعه العلمية، لتجد مكانها ومكانتها في السجال الذي يئول إلى الصراع الأهلي، مغريا المجتمع بالاستقواء على الدولة جراء استقوائها عليه.

وفي العادة أن الدولة تستثمر الفوارق الكمية في مكونات اجتماعها، فتغري الأغلبية بموافقتها على أنها -أي الدولة- هي حافظة مصالحها، ما يغري حالات أقلوية، أن تتذرع بفكر آخر (قومي) مثلا، لتغري جماعتها بالهيمنة والاستئثار وتهميش الأغلبية، وهذه الحالة تختزن عنفا مضاعفا عندما تنقلب الأمور، التي تنقلب عادة، وإن طال الزمان.

إذن فالدولة أساس في مسألة التقارب أو التقريب، والشرط عليها، أو لها ولاجتماعها، أن ترعى حركة التقارب، فتمنحها حريتها الكاملة، وتساعدها على تشغيل وتجديد طرائقها العلمية، من دون أهداف سياسية أو سلطوية مباشرة واختزالية تفضي إلى المصادرة والتعطيل، وهذا ليس دعوة إلى التنصل من السياسة أو إقصاء الدولة، في حيز ما، عن شأنها السياسي الذي هو أهم وظائفها، بل إن بإمكان الدولة أن تتحول إلى حاصد سياسي ماهر بقدر ما تسهم في رعاية وحماية الزرع والزراع.

من أقبية العصبيات إلى رحابة الإيمان

أقول قولي هذا وأنا مفترض أن الإيمان يجمع الجميع، وإلا فماذا يفعل الإيمان إن لم يجمع؟ وإذا ما فرَّقَنا الإيمان، فما ومن الذي يجمعنا؟ إن الذي يفرقنا هو غير الإيمان، أي أننا لا نتفرق ونحترب ونحن مؤمنون، وهذا ليس تكفيرا، هذا انتباه إلى أن الإيمان في لحظة من لحظات التوتر يلتبس بغيره، لا يزول بكامله، لأنه مركب، ولكن المقدار الباقي منه لا يعود بإمكانه أن يهيمن، أي أن يمنع، أي أن يجمع.

إذن ففضاء الإيمان أرحب وأرحم من أقبية العصبيات ودهاليز السياسة وأنفاق السلطة بمعناها الحرْفي والحِرَفي، ونحن نفترض أن هذا الإيمان يتمظهر في فكر وسلوك توحيدي وحدوي، ما يحقق الوحدة كمعادل موضوعي للتوحيد بالنص القرآني (وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّة وَاحِدَة وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ) المؤمنون: 52، وما يعني أن الوحدة والتوحيد أشبه بالمتضايفين اللذين يشكل الإيمان شرطهما أو ملكتهما حسب المصطلح المنطقي.

هذا في حين أن هناك شواهد كثيرة في التاريخ، في اجتماع أهل الباطل أو المشركين في مقابل تفرق أهل التوحيد والمؤمنين، غير أنه -وحسب شهادة التاريخ- تبقى وحدة أهل الباطل عارضة، وإن طال أمدها، وتبقى فُرقة أهل الإيمان والتوحيد والحق عارضة وإن طال أمدها، وهذه ليست دعوة إلى الطمأنينة والكسل، لأن الخسائر التي تترتب على صراع أهل الحق والإيمان باهظة، سواء أطال الزمان بها أم قصر.

من هنا فإن تكليفنا الحضاري والديني والإنساني، أن نقلل -إن لم يكن بمقدورنا أن نلغي- الصراعات البينية، بين أهل الإيمان، ونقلل من بشاعتها وتطاولها إن حصلت، ونعمد دائما إلى صناعة التسويات بالتنازلات المشتركة؛ لأن الخسائر التي تترتب على التنازل في هذه الحالة هي أقل بكثير من الخسائر التي تترتب على النزاع أو الصراع، والتي لا يسلم منها طرف من الأطراف، والتي تعود فيها المصالح المتحققة، إن تحققت، إلى أشرار الأطراف والجماعات والمذاهب والطوائف والأديان.

ولعلنا مع دولتنا الحديثة، وبعدما أدى تقصيرها بوظائفها العامة وقصورها في أدائها، إلى تهديد فكرتها ووجودها بعدما هز موقعها، لعلنا نعود معا إلى سياق تكاملي مختلف، تفاديا للاستحقاقات الباهظة والمدمرة، والتي تتلاقى على إنزالها بنا مطامع الخارج والطموحات المريضة في الداخل، والتي لا يعفينا التطرف المترتب عليها من مسؤوليتنا دولة ومجتمعا، ودولة أولا، من دفعها إلى واجهة المشهد موصولا بأعماقه التي تبدأ من انفصال الدولة عن اجتماعها ولا تنتهي في أنظمتنا التربوية التي وضعتها الدولة وارتضاها المجتمع وزاد على عوامل إنتاج التطرف فيها عوامل أخرى تأتي من تصور غير عادل وغير علمي وغير ثابت في موروثنا، تصور حصرية الخلاص في الجماعة دون غيرها من الجماعات.

إذن.. لعلنا مع دولنا بعدما وصلت النيران إلى مخادعها السلطوية، على الطريق نحو إزالة الالتباسات، من أجل تحقيق الشراكة، على مفصل معضِل يهدد مجموع مصالحنا ويُعدُّنا للاستحواذ علينا هذه المرة بشكل أقسى وأوسع وأبعد من كل ما حصل حتى الآن، وعلى الطريق لا بد له، أي المفصل، من أن يخلخل نصاب شراكتنا في المشترك الأعظم بيننا، أي الإسلام كثقافة جامعة لا بد أن تكون مانعة منيعة وممانعة، أي عاصمة بما هو حبل الله هو المعتصم، وبما هي الكثرة، أي الوحدة، عاصمة للقلة، وبما هو التفرق تفتيت للعصمة.

وهنا يحسن أن نستعيد مثالاتنا من ماضينا المشترك، بدل أن نستعيد السالب من هذا الماضي، أو المفرق وكأنه النمط الملائم أو الملزم لنا في ما نستقبل من استحقاقاتنا.. وفي العهد الراشدي التعددي الوحدوي، والذي كانت المشاركة هي التي تحكم مساره، لتجعل القطيعة أو المقاطعة مجرد وجهة نظر، مجرد رأي لا يلبث أن ينسحب إلى الوراء عندما تتقدم مصالح المسلمين على غيرها.

على هذا الأساس أو تأسيسا لهذا كان الخليفة عمر بن الخطاب يؤكد حاجته إلى مشاركة علي المعترض "ما عشت لمعضلة لا أبا حسن لها"، وكان علي بن أبي طالب المعترض يضع اعتراضه جانبا، يؤثر العام على الخاص من دون مجاملة "لأسلمن ما سلمت أمور المسلمين ولم يكن فيها جور إلا علي خاصة"، وهذا يفضي بنا إلى مشترك مركزي في الدائرة الإسلامية، أعني أهل البيت الذين كلفنا الله في كتابه بمودتهم كفاء ما هدانا على يد سيدهم وسيدنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وهم الذين آثروا الوسطية موقعا لهم حفظا لمركزيتهم في نظام القيم الإسلامية ولدورهم الجامع لكل الأطراف، ما جعلهم يبنون علاقتهم بالسلطة على مسلكية ترجح الدعوة على السلطة، فصالح الحسن بن علي بن أبي طالب معاوية تقديما للأهم على المهم، واستشهد الحسين، ليتحول إلى شاهد للحق على الباطل الذي بلغ ذروته، وكان لا بد للاحتجاج عليه أن يبلغ ذروته.

وفي كربلاء لم تكن السلطة هي هدف الحسين، ولكنه أبى أن يذعن، فاجتاحته السلطة مع أهل بيته، فلما وصل الأمر إلى ولده علي بن الحسين أسس لسلوك متناغم مع سلوك أبيه وعمه، فتخلى وانصرف إلى سقاية زرع القيم والأخلاق والوحدة وحماية التوحيد من عوادي الفرقة. واستمر هذا السلوك في هذه السلالة، ما أغرى الإمام أبا حنيفة بالتضحية في سبيل مناصرتهم، والانخراط مع جعفر الصادق في تأسيس متحول علمي مشترك ما زلنا نعيش نعمه، ويدعونا إلى استئنافه وتجديده وتنميته. هنا تجسدت الوسطية سلوكا جامعا وحافظا للإيمان والمؤمنين بالعلم الذي أدى إلى حساب دقيق للأولويات. وقد نظر علي بن موسى الرضا لهذا الخيار المسئول بقوله: "نحن آل محمد النمط الوسطي الذي لا يدركنا الغالي ولا يسبقنا التالي"، ويعقب أحد العلماء على هذا القول بقوله: "اعلم أن النمط الأوسطي ينبغي أن يكون جامعا بين الطرفين".

إن الذي يقوم في الوسط يرى إلى كل الأطراف، يرى ما فيها من حقائق ولديها من حق وعليها من حق، منطلقا من تعددية المعرفة وتركيب الحقيقة، فمن أراد زيدا من الحقيقة فما عليه إلا أن يعترف بالآخر، بحقه وما لديه من حقيقة، وبحاجته إلى ما في يد الآخر من حقائق ومن حقوق، وإلا تناقص أو تآكل مخزونه الإيماني مهما يكن باذخا، وتراجع مدخوله من الحقائق مهما يكن مجتهدا في طلب العلم: بعد الدولة، وهذا ليس ترتيبا طوليا، لأن الدولة والمجتمع في عرض واحد، بعد الدولة، هناك الاجتماع العام، الإسلامي أو العربي أو الوطني، وهذه كلها مفاهيم موحَّدة وموحِّدة لا تنفي التعدد، ولا تشترط "الدولة الأمة" كتحقيق لوحدتها المتحدرة والمتجذرة في التوحيد، لأن وحدة الاجتماع الوطني والإسلامي والعربي وبنسب متفاوتة، بالحبل الإلهي أولا والتطور التاريخي ثانيا (وجعلناكم شعوبا وقبائل...) هذه الوحدة قائمة في العمق، تتقدم مظاهرها وتتراجع بفعل النزاعات على أنظمة المصالح، ولكنها تبقى راسخة وتبلغ أوج التعبير عنها في المفاصل وأمام القضايا والأحداث الكبرى، "فلسطين مثلا". وعليه فعندما تتعدد الدول، من دون رغبة أو موافقة على التعدد المفتعل والضار الذي حدث في انفصال بنغلادش عن باكستان ولا حتى انفصال باكستان عن الهند، عندما تتعدد الدول الوطنية، لا يبقى سائغا ولا جائزا أن يستقيل المتشبثون بالوحدة، من إنجاز دولهم الوطنية كاملة مطالبة ومؤثرة بتكاملها مع غيرها، متذرعين بأولوية (الدولة الأمة).

إن اجتماعنا لو ترك وشأنه، أي من دون سياسة حزبية تقوم على التعصيب، وتطلب السهولة في ذلك، فتجد المكون المذهبي ناجزا وجاهزا، أو هي التي تعيد تجهيزه، فتستحضر الفوارق الطبيعية، تبعثها بذهنية وخطاب فصالي أو سجالي، وتستولدها، تولّد منها، طوعا أو قسرا، أي اعتمادا على مناطق لينة ومرنة في منظومتها العقدية أو الفقهية، فوارق أخرى، أو تلجأ إلى الموروث التاريخي تستدعي منه الانكسارات التي حصلت بفعل عوامل خارجية ومؤثرات سياسية عمدت إلى تضخيم الفوارق وتفجيرها، وتذهب إلى صناعة التمايزات طلبا للفرقة.

إن محمولنا التاريخي، السياسي منه بامتياز، نحترمه، وحتى عندما ننقده، فإنما ننقده لا لنقوض، بل مقدمة لنقد الحاضر والمستقبل الذي نريد أن نستقبله، فإذا ما أحلناه على الماضي كما هو، أي من دون تبصر أو نقد، فإننا نكون قد شرعنا في استقبال الماضي، وهذا عدوان على الماضي، ما يعني أن نستدبر مستقبلنا، وهذا عدوان على المستقبل وعلى كل شيء. إذن فهذا الموروث لا بد من تعطيل بعض فعالياته، إذا ما أردنا أن ننجز مستقبلنا الصعب، والمحاصر بالأسئلة، والذي لا سبيل إلى التخفيف من صعوبته إلا أن نتواضع أو نتواطأ على إنجازه معا، ومن دون ذلك سوف يكون منقوصا، أو لن يكون أبدا.

إن التشبث بالماضي يحيل الماضي عدة لا واحدا، أي إنه يرسخ الصورة النمطية لكل طائفة منا عن ذاتها وعن الطائفة الأخرى، ونعود إلى السيرة في اختراع منظومة أيديولوجية محمولة على الدين موصولة به شكلا لا مضمونا، من أجل تبرير فصالنا وقطائعنا، ما لا يؤدي إلا إلى مزيد من دفع غلالنا إلى طواحين أعدائنا الذين يحولون هذه الغلال إلى أغلال.

إن مجتمعنا أو مجتمعاتنا العربية والإسلامية والوطنية، لو تركت بذاتها لذاتها، فإنها مؤهلة لأن تعيد باستمرار اكتشاف قيمها المشتركة ومصالحها المشتركة، لتؤسس عليها وتعيد تأسيس عيشها المشترك، الذي يقوم على المعرفة المشتركة والتعارف والاعتراف المتبادل، وتكامل المختلف وحيوية وقوة المؤتلف، ارتقاء إلى مستوى المواطنة التي تحفظ الجميع بالجميع للجميع، تحت رعاية الدولة التي تستمد قوتها من عدالتها وتحول قوتها إلى عدل وعدالة.

إذن فالمطلوب، من أجل الدوام والمداومة على إنجاز التقارب والتقريب والاقتراب، من موقعه الأمثل، أي المجتمع، هو أن نمنح لمجتمعاتنا مزيدا من الحرية، على أساس أن تنتج هذه الحرية نظامها، أي المسؤولية: "كلكم راعٍ"، وبالحرية يعرف المجتمع ويتعارف ويتثاقف ويتناصر... يصبح كالبنيان المرصوص الذي يشد بعضه بعضا، ويحمي جماعاته المختلفة من إغراءات الانقسام، ذلك أن التجزئة كالمرض، قد تبدأ من مكان فإذا ما تركت تفشت، إذن لا بد من حصارها بتأهيل مجموع البدن للممانعة وتكثيف عمليات العلاج والوقاية معا.

لا بد لتحقيق حرية المجتمع من أن نعمل معا، دولة ومؤسسات أهلية ومدنية وطلائع علمية في مختلف الحقول والاختصاصات على تخليص المجتمع من ضغط القبليات في كل شيء، من الطب إلى نظام العلائق البيئية وعلائقنا بالآخر، كل آخر، حتى العدو ولا بد من قراءته بموضوعية واستحضار المستمر لا المنقطع من تاريخ صراعه ضدنا، وهذه ليست دعوة إلى التنصل من الخصوصيات والخيارات الخاصة، ولكن لا بد من فرز الصلب منها عن المرن للاشتغال على مساحة المرونة تأهيلا لمقاربة مواقع الصلابة بنوع من التليين لا الكسر الذي يكسرنا، "إن هذا الدين لمتين فأوغلوا فيه برفق...".

ليست دعوة إلى التنصل، ولكنها دعوة إلى لون مركب من القطيعة والوصلة، بداعي توسيع أو تحرير المساحات المشتركة للشغل في فضائها، وتضييق مساحات الاختلاف وضبطها وتحويلها من منتج للخلاف إلى مجال للتكامل والحيوية والإبداع والتنمية الشاملة كعلاج مستديم لأمراضنا الطارئة والتليدة والعتيدة، والتي اكتسبناها بفعل تعطيل آليات إنتاج المناعة والمضادات الحيوية إزاء ما ينتجه جسمنا الاجتماعي بشكل طبيعي وإزاء الأوبئة التي تأتينا من الخارج وتفعل فعلها بمساعدة البيئة الذاتية الملائمة لها.

ولا بد لنا أن نرفع الخوف، بحيث تصبح كل جماعة منا أو حساسية تجد أمانها الذاتي في أمان الجماعة الأخرى -المختلفة- أي في سلامتها وحريتها، على أساس أن الحرية هي التي تتكفل بإصلاح أعطابها والوقاية منها معرفيا وسياسيا وحياتيا.

بالإضافة إلى ذلك، فإن الاستبداد والقمع والمنع، وخوف أي جماعة من الجماعة الأخرى، يؤدي إلى تغطية وتمويه الإشكاليات، فيصبح الجميع جهلة بما عندهم وعند غيرهم، وهذا يؤدي إلى التفاقم وصعوبة الحل لاحقا، بينما تتيح الحرية ظهورا للحقائق والأفكار، حلوها ومرها، أي العلم بها لدى المبتلى بها ولدى المراقب المختلف، ما يؤدي إلى إدراك مشترك لمضارها على الجميع، والانهماك المشترك في علاجها وتلافي استشرائها وما يترتب عليه من مخاطر تطاول الجميع... وإنه لمبالغ، إن أحسنا الظن، من يتصور أو يصدق، بأن خللا بنيويا في جماعة من جماعاتنا الوطنية يقتصر ضرره على أهل هذه الجماعة وحدهم، دنيويا وأخرويا، بل هو يصيب الجميع حتى لو بدا أن جماعة ما بعيدة عن متناول آثاره.. إذن فإن جماعة لا تحفظ حقها، ما لديها من حق وما لها من حقوق، إلا بالعلاج المسئول لباطل الجماعة الأخرى أو ما تراه فيها من باطل وقد تصيب وقد تخطئ، والأهم من الخطأ والصواب هو المكاشفة والشفافية والتسديد، طلب السداد للذات من خلال دفع الآخر إلى سبيل السداد والرشاد. وهذا هو معنى الهدى والهداية التي هي تكليفنا الأساس، أي إخراج الناس، ناسنا من الظلام إلى النور، خاصة أن بعض الظلام المفترض إن هو إلا اختلاف لا يراه ظلاما إلا القاعد في ركن مظلم يقع وراء فضاء الإسلام الحاشد بالنور والضياء.

ألا يحق لنا السؤال هنا عن الفارق النوعي أو في الدرجة إلى حد كبير، بين من نختلف معهم من المسلمين اليوم، وبين الإسلام والمشركين في فجر الدعوة؟ ولولا الدعوة، أي الترغيب والترهيب، كيف كان يمكن أن تحصل الهداية ويدخل الناس في دين الله أفواجا وينعم عليهم الرسول (ص) بالسماح: "اذهبوا فأنتم الطلقاء"؟ وإذا كان الترهيب جزءا من عملية الدعوة مع المشركين فإنه مع المسلمين إحالة ظالمة لحاضرنا على الماضي مع الفارق الصارخ ومع انشغال جميع فرق المسلمين بحالهم ومآلهم على نفس الطريق الذي، وإن تشعب ظاهرا، إلا أنه يمكن قراءة مساره الذاهب دائما إلى وحدة، تفريعا على وحدة المصدر والمصب، المنطلق والغاية التي يصل إليها بقلق أقل من يسلك الطرق السالكة والقصيرة... ولكن الآخر يصل، وإن بصعوبة أكثر، ونحن جميعا مكلفون بإزالة عقبات الطريق لا قطعها على الآخر المختلف.

العلماء.. ودورهم في نصاب الوحدة

وهنا يأتي دور العلماء، علماء الدين أولا، لأن الشأن شأن ديني أولا، وإن كانت انعكاساته تطاول كل شيء. إن شراكة الحقول المعرفية والعلمية الأخرى والعلماء الآخرين، لعلماء الدين في هذه المسألة، مسألة التقريب والتقارب، أو وضع حد أمام استشراء التطرف والتباعد، أصبحت ضرورة ملحة، بناء على ما كنا نؤمن به أو عدنا لنؤمن به، من تكامل العلم الديني بالعلم المدني وتكامل الفقيه بالقانونيّ وعالم الاجتماع والتاريخ والفلسفة والألسنية، والأنثروبولوجي والإعلامي والأديب والفنان الخ. إذن فللعلماء دور لا ينهض به سواهم، في تحويل إرادة التعارف والعيش المشترك إلى علم ومعرفة وثقافة وحياة ومشهد وخيار إيماني إنساني وحضاري كما هو الإسلام. أي الارتقاء بذلك كله من كونه مزاجا شعبيا يقوى ويضعف، إلى إرادة العيش الواحد بمعناه الروحي والمادي، عن علم وتصميم وتبصر بالمصالح المشتركة والكرامات المستطرقة...

ولا ننسى أن القرآن يقدم الوحدة في السياق على العبادة، وهذا ترتيب يتضمن تراتبا، أي كان القرآن يرتب العبادة والتقوى على الوحدة لأنها متصلة بالتوحيد الذي هو منبع ومصب العبادة، أو كأنه يقول - والله أعلم- : إن لم تتوحدوا فإن عباداتكم منقوصة فاتقوا الله في وحدتكم.

وإذا ما قرأنا حركة العلم والعلماء، على شرط الحرية في تاريخنا، نجد أن نصاب الوحدة الذي حفظنا عندما حفظناه، أو قلل من صراعاتنا عندما قللنا من صراعنا عليه وتحاورنا فيه ومن أجله، كان في معظمه من إنتاجهم (إنما يخشى اللهَ من عباده العلماءُ) والآية واردة في سياق الدعوة إلى التأمل في التعدد والاختلاف كسنة إلهية منطوية على أساس وحدوي راسخ وتكويني فاعل. والخشية هي التقوى، هي الخوف من الخطأ والزلل والدم وإخراج الناس من شعورهم بنعمة الإيمان، الخوف هذا الصمام العظيم الذي ينجي المؤمنين من الإقدامات القاتلة، التي ظاهرها الشجاعة والغيرة ومضمونها العصبية التي تذهب بالغيرة وتقتل الأغيار.. الخشية هي التقوى.. وإلا عدنا إلى الوقوع في التقية، والتقوى لا تتجلى إلا في الوحدة، والتجزئة لا تناسبها إلا التقية، والتقية على ضرورتها في حالات الخوف، فإنها سرعان ما تتحول إلى مرض سلوكي وفكري يعطل العلم ويفرق العقول والقلوب.

والخشية والتقوى هما الناتجان الطبيعيان واللازمان للمعرفة بالله الواحد، والإسلام الواحد، والكتاب الواحد، واليوم الواحد والنوع الإنساني المتحد، وأنبياء الله الموحدين، وسيدهم الخاتم الذي ختم كأنه قال هذا رشدكم قد اكتمل فلا تتسافهوا، والذي قام من تاريخ النبوات مقام الخاتم يزين إذ هو يقيد، ويقيد إذ هو يزين، وفي الزينة والقيد حرية وكرامة وكدح إلى الله تعالى من طرق مختلفة، ولكنها متصلة بنقطة البداية التوحيد، ونقطة النهاية المعاد...

وتتجسد التقوى والخشية في التماس العالم الرباني والمتعلم على سبيل نجاة، والعارف الذي عرف التوحيد وعاينه في الآفاق وفي نفسه، في التماسه لسلامته في سلامة أمته، أي سلامة جماعته المذهبية أو الدينية في سلامة الجماعات الأخرى، ولا تسلم الأمة إلا بسلامة عقلها وروحها وبدنها ولسانها ومجموع جماعاتها، أي بفقهها أي فهمها للدين وشرعه على أساس أولوية الإنسان فيه وكرامته وأرجحية السلام.

هذا في حين أن الحراك الحزبي السياسي الإسلامي، ومن دون تسفيه أو تبخيس، من طبيعته - لأنه اجتزائي (حزب) أي جزء- أن يقوم على رافعة العصبية، والعصبية تدخل في كيمياء الإلحاح على طلب التمايز عن الآخر، الشريك والخصم معا، وإن بنسب متفاوتة، ما يضع الشريك في كثير من الحالات في موقع الخصم، لذلك فإن الأحزاب الإسلامية يصعب عليها أن تنتج تقاربا بالمعنى العميق، وإن كانت لا ترفضه، ويبقى تمايزها المذهبي أو السياسي حالة تعرضها إلى الانشقاق والاحتراب الداخلي.. والتقارب الذي تنجزه خارج الأحزاب الإسلامية، لا في وجهها، بل من أجل أهدافها السامية، أي الـ ما فوق حزبية، أو تنجزه بالتعاون معها بناء على صحة إسلامها ومصداقية إيمانها، يلزمها ويلزمنا بأفكاره وقيمه ويعمم نعمه عليها جميعا، ويؤهلنا معا للتصدي للأهم من شؤون حياتنا ومستقبلنا وأهلنا وأجيالنا المحاصرة بالمخاطر والأسئلة الصعبة والانكشافات الهائلة التي تعرضنا أمامها للمساءلة، فإن لم نحسن الإجابة فإن الرفض ينتظرنا.

  • Currently 101/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
34 تصويتات / 623 مشاهدة
نشرت فى 3 مايو 2006 بواسطة nsma

ساحة النقاش

عدد زيارات الموقع

233,868