التقليد الأعمى ومعاكسة الشريعة

* الشيخ خليل سلطان
تحدّث القرآن الكريم في جملة من الآيات عن التقليد، عندما تكون دوافعه العصبية أو المذهبية أو الطائفية .. ألخ. وهذا العرض جاء لغرض التنويه والتذكير لمخاطر ومنزلقات التقليد بما يحمل في داخله من آثار ماحقة للكيان الإنساني، وعبثية بالعقل قائمة مقامه في إصدار الأحكام على الأشياء من غير دراية ووعي موضوعي يبحث بعقلانية مجردة من المؤثرات والعقل الجمعي، وذوبان الحقيقة تحت وطأة فرض الممارسات الجاهلية البعيدة عن روح العمق في فهم الأشياء ومن ثم الحكم لها أو عليها.
ضياع الحقيقة
من خلال دراسة المشروع الإسلامي للإنسان نستطيع فهم وإدراك أهمية التوجيه في معادلة هداية الإنسان، ودور الإرشاد والتبليغ في رسالات الأنبياء والمرسلين (ع) مع كل المعاناة والصبر والتضحيات الجسام والعطاء الذي لا ينضب ولا يكلُّ ولا يتعب، وكل ذلك من أجل أن يخطو الإنسان إلى الصراط المستقيم الذي تحدّث عنه القرآن في آيات عديدة والذي يرسّخ طلب الهداية والوصول إلى طربق الله ( إهدنا الصراط المستقيم ) الفاتحة 6 . الهداية من خلال التمسك بالصراط المستقيم وليس أي صراط أو طريق أتخذه الإنسان أو فرض عليه بدافع من الدوافع التي لا تلتقي والدافع الإيماني والداعي العبادي الضروري لكمال الإنسان وبلوغه الغاية من وجوده ( وما خلقت الجنّ والإنس إلا ليعبدون )الذاريات 56. وإذا تم معرفة هذه الحقيقة فإن الوصول إلى هذا الصراط والبحث عنه مسؤولية جسيمة وتكليف يتطلب مزيدا من الجهد المضاعف الذي يصب في بوتقة وهدفية نيل الحقيقة ومعرفتها لتكون الخطى سالكة في سبل المعرفة تاركة الطرق المتعرجة المنحرفة عن جادة الصواب.
وعلى هذا فإن الحقيقة تضيع بفعل ركام التزييف والتضليل وجراء جهل الإنسان وضعف مدركاته عن فهم معالم الحقيقة في الحياة وضياع أدوات الوصول إليها بسبب أساليب التضليل والتحريف التي تكوّنها الشبهات والأباطيل والإفتراءات والتخرصات بحيث لا تجعله يبصرها ويعرفها، أو أنها تضيع بفعل التمسك الأعمى والحبّ للعصبة مما يحرفه عن طلبها والقيام بما تمليه عليه المسؤولية مما لا يطيقه أو يخيّل إليه أنه يكلّفه الكثير ماديا أو معنويا من فقدان الأصدقاء والخلان ومصالح أخرى.
فهم التكليف :
ومن الحقائق الحَرية بالإدراك والمعرفة مفهوم التكليف في الطرح الإسلامي وأهمية دراسة أبعاده، ودرك الخطورة من وراء عدم المعرفة أو الإكتراث بما يمليه على الإنسان في أقواله وأفعاله، في حبه وبغضه، في تأييده ومعارضته، في قبوله ورفضه، وفي حركاته وسكناته. فحركة الإنسان تؤطرها الطاعة لله ورسوله (قل أطيعوا الله والرسول ) آل عمران32، وتدور مدار الأحكام الشرعية التي تنظم شؤون الإنسان وفق المنهج الديني. فالإلزام والإلتزام قضايا شرعية لا يحيد عنها من عرف التكليف والطاعة للواجبات الدينية التي تتوافق والمصلحة العامة لبني الإنسان، فحرمة الإعتداء بالقول والفعل يبسط الأمن في المجتمع ويحفظه من مَرَدة الأرض ومن لا يرعوون أو يراعوا الحرمات. ومن خلال ذلك نعرف أن في مقابل الأحكام تكاليف وواجبات تجلب مراعتها السعادة وتضمن حياة الإستقرار للإنسان.
العلم المعرفة:
حواس الإنسان من العين والأذن وغيرهما أدوات إيصال المعلومات. فهو يرى الصور ويسمع الأصوات ثم يكون العقل آلية التمييز ومصدر الحكم. فالعقل أو القلب مركز الرحى وقطب الدائرة فهو يميّز الصورة جميلة كانت أو قبيحة، ويعطي الصوت حظه من الرقة أو القسوة، وهكذا نرى أهمية تفعيل الحواس في تعميق مدركاتنا وعلمنا بالأشياء. وضرورة جعلها في موقعها المطلوب وعدم إبعادها عن القيام بدورها الذي وجدت من أجله.
قال تعالى ( ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجنّ والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون ) الأعراف 179، وفي معرض الحديث عن كفار مكة يقول تعالى ( ولقد مكّنّاهم فيما إن مكّنّاكم فيه وجعلنا لهم سمعا وأبصارا و أفئدة فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيئ إذ كانوا يجحدون بآيات الله وحاق بهم ما كانوا به يستهزؤون) الأحقاف 26.
إن خطورة إقصاء وتجميد هذه القنوات عن دور التفعيل يؤدي إلى نتائج وخيمة في الحياة وفي ألآخرة (.. قالوا سمعنا وعصينا وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم ..) البقرة 93،( ..لقالوا إنما سكّرت أبصارنا..)الحجر 15، ويمكن أن ننظر إلى أن كثيرا من التناقضات والصراعات والحوادث كانت انعكاسا لحالات التذبذب والتقهقر والمعاندة، كما أن الخضوع للحق والتسليم للعدل وسلوك سبيل الصالحين كان أحد آثار تفعيل هذه الآليات التفعيل الإيجابي ( .. وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير ) البقرة 285.
إن هذا العرض القرآني المركّز والإهتمام البالغ الذي نلحظه في كثير من الآيات حول موضوع السمع والبصر والأفئدة ليؤكد مدى خطورة هذه المسألة في حياة الإنسان.
تقليد الآخرين:
من القضايا الأشدّ تضليلا أن يتخذ الإنسان فكرة أو معتقدا أو يدافع وينافح ويبذل التضحيات تلو التضحيات ولكن من أجل أهداف قصيرة أو أفكار منحرفة أو تقديسا وتجليلا لموقف لا يساعد على قبوله معتقد صحيح أو فكرة صائبة، بل يرقى الأمر إلى أخطر من هذا عندما يتحول إلى صنمية جوفاء وعبودية صماء ليس فيها إلا الأخذ والتسليم من غير إعمال للعقل والفكر.
قال تعالى ( .. إنّا وجدنا آباءنا على أمّة وإنّا على آثارهم مهتدون ) الزخرف 22. فما وجدوه من تراث جاهلي وتقاليد بالية منحرفة هو ما يتشبثون به ويعتمدونه دليلا لردّ أي دعوة ولمناقشة أي رسالة فهو عندهم من المسلّمات التي لا تحتمل الخطأ فهم سائرون على نهج آبائهم متمسكون به حتى بذل التضحيات. وهذا نموذج قرآني صارخ للتمسك بمنهج أو فكرة على غير بصيرة وهدى.
ونموذج آخر نرى من خلاله الروح التي تحرك الإنسان وهو يرفض نداء العقل ويدفع الرسالة الهادية على أساس من الهاجس النفسي المفتعل من صعود الداعي إلى موقع الإمامة والرئاسة، قال تعالى ( قالوا أجئتنا لتلفتنا عما وجدنا عليه آباءنا وتكون لكما الكبرياء في الأرض وما نحن لكما بمؤمنين ) يونس 78. هذا هو الردّ الجاهلي على موسى وأخيه هارون (ع) والذى يؤرخ بدقة متناهية وسرد نفسي عميق للمشاعر التي كانت تستحوذ على النفوس وتحرك وضع الرفض للرسالة السماوية بزعم السيطرة والسلطة لتشحن النفوس وتصادر العقول تحت وطأة معارضة الأفكار الموروثة التي هي بمثابة المقدسات التي لا تمسّ ولا تخدش.
الخاتمة :
إن مأساة إنتشار الأوبئة الفكرية القاتلة وتجسيدها عمليا يكمن في تقبل الأوساط الإجتماعية لها، وإتخاذ موقف اللامبالاة واللامسؤلية تجاه ما يحدث مما يجعلها تعشعش بمرور الوقت حتى تسمم الهواء وتلهو عابثة بمقدرات الأمة ومستقبل الأجيال . إن أهمية التدقيق والرقابة مما يدخل في صنع قرار الإنسان يحظى بدرجة عالية من الأهمية لآنه بالتالي يشكل قرار أمة. فالتقليد الذي لا يستند على المعرفة ولا تدعمه الشريعة ليس إلا تخبطا في الجهالة وهو يؤدي إلى ضياع الحق وفوات الفرص وسوء العاقبة. إن القرار مسؤولية جسيمة تلقي بثقلها على الإنسان ليكون المسؤول عن الكلمة التي قالها والموقف الذي اتخذه والحركة التي دفعها أو أوقفها. فلينظر المرء أين يكون قراره وموقفه، وما هي كلماته وحركته، ليزن الأمور بقلب الواعي، وينظر بعين الحريص، ويبذل الجهد ليصل إلى الحقيقة حتى يتخذ ما يُلزمه به التكليف مطمئن النفس ساكن القلب.
ومما تجدر الإشارة إليه والتأكيد عليه هو صدور القرار أو الموقف تجاه أي تكليف أو واجب في الوقت المناسب والظرف الموضوعي المؤاتي لئلا تضيع الفرص وتفوت، لأنها قد لا تتكرر أو لا يسمح الزمان بظروف مناسبة أخرى فيكون ما فات قد ضاع وما لم يُدرك لا يرجع، فالزمان لا يسيرالقهقرى.

  • Currently 90/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
30 تصويتات / 520 مشاهدة
نشرت فى 30 إبريل 2006 بواسطة nsma

ساحة النقاش

عدد زيارات الموقع

234,243