authentication required

<!-- TOKEN --> <!-- /TOKEN -->

هيثم مناع

جاءت حادثة الرسوم المسيئة للرسول الكريم لتعيد فتح النقاش واسعا حول مفهوم الحريات الأساسية والحقوق على الصعيد العالمي، لا لأن هناك قوى خفية تحرك النار تحت الهشيم وحسب، أو لأن سيطرة منطق يميني متطرف على الحكم في أكثر من بلد شمالي جعلت من العداء للآخر أيديولوجية رسمية غير معلنة، بل، أيضا وربما أولا، لأن لكل حادثة معاني ودلالات تتعدى مجرد المقاربة التآمرية.

فلا يمكن صناعة قضية من العدم، وحتى عندما يحدث ذلك، لا بد من متابعة الأسباب والآليات التي حولتها إلى قضية.

<!-- TOKEN --> <!-- /TOKEN -->
"
الحقوق ضربها مفهوم مختزل وفوقي للتدخل يسمح لنفسه بإعادة رسم ثقافة الآخر ومكانه من خارجه ومن فوق رأسه، وفوق كل هذا يحتكر فيه امتياز "القدرة" على تقدير الأشياء وتحديد المواقف ورسم معالم ومعايير الخير والشر
"
أما أن نتوقف عند سفاهات وزيرة الخارجية الأميركية التي تعتقد بقدرة السلطات البعثية السورية على حشد مظاهرات في إندونيسيا، فإن ذلك يزجنا طوعا أو كرها في منطق مغلق الفكر ومغلق النهج، يسعى لتوظيف كل شيء في مقاربات سياسية سطحية وآنية تثير الشفقة على مصدّريها أكثر مما تبعث على الضحك.

هل هي الغيرة على حرية التعبير؟ أين كانت هذه الغيرة عندما أغلق تلفزيون أكراد تركيا أو محطة المنار؟ أين منّا تلك الغيرة التي تصمت بشكل مخجل عن اعتقال صحفيين أبرياء كسامي الحاج في غوانتانامو وتيسير علوني في مدريد؟ غيرة لا تعطي في الصحافة الأوروبية والأميركية حيزا يذكر لكارثة اغتيال واختطاف الصحفيين العراقيين من كل الأطراف المشاركة في الصراع على العراق.

أمام قراءة المزايدات اللفظية في حرية التعبير لا يمكن إلا استحضار جملة الصديق منصف المرزوقي حين يقول "يخيل إليك وأنت تقرأ من يلعب ورقة هذه الحجة أنهم يسخرون من ذكائك ... أو من اطلاعك على جملة المبادئ التي أسست لحرية تؤطرها قوانين تمنع الثلب والتحقير والافتراء وتعاقب عليها. فلا وجود في أي من البلدان الديمقراطية لمبدأ حق في المطلق وحرية غير مشروطة".

جمعت قضية الصور المسيئة ما يسميه المثل العراقي "الكشكول البهائي" من صحيفة في أزمة مالية، وأخرى في أزمة هوية، وثالثة تعيش من الإثارة في غياب أية قضية، إلى وزير بلا وزارة شمالا وأنظمة حكم بدون شرعية جنوبا، مع جماهير محرومة من الدور والفعل والحقوق الدنيا للبشر.

ليس كل من يخوض الصراع يستحق الاحترام، ولا كل من يسعى للحوار بريئا.. فهذه القضية تفتح الأعين على حشد ضخم من التراجع والإحباط والخدع التي جعلت الشك يتحول إلى قيمة سلبية عامة في عالم أصبح التدخل فيه عدوانا على الحق في الاختيار، والحق في التكوين الذاتي للشخصية، والحق في تقرير المصير الفردي والجماعي، والحق في استعمال التقنيات الحديثة من دون رقيب يتابعنا حتى في السيارة الخاصة التي كان الرادار يكتفي بتسجيل رقمها فصار يصور من فيها، وأخيرا وليس آخرا، الحق في المشاركة في صنع العالم.

هذه الحقوق ضربها مفهوم مختزل وفوقي للتدخل يسمح لنفسه بإعادة رسم ثقافة الآخر ومكانه من خارجه ومن فوق رأسه، وفوق كل هذا يحتكر فيه امتياز "القدرة" على تقدير الأشياء وتحديد المواقف ورسم معالم ومعايير الخير والشر.

وهو بذلك يخلق لا محالة إحساسا متصاعدا بالإحباط والريبة بل الخوف من الآخر، خوف يختلط فيه العقلاني بالانفعالي لتضيع الحدود بين مجرد الحذر ومشاعر الحقد.

حققت ثورة الاتصالات تواصل العالم مع العالم بلا حدود، وفي أكثر المناطق محافظة واحتشاما يمكن لمراهق أن يتابع على الفضائيات أفلاما جنسية خليعة، وفي أكثر المناطق علمانية يمكن متابعة البرامج الدينية الأكثر محافظة دون الخروج من المنزل. العالم يكتشف في كل يوم نقاط تشابهه واختلافه، بشكل فوضوي وعشوائي، دون ضوابط ونواظم، قانونية أو أخلاقية.

<!-- TOKEN --> <!-- /TOKEN -->
"
أصبح الدفاع الثقافي الذاتي يحمل معالم مقاومة الهيمنة الثقافية والاقتصادية ورفض الخضوع لصورة نمطية للعالم تفرض على الجميع
"
وفي هذه الفوضى ومنها، يشعر كل مشارك بأنه طرف كامل العضوية في الفعل الثوري المشهدي l’acte révolutionnaire du spectacle .

وبالتالي يشعر أنه قادر على استعماله وتوظيفه، إن لم يكن كمالك لوسيلة الإعلام، ففي الحد الأدنى كموضوع لها.

عالم جعلنا حتى أمس القريب نعيش مع عقدة اسمها الرقابة، باتت في أعماق كل مفكر حر أقوى من عقدة أوديب، ومع نظم رأي الآخر وموقفه في ثنائية الأفضل والأسوأ، الخير والشر، الديمقراطية والإرهاب، الثورة والثورة المضادة، الخ.. ثنائيات جعلت العدو شرطا من شروط الدينامكية الثقافية والسياسية والاقتصادية بالمعنى الأسوأ للدينامكية.

هذا العالم يجعلنا نضطرب اليوم في هذا التشابك الحاد بالسلاح الأبيض والأسود بين أزمة الحضارة وطموحات من هم خارجها، بهدف إعادة صياغة العلاقة بين الحضارات والثقافات.

لم يكن لهذا العالم أن يقدم لنا خيرات ثورته المعرفية ببراءة الأطفال ومثالية ثوريين أصبحوا جزءا من رومانسية التاريخ.

لذا تم توظيف ثورة الاتصالات لخدمة منظومة اقتصادية سائدة ومنظومة معرفية مهيمنة، كما أصبح الدفاع الثقافي الذاتي يحمل معالم مقاومة الهيمنة الثقافية والاقتصادية ورفض الخضوع لصورة نمطية للعالم تفرض على الجميع.

في كتاب "الروح الطارق" l’esprit frappeur  يذكّر الشاعر المصري السريالي جورج حنين بأوربة البائسة مرتين. يعنينا هنا أن نتوقف عند المرة الأولى، عندما كافحت أوروبا هذا الشرق وهو يمثل فرصة سانحة للعظمة.

يدوّن مؤرخو الأديان أن أوروبا التي فضلت قرونها الوسطى على حضارة العرب، كانت تقّدم رسول الإسلام في صورتي نبي العنف ونبي الشهوة.

هل بالصدفة أن تتكرر هذه الصورة في مسابقة تنظمها صحيفة لقرائها من أجل رسم تعبيري عن شخصية الرسول الكريم؟ هل هي الوعكة المعاصرة للحضارة الغربية التي بدأت بالرغبة الجامحة لعالمية قيمها l’universabilité de ses valeurs وتكاد تعد نعشها بانتكاس مصادر إلهامها إلى الصورة السلبية المتعالية في التعاطي مع الآخر؟

الآخر ليس، ولا يمكن أن يكون حتى في أحسن أحواله، كتلة بشرية متجانسة ومتماسكة تعبر عن الوحدة الأسطورية للأمم. نحن أمام صهاريج ثقافية هائلة.

وهي إن كانت تحمل عناصر مشتركة ومختلفة عن النسق التقليدي الذي تسير فيه العولمة الثقافية، فلا شك بأنها تضم كل عناصر الخضوع والثورة، التلقيح والعقم، التأثير والتأثر، التعبئة والانفجار العشوائي، القوة والضعف.

أليس من المثير للتساؤل أن تكون المناطق الأكثر تأزما بالمعنى الجيوسياسي هي المناطق الأكثر عنفا في رد فعلها وتعاملها مع أزمة الصور المسيئة؟

لكن كيف يمكن أن ندخل في منطق مواجهة رمزية بين الكل الإسلامي والكل الأوروبي، في فترة لا يمكن لعاقل أن يبصر فيها مخرجا من الهيمنة أحادية القطب للعالم بدونهما؟

هل يمكن أن نسمح لأنفسنا بهذا الترف في حقبة دخول العالم في منطق "تسونامي" غير طبيعي وغير إسلامي؟ تسونامي من نوع خاص، اسمه عولمة حالة الطوارئ وهيمنة القوانين الاستثنائية.

أي بتعبير آخر، تراجع منظومة حقوق الإنسان على الصعيد العالمي والاستهتار بالقانون الدولي والقواعد الأخلاقية من قبل الطرف الأكثر قدرة على الفعل العسكري والاقتصادي في العالم اليوم.

في مواجهة الجمع بين عنجهية القوة ومحدودية الخطاب السياسي للإدارة الأميركية، ثمة شعور قوي بأن هذا العالم يقبع في قارب مختل التوازن، ليس الربان فيه العنصر الأكثر حكمة وحنكة وخبرة.

<!-- TOKEN --> <!-- /TOKEN -->
"
تراجع الأقوى عن القيم التي أوصلته لمواقعه، يخلق حالة خوف عامة عند أصحاب كل القيم على اختلافها وغناها وتنوعها
"
كما أن تراجع الأقوى عن القيم التي أوصلته لمواقعه، يخلق حالة خوف عامة عند أصحاب كل القيم على اختلافها وغناها وتنوعها.

فعندما تهتز نقاط الارتكاز يعود كل مشارك في اللعبة العالمية إلى دائرته الضيقة، باعتبارها النواة الصلبة القادرة على بث روح الطمأنينة الإنسانية الأولية في وجه غياب الأمن بالمعنى العام.

كنا في التسعينيات نناضل لإصلاح الأمم المتحدة، أما اليوم فنناضل للمحافظة على مكاسب ولادتها. كنا نطمح لنسبية الدولة وعالمية الحقوق، وبتنا نخشى على مكتسبات الدولة الاجتماعية l’Etat providentiel وحلم دولة الرفاه. كنا نبحث عن المشترك العالمي، فصار الخوف من أمركة العالمي يزج الناس في خصوصياتهم.

من الملاحظ أنه بالرغم من الاعتداء على القرآن الكريم في غوانتانامو والتعرض للمساجد في العراق، بقي العلم الأميركي خارج نطاق الحرق في أزمة الصور المسيئة.

فهل ذلك لأن مقاطعة الولايات المتحدة أصعب من مقاطعة بلد عدد سكانه أقل من 6 ملايين نسمة؟ أم أن غباء وتطرف رئيس الحكومة الدانماركية سبب كاف لأن يتحول بلد صغير إلى رمز سلبي بكل معنى الكلمة؟ وهل مهمة البرلمان الأوروبي دخول منطق "انصر أخاك ظالما أو مظلوما"؟

المعارك التي تبدو في الظاهر سهلة هي أحيانا الأصعب في العمق. فأوروبا "العجوز" تحديدا، هي القادرة اليوم، بمؤازرة العالم الإسلامي، على لعب دور صمام الأمان الإستراتيجي والثقافي والسياسي على الصعيد العالمي، صمام أمان أمام سياسة أميركية متهورة، واستقالة صينية متعمدة، وإعادة رسم للخارطة في أميركا اللاتينية.

فما معنى خلق شرخ أوروبي إسلامي في هذا الوضع بالذات؟ ولخدمة من استمرار الأزمة وزيادة الاحتقان والتوتر والعنف بين الشعوب؟

<!-- TOKEN --> <!-- /TOKEN -->



  • Currently 120/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
40 تصويتات / 679 مشاهدة
نشرت فى 25 إبريل 2006 بواسطة nsma

ساحة النقاش

عدد زيارات الموقع

233,903