لم يهتم دين من الأديان ـ فيما نعلم ـ بقوى الإنسان العقلية كما اهتم الإسلام الحـنيف بها، ولقد استفاضت النصوص الصحيحة الواردة عن المعصومـين (ع) التي تتناول مسألة العقل ودوره في مسيرة الإنسان المسلم.
ولهذه الأهمية التي يوليها الإسلام لطاقة الإنسان العقلية، فقد اعتاد علماء الحديث الأقدمون أن يفتتحوا مؤلَّفاتهم بباب يُخصَّص للحديث عن العقل والجهل. أما كتاب الله العزيز فقد اهتمّ اهتماماً بالغاً بالعقل، وربط قضية الانفتاح على الرسالة وأهدافها بالقوى العقلية التي حباها الله تعالى للإنسان:
(وَمِن ثَمَراتِ النَّخيلِ والأعنابِ تَتَّخِذونَ مِنه سَكَراً وَرِزقاً حَسَناً إنّ في ذلك لآيةً لقوم يعقِلون ) .
(ثُمَّ كُلي من كلِّ الَّثمَراتِ فاسلُكي سُبُلَ ربِّك ذُلَلاً يَخرُجُ مِن بُطونِها شَرابٌ مُختلِفٌ ألوانُه فيه شِفاءٌ للنّاسِ، إنّ في ذلِكَ لآيَةً لقوم يَتَفَكَّرُون ) .
(إنّ في خلقِ السَّمواتِ والأَرضِ واختلافِ اللّيلِ والنَّهارِ لآيات لاُولي الألباب ) .
(أَفَلَمْ يَسيرُوا في الأرضِ فَتَكُونَ لَهُم قُلُوبٌ يعقِلونَ بها، أو آذانٌ يَسمَعُون بِها فإنَّها لا تَعمى الأبصارُ ولكن تعمى القُلوبُ الَّتي فى الصُّدور ) .
ومن أحاديث المعصوم (ع) بهذا الشأن نذكر ما يلي:
عن محمّد بن مسلم، عن أبي جعفر (ع) قال: لمّا خلق الله العقل استنطقه ثمّ قال له: أقبل فأقبل، ثمّ قال له: أدبِر فأدبَر، ثمّ قال: وعزَّتي وجلالي ما خلقت خلقاً هو أحبُّ إليَّ منك ولا أكملتك إلاّ فيمن أحبُّ أما إنّي إيّاك آمر وإيّاك أنهى وإيّاك أُعاقب وإيّاك أُثيب».
عن أحمد بن إدريس عن محمد بن حسان عن أبي محمد الرازي، عن سيف بن عميرة، عن إسحاق بن عمار قال:
«قال أبو عبدالله (ع): من كان عاقلاً كان له دين، ومن كان له دين دخل الجنّة».
وعن أبي جعفر (ع) قال:
«إنّما يداقُّ الله العباد في الحساب يوم القيامة على قدر ما آتاهم من العقول في الدُّنيا».
وضمن عملية الاهتمام بالقوى العقلية لدى الإنسان حدّد الإسلام الحـنيف مهامّ العقل الأساسية، وأوضح مساحة دائرة الصلاحيات الممنوحة له، والحقول التي يجوز له التحرّك خلالها، وبذلك استطاع الإسلام أن يجنِّب عقل المسلم من ارتياد عوالم ومجالات يضلُّ ويزيغ بارتيادها.
فمساحة المعرفة صحيح أنّها واسعة جداً إلاّ أنّ أدوات الوصول إليها تختلف من حقل لآخر ومجال لآخر.
فمن حقول المعرفة ما يتمّ حصوله من خلال الملاحظة والتجربة واستعمال الحواسّ الخمسة، ككثير من حقول المعرفة الطبيعية في الأرض والسماء والنبات والحيوان والإنسان وما إلى ذلك.
ومن المعرفة ما لا يمكن الحصول عليه إلاّ من خلال الوحي المقدس، والإلهام والتسديد، كمعارف التشريع الإلهي، ومبادئ الرسالات والعلوم الإلهية التي يتلقاها الأنبياء وأوصياؤهم صلّى الله عليهم أجمعين، الأمر الذي لا يتسنّى للعقل ولا للتجارب العملية أن ترتاده، نعم بمقدور العقل في هذا الحقل من المعرفة أن يستوعب أو يضع خطّة لإيصال هذه المعلومات إلى الآخرين مثلاً.
ومن المعرفة ما يعتمد كلّياً على العقل، كاستخلاص النتائج، والحـكم على صحّة الوقائع أو خطئها، وتطبيق القواعد على التفصيلات والربط بين الظواهر واستنباط ما بينها من عوامل مشتركة، وأمثال ذلك.
على أنّ من الجدير ذكره أنّ نفوذ العقل حاكم على انجازات التجارب والملاحظات، كما في حالة الحكم على صحة الشيء أو خطئه، أو الربط بين الظواهر، على أ نّه مع ذلك يبقى للتجارب والملاحظات دور كبير في تحقيق الانجازات العلمية، بيد أنّها تقف عند حدود جمع المعلومات، وتحضير «موادها الخام» لتضعها بين يدي العقل ليمارس دوره في إكمال عمليات الوصول للحقائق الكبرى والنتائج العلمية!
ومن أجل ذلك فإنّ عمليات المخـتبر لا تحقّق المطلوب ما لم يتدخل العقل ليحكم على التجارب ويدير عمليات استخلاص النتائج، وتوجيه عمليات الوصول للحقائق، وهكذا فإنّ كافة الملاحظات والتجارب لا تجري أبداً دون الاعتماد على العقل، وإن كانت في بداية العمل تعتمد على ما تعتمد عليه من ملاحظات، وتجارب!
ومن هنا بمقدورنا أن نقول إنّ إسحاق نيوتن المكتشف لقانون الجاذبية لم يتوصّل إلى إنجازه العلمي المعروف بالملاحظات والتجارب فحسب، وإنّما أخضع تجاربه وملاحظاته للربط والاستنتاج، وهما أمران يباشرهما التفكير العقلي، الأمر الذي ينطبق على كافة الأعمال والانجـازات العلمية التي حققها علماء الطبيعة بالأمس وفي الحاضر وفي المستقبل!
وممّا تجدر الإشارة إليه أنّ المعلومات والمبادئ التي يتلقاها النبي والوصي (ع) من خلال الوحي أو الإلهام من الله عزّوجلّ لا تحتاج إلى إعمال كبير للعقل بالنسبة للمتلقي الأوّل وهو النبي أو الإمام (ع) بيد أنّها بالنسبة للمبلَّغين من البشر تحتاج إلى الجهد العقلي من أجل استيعابها وإدراك مراميها.
وهكذا فإنّ لكلّ من الوحي والعقل والحواسّ مهماته، وحدوده وآفاقه، بيد أنّ مرجعية العقل في ضوء الإسلام تبقى متميزة في حقول المعرفة كلّها.
إنّ هذا الفهم لقضية المعرفة وأبعادها صريح في وضوحه من خلال آيات الكتاب العزيز وسنّة المعصوم (ع).
يقول تعالى حول المعرفة التي يتلقاها النبي (ص) من خلال الوحي المقدس:
(وما كانَ لِبَشَر أن يكلِّمَهُ اللهُ إلاّ وحياً أو مِن وراءِ حِجاب أو يُرسِل رَسولاً فيوحي بإذنِهِ ما يشاءُ إنّه عليٌّ حكيمٌ وكذلك أوحَينا إليك رُوحاً من أمرِنا ما كُنت تدري ما الكتابُ ولا الايمانُ ولكِن جَعلناهُ نُوراً نَهدي بِهِ مَن نَشاءُ مِن عِبادِنا وإنّك لتهدي إلى صراط مُستَقيم ) .
ويقول الإمام علي بن موسى الرضا (ع) حول درجات التلقّي من الله تعالى بالنسبة للرسول والنبي والإمام (ع):
«كتب الحسن بن العبّاس المعروفي إلى الرضا (ع): جُعِلتُ فداك ما الفرق بين الرسول والنبي والإمام؟ قال: فكتب أو قال: الفرق بين الرسول والنبي والإمام أنّ الرسول الذي ينزل عليه جبرائيل فيراه ويسمع كلامه وينزل عليه الوحي وربّما رأى في منامه نحو رؤيا إبراهيم (ع)، والنبي ربّما سمع الكلام وربّما رأى الشخص ولم يسمع، والإمام هو الذي يسمع الكلام ولا يرى الشخص».
وحول مفهوم الإسلام الحنيف في تحصيل المعرفة التي تأتي من طريق غير الوحي يقول تعالى:
(أفَلَمْ يَسيروا في الأرضِ فَتَكونَ لَهُم قُلوبٌ يَعقِلُونَ بِها...).
حيث تجـسّد الآية المباركة أنّ المعرفة تعتمد على التتبّع، والملاحظة والمشاهدة والتجربة واستخلاص النتائج، والربط بين الظواهر التي تلتقي معها الحواس بواسطة العقل الذي أفاضه الله عزّوجلّ على العباد وميّزهم به عن سواهم من المخلوقات.
وفوق هذا وذاك فقد وضع الإسلام ضوابط وقواعد لتعصم العقل من الإنحراف، وتخطّي الأهداف التي يرجو الإسلام تحقيقها.
فقد نأى الإسلام الحنيف بالعقل المسلم عن أشكال التقليد الأعمى، والتحجّر البغيض، وحال بينه وبين الخرافات والشعوذة وأعلن حربه وشجبه للمعطِّلين عقولهم عن التفكير الحرّ، كما هاجم أسرى التقاليد المنحرفة، وعاب على المتحجّرين جمودهم.
قال تعالى في كتابه العزيز:
(قالوا: بَل نتَّبعُ ما ألفَيْنا آباءَنا أوَ لو كانَ آباؤهُم لا يعقِلونَ شيئاً ولا يَهتَدون ) .
(إنْ يَتَّبِعونَ إلاّ الظَّنَّ، وإنَّ الظَّنَّ لا يُغني من الحقِّ شيئاً ) .
(وَلَقَد أضَلَّ مِنكُم جبِلاًّ كثيراً أفَلَمْ تَكونوا تَعقِلون ) .
وهكذا صار بمقدور الإسلام الحنيف أن يتجاوز الخطأ التأريخي الذي اقترفته المسيحية الرسمية في القرون الوسطى حين فرضت القيود على العلم والعلماء، وتبنّت مفاهيم، وتصورات أطلقت عليها اسم «الحقائق الكنسية» وبذلت كلّ وسع لِكَمِّ أفواه العلماء الذين يخالفون نظرياتها «العلمية» في أيّة قضية تمسُّ الكون والإنسان.. إلاّ أنّ الموجة «العقلية» التي اجتاحت أوروبا في بدايات النهضة الصناعية، اجتاحت متبنّيات الكنسية، وألقت بها خارج التأريخ ، كما هزّت القيم المسيحية أمام موج من التشكيك بكلّ مبادئها وآرائها بناءً على ذلك الخطأ الذي ارتكبه رجال الدين!
إلاّ أنّ طموح العقليين وهوسهم في أوروبا جعلهم يخضعون كل شيء للعقل، وتحميله فوق ما يحتمل وتكليفه بخوض أمور ليست من شأنه أن يخوضها، ممّا أوقعهم في متاهات فكرية لا طائل تحتها الأمر الذي تسبّب في نجاح الموجة الحسّية التي اجتاحت أوروبا بعد ذلك وشكّكت في كلّ شيء لا يخضع لأدواتها ممّا تسبّب في شكِّهم بالعقل ذاته لأ نّه لا يقع تحت وسائلهم المادية.
وبين تلك التيارات العديدة ـ على ما بينها من تناقض ـ بقي العقل عند المسلمين على منأى من الهزّات العنيفة التي زلزلت الذهنية الأوروبية عبر العديد من القرون فبقي محافظاً على موقعه الطبيعي في ساحة الفكر فيما أخذت التجربة والملاحظات دورها في دنيا الفكر الإسلامي كذلك.
وكان للنهج الواقعي الذي يلتزمه الإسلام في وعيه للإنسان وإدراك قواه، ومدى فاعليتها الفضل الأكبر في سلوك المسلم لأقوم السبل في تحصيل المعرفة، فلا تفريط بالحواس لحساب العقل ولا تفريط بالعقل لأجلها.
ولقد أنتج هذا النهج المسلم يومذاك ثماراً طيّبة في دنيا الإنسان منها:
1 ـ انفتاح العقل المسلم على الوجود الرحيب وانطلاقه في أرجائه بحثاً عن المعرفة دون أن تكون ثمّة منطقة محرّمة عليه، اللّهمّ إلاّ إذا كانت ليست في حدود طاقاته وإمكاناته، كحقائق علم الغيب مثلاً.
أمّا اكتشاف حقائق هذا العالم، والبحث عن القوانين التي تحكم أجزاءه والقوى الفاعلة فيه، فهي من اختصاص العقل الإسلامي ووظائفه.
وفي الكتاب العزيز الكثير من الآيات الكريمة التي تحضُّ المسلم على اكتشاف حقائق الوجود، والتفاعل معه، والإفادة منه بكلّ ما يملك من وعي وإدراك:
(أفَلا يَنْظرونَ إلى الإبلِ كَيفَ خُلِقَتْ وإلى السَّماءِ كَيفَ رُفِعَتْ وإلى الجِبالُ كَيْفَ نُصِبَتْ وإلى الأرضِ كَيفَ سُطِحَتْ ) .
(أفَلَم يَسِيرُوا فِي الأرضِ فَتَكُونَ لَهُم قُلوبٌ يَعقِلُونَ بِها ) .
(أَلمْ يَنْظُروا في مَلَكُوتِ السَّمواتِ والأَرضِ وَما خَلَقَ اللهُ من شَيء ) .
(أَوَلَمْ يَنْظُروا إلى الأَرض كَم أنبَتنا فيها من كلِّ زَوج كَريم ) .
2 ـ ولقد أثمرت هذه الدعوة القرآنية المفتوحة ثمارها اليانعة خلال التجربة الإسلامية ـ رغم انتكاستها بعد حين ـ فتبوّأ العقل الإسلامي مركز الريادة في دنيا الناس، حيث حقّق المسلمون عبر تجربتهم الحضارية إنجـازات فكرية وعلمية مدهشة على شتّى الأصعدة يشير إلى ذلك:
أ ـ إرساء قواعد الكثير من العلوم، كعلم أصول الفقه وعلم النحو العربي وعلم البصريات والاجتماع وغيرها.
ب ـ المساهمة في إنضاج العديد من العلوم الأخرى وإثرائها بأساليب ومعلومات وأسس جديدة، كعلم الطبّ والفلك والرياضيات والكيمياء والفلسفة والنبات وغيرها.
3 ـ ولقد كان للنهضة العلمية الرائدة التي تميّزت بها التجربة الإسلامية في كلّ من بغداد والقاهرة وقرطبة وغـيرها من مدن الإسلام الكبرى أثرها البالغ في إرساء قواعد التقدّم العلمي الرائع الذي تحظى به أوروبا اليوم، ولازالت الجامعات العلمية الكبرى في أوروبا ومؤرِّخو النهضة الحديثة يذكرون بمزيد من الاعتزاز مآثر أجيال من علماء المسلمين الذين أرسوا القواعد التي أقامت عليها أوروبا نهضتها العلمية الحاضرة، نذكر منهم على سبيل المثال:
ـ يعقوب الكندي، وابن رشد، وأبو نصر الفارابي، والصنعاني وغيرهم في الفلسفة.
ـ وأبو علي بن سينا، وأبو زكريّا الرازي، وأبوالقاسم الزهراوي، ومحمد التامير وغيرهم في الطبّ.
ـ والخوارزمي، وجابر بن حيّان، ونصير الدين الطوسي، وأبو عمر القلصاوي في الرياضيات.
ـ وجابر بن حيّان وأمثاله في الكيمياء.
ـ والحسن بن الهيثم في علم البصريّات.
ـ وابن خلدون في علم الاجتماع والفلسفة الاجتماعية.
ـ وإبراهيم الزرقاني ، وعلي بن يونس غيرهم في الفلك ... وغيرهم كثير، ولا تزال آراء بعض علماء الإسلام تحتلُّ مكاناً رفيعاً في الجامعات الأوروبية الحديثة.
ومن الطبيعي أن تؤتي شجرة النهضة الإسلامية ثمارها يانعة على أيدي أجيال من علماء الإسلام ومفكِّريه كنتيجة للنهج الإسلامي القويم في تحصيل المعرفة «الذي يدعمه العقل والملاحظة والتجربة فضلاً عن العلوم التي أتاحها الوحي المقدّس»، حيث تمثّل تلك الوسائل روافد الفكر الإنساني.
ولقد أشاد الكثـير من عـلماء الغرب بالمنهـج الإسلامي المتبنّى في مضمار تحـصيل المعرفة، فيقول الأستاذ Briffault في كتابه: Making of hum anity :
«إنّ روج بيكون درس العلم العربي دراسةً عميقةً ، وإنّه لاينسب له ولا لسميّه الآخر أيُّ فضل في اكتشاف المنهج التجريبي في أوروبا، ولم يكن روجر بيكون في الحقيقة إلاّ واحداً من رسل العلم والمنهج الإسلامي إلى أوروبا المسيحية ، ولم يكفّ بيكون عن القول لمعاصريه بأن معرفة العرب وعلمهم هما الطريق الوحيد للمعرفة الحقّة».
ويقول سيديو:
«الحركة العلمية عند العرب تتميّز بالانتقال من المعلوم إلى المجهول والتحقيق الدقيق في ظواهر السماء ورفض كل حقيقة كونية لم تثبت إلاّ عن طريق الملاحظة الحسّية».
يقول مسيو ليبري:
«لو لم يظهر العرب على مسرح التأريخ لتأخّرت نهضة أوروبا عدّة قرون».
الأمر الذي يكشف عن مدى الآثار التي تركها الفعل الإسلامي الحضاري عموماً والعلمي خصوصاً على مسيرة الإنسان المعاصر.
4 ـ ومن ثمار المنهج الإسلامي المتبنّى في تحصيل المعرفة تعرُّف العقل الإسلامي على الكثـير من أسرار التشريع الإلهي وحكمته وتمتّعه بالقدرة على فهم الصور التطبيقية للشريعة عبر التحوّلات في حياة البشرية من ناحية وسائل المعيشة وتطوّراتها ومن ناحية التغيرات المطردة في مضمار المدنية بشتّى شعبها، في الصناعة والزراعة والتنظيمات الاجتماعية وتطوراتها وغير ذلك.
على أنّ الذي ينبغي إدراكه هنا: أنّ العقل الإسلامي حين يطرح العديد من الصور التطبيقية للشريعة الإسلامية عبر الزمن، أو حين يستنبط الحـلول لمشاكل الإنسان المستجدّة فإنّما يمارس دور المكتشف للأحكام والمفاهيم فحسب، لأ نّه يتعامل مع نصوص شاملة لجميع جوانب الحياة الإنسانية، الأمر الذي يمارسه الفقهاء المجتهدون دون سواهم، حيث أنّ المجتهد في الوعي الإسلامي إنّما يمارس دور المكتشف للحكم الشرعي الموجود بين ثنايا الكتاب
العزيز وسنّة المعصوم (ع)، وعليه فحسب أن يبذل وسعه ـ وفقاً لأسس وشروط معيّنة ـ لاستحصال الحكم أو المفهوم ذي الطبيعة الشرعية.
ومهمة المجتهد حين تحتلّ هذا الموقع وتأخذ هذه الأبعاد، فإنّ ذلك ناجم عن روح الشمول التي تمتاز بها شريعة الله الخاتمة لكلّ مشاكل الإنسان الحياتية، أما رفض الشريعة لصيغ الاجتهاد قبال نصوصها الصحيحة، فهو مبدأ ثابت في كتاب الله العزيز وسنّة المعصوم (ع)، يقول عزّوجلّ:
(وما كانَ لمؤمن ولا مؤمنة إذا قَضَى اللهُ وَرَسولُهُ أمراً أن يكونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِن أمرِهِم وَمَن يعصي اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَد ضَلَّ ضَلالاً بعيداً ) .
ونريد أن نثبت هنا عبر هذه الإشارة إلى دور الفقيه المجتهد في الشريعة الإسلامية وما يحتلّه العقل في دنيا الفكر الإسلامي «حتى الأساسي منه» كالأحكام الشرعية والمفاهيم والمبادئ العامة والصور التطبيقية للشريعة عبر العصور، وندرك الأهمية البالغة التي يوليها الإسلام للعقل المسلم ومدى الثقة التي يمنحها إياه بناءً على التزامه بمنهج قويم في وسائله ومتبنّياته ومنطلقاته.
ولابدّ من التأكيد في نهاية المطاف حول مكانة العقل في الإسلام على أنّ المنهج الإسلامي المتبنّى في تحصيل المعرفة بقدر ما يعبّر عن سلامة خطّه وصحة مساره فإنّه يطرح بكلّ قوّة ووضوح مبدأ الواقعية التي يلتزمها الإسلام الحنيف كروح يسري في جميع متبنّياته الرسالية، ومفاهيمه وأحكامه، الأمر الذي يتجلّى من خلال رعاية الإسلام للعقل وإزاحة كلّ العقبات عن طريقه ، هذا فضلاً عن فسح المجال لوسائل المعرفة الأخرى لأداء (دورها) في دنيا الفكر الإسلامي.
وإذا كان العقل المسلم قد توقّف اليوم عن تحقيق ما تصبو إليه البشرية في عالم المعرفة، فإنّ ذلك جاء كنتيجة طبيعية لوأد التجربة الإسلامية وغياب المناخ المناسب الذي يوفّر للعقل المسلم الازدهار والنموّ والعطاء. ولنا وطيد الأمل أن يحتلّ العقل الإسلامي

  • Currently 75/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
25 تصويتات / 573 مشاهدة
نشرت فى 9 فبراير 2006 بواسطة nsma

ساحة النقاش

عدد زيارات الموقع

233,949