... هل وصل شريط السينما الى نهايته بفضل تطور التقنية الرقمية؟

 

قدم فيلم «ليتل تشيكن» بالابعاد الثلاثية على شاشات مدن «ديزني»
يقف رجلان على ضفاف بحيرة متلألئة. أحدهما صحافيّ عاقد العزم على كشف فضيحة حكومية، والآخر مصدر يؤمّن له بتوتّر معلومات السبق الصحافيّ. إنّه أحد مشاهد فيلم بوليسيّ دانمركي عنوانه «كينغس غايم» King’s Game. لا يكمن التشويق في الحدث بحدّ ذاته، بل في مشهديته البصرية. فلون البحيرة أزرق رائع وحيويّ لدرجة تشعر المشاهد بالحاجة إلى مدّ يده لتغمرها المياه. الصورة نقيّة والألوان واضحة بحيث يتمكّن المشاهد من رؤية التقليم الخفيف في قماش بزّة الصحافيّ. وقد عُرض الفيلم في لندن لشهرين متواصلين.

هل دار في خلد الجمهور انه شاهد أول فيلم تجاري لا تعرضه الصالات باستخدام شريط «السيلوليد» البلاستيكي الملمس، والذي يوضع في بكرات كبيرة، تثبت في آلة العرض، لتدور وتُطلق الصور الى الشاشة؟ في فيلم «بحب السيما» (هاني فوزي-2005) نرى طفلاً يدخل السينما للمرة الاولى، ويؤخذ بمنظر الاشعة الصادرة من كوة في أعلى السينما، حيث الحجرة التي توضع فيها تلك الآلة في العادة. وفي الفيلم المُذهل «سينما باراديزو» لا يكتفي الفيلم بالدخول الى تلك الغرفة، بل نرى العامل فيها يمد لسانه ليتذوق شريط السيلوليد... حرفياً. والأرجح ان السينما توشك على وداع تلك الاشياء كلها. وقد عُرض فيلم «كينغس غايم» من دونها، لأنه عُرض عبر اجهزة رقمية كلياً!

وداعاً للأفلام مئات الامتار وأشرطتها

نتجت الصور الرائعة لفيلم «كينغس غايم» من نظام رقميّ جديد للسينما، يجمع بين جهاز عرض ذي تقنيّة متطوّرة وكومبيوتر.

والمعلوم ان آلة العرض التقليدية تتعامل مع بكرات كبيرة، تحتوي على فيلم مصور بأشرطة طولها 3600 متر، وبسماكة 35 ميلليمتراً. وفي المقابل، يعتمد النظام الجديد على عرض الفيلم من الكومبيوتر بمجرّد الضغط على الزرّ المناسب. ويتألف الفيلم الرقمي من مجموعة من الملفات الالكترونية. ويحفظ على قرص صلب، او بطاقة ذاكرة. ولذا، لا تتأثر نوعية الصورة بتكرار العروض، على عكس الفيلم العادي الذي يتعرض لأثر الغبار والحرارة والتلطخ بالأيدي، فتنخفض جودته مع كل عرض.

وقد عُرض فيلم «كينغس غايم» في لندن في صالة سينما «كيرزون»، التي تحتوي على واحد من 238 نظاماً رقمياً ينتهي العمل من تثبيها خلال العامين المقبلين في مجموعة من الصالات في بريطانيا وشمال ايرلندا. وتعتبر هذه الخطوة بداية الانطلاقة العالمية للأنظمة الرقمية في السينما، التي تجيء بعد أكثر قرن من انطلاقة اشرطة السينما التقليدية في العام 1896، على يد الاخوين لوميير الفرنسيين. ويعتبر الأمر بداية لتغييرات مشابهة في بقية أنحاء أوروبا وآسيا والولايات المتّحدة. وتهدف للانتقال بالعرض السينمائي إلى عصر الأنظمة الرقميّة.

وتعتبر تقنية الكومبيوتر أضخم حدث في عالم الأفلام منذ انتقالها من الابيض والاسود الى الألوان. وقد اخترقت منذ الآن غالبية العمليات التي تتضمنها صناعة الأفلام. فقد باتت المؤثرات الخاصة Special Effects والإعداد للإنتاج السينمائي، وكذلك مراجعة المشاهد بعد تصويرها، تجرى بطريقة رقمية. وأدى الأمر الى اختفاء آلة المفايولا القديمة، التي صنعت روائع الاعمال السينمائية. ويزداد عدد الأفلام التي يتمّ تصويرها بواسطة معدّات رقميّة باضطراد. وأخيراً، وليس آخراً، هناك سلاسل من الافلام التي يُعد الكومبيوتر شخصياتها، ولا دور للبشر فيها سوى... الاصوات. لقد بدأت تلك التقنيات تتضح مع الفيلم «الهجين»، الذي مثّل فيه بشر وشخصيات من الكومبيوتر «من نصب مكيدة للأرنب روجر»؟، وتوضحت في فيلم «مير ميد»، ووصلت الى أفلام مثل «شريك» (الغول) بقسمية و «انكريدابلز» (الخارقون) و «نيمو» و «حكاية قرش» و «ليتل تشيكن» وغيرها. لقد باتت معظم معدّات السينما رقمية، فلماذا إذاً ما زلنا نشاهد الأفلام بواسطة تقنية عرض سادت لأكثر من قرن؟

مال وتكنولوجيا...

رافقت الاشرطة السينما لأكثر من قرن
كان من المفترض أن تبدأ ثورة صناعة الأفلام الرقمية منذ العام 1999 عندما أطلق المخرج الاميركي جورج لوكاس فيلم «تهديد الشبح» The Phantom Menace. واستخدم تقنيات تصوير متقدمة ليظهر أفضلية العرض بالاجهزة الرقمية. ولكنّ قلّة من المنتجين حذت حذوه، إذ خشي الجميع أن يؤدّي التقدّم السريع في التكنولوجيا إلى جعل المعدّات تبدو قديمة الطراز بعد فترة وجيزة من اطلاقها، مما يرفع كلفة الانتاج. كما لم يتفقوا على الجهة التي ينبغي أن تتحمّل كلفة التغيير في آلات العرض: صالات السينما أو الاستوديوات أو الموزّعون؟ وبعد مرور 6 سنوات على «تهديد الشبح»، انتقلت 400 صالة عرض فقط من أصل 120 ألفاً إلى النظام الرقميّ.

ولكنّ هذا الواقع قد يتغيّر قريباً. ففي صيف 2005، أقدمت 7 استوديوهات رئيسة في هوليوود على نشر ملفّ من 176 صفحة يوضح المعايير التقنية للتغيير الرقمي، بدءاً من سرعة الإعادة وتضارب الألوان، إلى نوعية الصوت والتسجيل الآمن.

ومثّل الأمر دعوة الى اعتماد النظام الرقميّ سينمائياً. أما بالنسبة إلى تحمّل كلفة التغيير، فقد تجنّب مجلس السينما في بريطانيا الارباك بتخصيصه 20 مليون دولار من عائدات اليانصيب لدعم لأنظمة الرقمية في صالات السينما. وتبلغ كلفة النظام نحو 100 ألف دولار، مقارنة بكلفة 30 ألف دولار للنظام التقليدي. ويوضح ريتشارد ناي من شركة «كريستي» الكندية المتخصصة في صناعة أجهزة العرض، ان بريطانيا اشترت نحو 200 جهاز عرض جديد.

غير أنّ تحمّل التكلفة لا يقتصر على أجهزة العرض وحدها. فمثلاً، هناك تكلفة مثل نقل الأفلام من الأشرطة إلى الأجهزة الرقمية، وتخزينها على اقراص مناسبة، ونقلها إلى صالات عرض الأفلام.

وترى شركة Avica التي تصنع الكومبيوتر المُخصص لعرض الافلام الرقمية، ان ثمة حاجة الى رقمنة 500 شاشة عرض في ايرلندا باللجوء إلى تمويل خاص. وتحاول شركة «اكس دي سي» XDC البلجيكية، تحويل 500 شاشة عرض في مختلف أنحاء أوروبا، الى الاسلوب الرقمي. وترى الحل في فرض رسم شهري صغير على صالات العرض.

وفي تطور لافت، وضعت مدن «ديزني» الشهيرة Disney أخيراً 84 جهازاَ رقميّاً لعرض النسخة الثلاثية الأبعاد لفيلم «ليتل تشيكن» Chicken Little، ويقول نائب رئيس تلك السلسلة من المدن الترفيهية كريس كاري إنّ التفاوض هو الحلّ: «يستطيع العاملون في مجال الاستعراض والتوزيع وتأمين التكنولوجيا أن يساهموا في تكلفة البنية التحتية وتطوير الفنّ».

افلام السينما بالقمر الاصطناعي

هل باتت السينما وصالاتها في قبضة التكنولوجيا الالكترونية؟
ويصرّ قطاع صناعة السينما على أنّ الحصول على صورة أجمل ليس السبب الوحيد الذي يجعل الطريقة الرقمية أفضل. إذ من الممكن أن تنفق هوليوود حالياً أكثر من مليار دولار سنوياً في صناعة نسخ الأفلام وتوزيعها. ويستطيع النظام الرقمي أن يسرّع هذه العملية: ففي الإمكان نسخ الأفلام الرقمية بكلفة أقلّ 5 مرات منها للأشرطة السينمائية، وحفظها على ذاكرة صلبة بحجم حافظة الأوراق، مما يجعل عملية نقلها أسهل وأرخص منها لأشرطة الأفلام الثقيلة. ومن الممكن ايضاً بث تلك الأفلام بواسطة القمر الاصطناعيّ أو الكبل، وإلغاء كلفة النقل نهائياً. كما يمكن تقديم مجموعة من الأفلام أكثر تنوّعاً لأنّ الاستوديوات ستتمكّن من قبول مشاريع فيها نسبة مخاطرة أكبر، بينما سيتمكّن الموزّعون من إرسال أفلام بديلة أصغر إلى جمهور أكبر.

ومع إمكان حفظ 10 أفلام في الكومبيوتر، يمكن أن تغيّر متاجر الأفلام برامجها في شكل يناسب الطلب: إذا ما كان بيع البطاقات لفيلم معيّن كبيراً، تعرض نسخة عنه على شاشة أخرى؛ وإذا فشل الفيلم، يعرض مكانه فيلم آخر اكثر نجاحاً!

ويتوقّع صانعو أجهزة العرض ومصنّعو كومبيوترات العرض السينمائي أن ترتفع المبيعات باضطراد. ولشراء جهاز عرض رقميّ، ثمة ثلاث شركات عالمية: «باركو» Barco البلجيكية، و «كريستي» Christie البريطانية، و «ان أي سي» NEC اليابانية. تملك الشركة الأولى 80 في المئة من حصص السوق الأوروبية. وتنتج نصف أنظمة السينما الرقمية العالمية تقريباً. ولكنّ هذه الحصة تشكّل 3 في المئة من مبيعات الشركة الإجمالية. فأجهزة العرض والمراقبة كلّها، بدءاً من حفلات موسيقى الروك وحتى مكاتب مراقبة حركة الملاحة الجوية شكّلت بقية المبلغ الإجمالي البالغ 806 ملايين دولار خلال السنة الماضية.

ويتوقع رئيس قسم الإعلام والإعلان في «باركو» ستيفن باريداين، أن ترتفع مبيعات الشركة بنسبة 20 في المئة في العام 2008، نظراً الى امكان نشوء سوق عالمية لأجهزة العرض الرقمية تبلغ 12 مليار دولار.

قد تؤدّي هذه المواضيع إلى إبطاء الثورة، ولكنّها لن توقفها. فالرؤساء في هذه الصناعة يقولون إنّهم لن يتخلّوا عن الوعد بمستقبل أكثر إشراقاً وسرعة وأرخص سعراً. لذلك، فإنّ السينما الرقمية ستصل إليكم عاجلاً أم آجلاً. ويقول احد منتجي سلسلة افلام «حروب النجمة» إنّ «من الممكن إرسال كاميرا إلى كوكب المرّيخ والحصول على مشاهد كاملة، ولكن لا يمكن الدخول إلى السينما المحلية وحضور فيلم لا خدوش فيه. يتعلّق الأمر بنوعية التجربة، ومغامرة ارتياد السينما. وإن كنت تهتمّ للجمهور، ستصرّ على العروض الرقمية». بالنسبة إلى محبّي السينما وصانعي الأفلام وقطاع الصناعة ذاته، أصبحت فوائد التحوّل إلى السينما الرقمية واضحة وضوح الصورة على الشاشة.

  • Currently 140/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
47 تصويتات / 349 مشاهدة
نشرت فى 28 ديسمبر 2005 بواسطة nsma

ساحة النقاش

عدد زيارات الموقع

233,924