<!-- /CONTENT -->


د.خالد جاويش

قد يظن البعض منا أن ظاهرة الإعلام الغربي الناطق باللغة العربية والموجه إلى العالم العربي ظاهرة جديدة، لكننا نذكر فقط أنها ظاهرة قديمة قدم ظهور وتطور وسائل الإعلام في المجتمعات الغربية وعلى رأسها المملكة المتحدة والولايات المتحدة الأمريكية.
أحسب أن الفكرة والممارسة موجودتان منذ عهد بعيد ولكن الجديد هو الوسائل المستخدمة والأساليب المهنية التي تطورت بمرور الزمن وتراكم الخبرات وتطور نظريات الاتصال وأدواته. فإذا كنا نتحدث عن إعلام موجه بلغة البلد أو البلدان التي يستهدفها، فالفكرة قديمة وأشهر من بدأها هيئة الإذاعة البريطانية من خلال إذاعة الـ BBC الموجهة باللغة العربية وإذاعة صوت أمريكا وراديو مونت كارلو، بل إن مصر الدولة النامية تعتبر من الدول الرائدة في هذا المجال. وكما هو واضح تركزت وسيلة الاتصال المستخدمة في الراديو وذلك لعدة اعتبارات من أهمها: سهولة اجتيازه للحواجز الجغرافية والسياسية من جهة وانتشار نسبة الأمية في العالم العربي في ذلك الوقت من جهة أخرى. فلم يكن من المنطقي اللجوء إلى استخدام الصحف حيث من السهل منع دخولها إلى أي دولة ترى في مضمونها ما يخالف سياساتها الداخلية أو الخارجية، وأيضًا لم يكن التليفزيون موجودًا في الدول العربية في ذلك الوقت بل إنه كان يحبو في الدول الغربية القائمة بالاتصال نفسها.
ولا يخفى على أحد الدور الذي لعبته الإذاعات الغربية الموجهة إلى العالم العربي خاصة الدول الكبرى منه، حيث كان البسطاء والنخبة على حد سواء يعتمدون عليها كمصدر رئيسي للتعرف على الأخبار الخارجية بل والداخلية في كثير من الأحيان. وتوجد العديد من العوامل التي أفرزت هذا الوضع لعل من أهمها سيطرة السلطة الحاكمة على وسائل الإعلام وإدارتها وفقًا لمصالحها بعيدًا عن الموضوعية أو الاعتبارات المهنية، والشعور السائد لدى غالبية الجماهير في العالم العربي بانخفاض مصداقية وسائل الإعلام المحلية في مقابل ارتفاعها لدى وسائل الإعلام الغربية الموجهة، بالإضافة إلى ارتفاع المستوى المهني في معالجة الأخبار وعرضها، ولعل من أبرز الأدلة على ذلك ما حدث في حرب يونيو 1967 عندما أذاعت الإذاعة المصرية أنباء الانتصارات فيما كانت الـ BBC تذيع الأخبار الواقعية لما حدث، ويضيف هذا سببًا آخر لإقبال الجمهور العربي على هذه الإذاعات وهو التجربة أو التجارب التي عايشها بالفعل مع وسائل إعلامه المحلية.
أما عن الأهداف التي كانت وسائل الإعلام الغربية الموجهة تسعى إليها فهي نوعان: أهداف معلنة تتعلق بتوطيد أواصر الصداقة مع العالم العربي ونشر السلام، وأهداف غير معلنة خير ما يعبر عنها هو ملكية هذه الوسائل التي تعود بشكل أو آخر إلى أجهزة الاستخبارات الغربية المختبئة تحت عباءة الإعلام الخارجي بوزارة الخارجية أو وكالة الإعلام الدولي وغيرها من المسميات. ولعل هذا يذكرنا بهتلر الذي كان أكثر سذاجة حينما لم يخفِ أنه وحكومته وراء الدعاية الإذاعية الموجهة لجنود وشعوب دول الحلفاء.
السؤال الذي يطرح نفسه: ما الفرق إذًا بين ما كان موجودًا من قبل وما هو قائم حاليًا؟ دعونا نرصد معًا هذه الفروق أو الاختلافات التي يمكن تلخيصها فيما يلي:أولاً: اللجوء إلى استخدام العديد من الوسائل المتنوعة من صحف وإذاعات وقنوات تليفزيونية ومواقع إنترنت ومراكز ثقافية وغيرها، وهو أمر فرضه تطور وسائل الإعلام وتنوعها من جهة، وفرضته الأوضاع الخاصة بالجمهور من حيث تنوعه واختلاف اهتماماته والوسائل التي يتعرض لها وارتفاع مستويات التعليم عن ذي قبل. ثانياً: تغير الأهداف المعلنة، فبعد أن كانت تتعلق بتوطيد أواصر الصداقة والسلام أصبحت نشر الديمقراطية والحرية وتوضيح الصورة الحقيقية للمجتمعات الغربية، أما الأهداف غير المعلنة فنعتقد أنها لم تتغير وتظل تحت دائرة التأثير الثقافي وتغيير المفاهيم وتأليب الشعوب على الأوضاع السائدة في بلدانها وزعزعة الهوية العربية وإثارة القلاقل والاضطرابات والنزاعات على كافة المستويات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية وتحقيق التشتت والتفرقة بين أقطار العالم العربي. ثالثًا: حدث اختلاف واضح في طرق وأساليب معالجة المضامين الإعلامية بحيث أصبحت أكثر احترافية وأكثر جذبًا للجمهور سواء من حيث اختيار الموضوعات أو الشخصيات التي تتم استضافتها أو الجرأة التي تتم بها المناقشات أو التكنيك الإعلامي بصفة عامة. رابعًا: تغيير بعض الأسماء مثل راديو صوت أمريكا الذي تحول إلى راديو سوا وتغيير الأجهزة المسؤولة عن الإدارة من حيث هياكلها أو أسمائها أو أطر عملها.
ويبقى سؤال في الذهن: هل تغيرت أنماط ودوافع تعرض الجمهور لهذه الوسائل عما كانت عليه في القرن الماضي الذي حققت فيه نجاحًا ملحوظًا؟ لا أحد يستطيع الإجابة بدقة ويقين على مثل هذا السؤال مادام لا يملك أدلة علمية من واقع البحوث أو الدراسات الميدانية، ولكننا قد نستعيض عن اليقين بالملاحظة والمعايشة للواقع. ومعايشة الواقع وأحاديث رجل الشارع وبعض الدراسات الأولية تشير إلى أن الوضع قد تغير، ويمكن أن نعزو ذلك لعدة أسباب من أهمها: المشاعر العدائية التي أصبح رجل الشارع العادي يشعر بها نحو كل ما هو غربي خاصة إذا كان أمريكيًا أو بريطانيًا، وهذا بدأ منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وهو ما دفع الجمهور إما إلى العزوف عن هذه الوسائل الغربية أو التعرض لها وهو محصن بسؤال يدور في رأسه حول نواياها. السبب الثاني هو زيادة مساحة الحرية المتاحة في العديد من وسائل الإعلام العربية وهو ما دفع الجمهور إلى التعرض لهذه الوسائل، خاصة أن منها ما يتميز بأداء مهني في غاية الرقي والحرفية حتى وإن لم يكن يتحلى بموضوعية كاملة، ومن يتحلى بموضوعية كاملة؟! السبب الثالث هو التعددية الهائلة في طوفان الوسائل الإعلامية بشتى أشكالها وأنواعها من صحف إلى مجلات إلى إذاعات إلى محطات تليفزيونية إلى مواقع إنترنت، أي فضاء مفتوح يصعب على الحكومات والأجهزة الرقابية السيطرة عليه.
ورب ضارة نافعة ، فلعل وسائل الإعلام العربية المتميزة من حيث التغطية الإخبارية وحيازة ثقة الجمهور قد استفادت كثيرًا من فلسفة عمل وأداء وسائل الإعلام الغربية الموجهة للعالم العربي. فالإعلاميون محترفون مثل غيرهم يتنقلون من هذه الوسيلة إلى تلك ماداموا يملكون الخبرة والمهارة اللازمة ، وهنا يثار السؤال حول انتماءات الإعلاميين العاملين في وسائل الإعلام الغربية.
وقد يختلف البعض معي بدعوى أن الإعلامي كما أشرنا ما هو إلا شخص محترف يبحث عن فرصة عمل أفضل بصرف النظر عن هوية الوسيلة أو أهدافها، ولكني أرى أن الإعلامي وإن كان محترفًا إلا أنه في الأصل لابد أن يكون حاملاً لهوية يؤمن بها ويدافع عنها وإلا كان بوقًا لمن يدفع أكثر أو يقدم له مميزات أكثر، وأنا شخصيًا على معرفة ببعض هؤلاء الإعلاميين الذين كانوا يعملون في أحد التليفزيونات الحكومية وكانوا في مناصب مرموقة بل وعلى مقربة من صناع القرار ثم انتقلوا إلى إحدى القنوات التليفزيونية الموجهة الجديدة وتحولوا إلى النقيض في مهاجمة من كانوا يعملون معهم، لدرجة أنني ساءلت نفسي وقلت ربما يعملون لصالح حكومتهم السابقة ولكن يفعلون ذلك لأهداف ما غير معلنة!!!
هل هذه الوسائل تشكل استعمارًا؟ سؤال يطرحه الكثيرون ولكن الأمر ليس بهذه البساطة بل إن الكلمة نفسها «استعمار» لم تعد تحمل نفس المعنى، فالاستعمار في الزمن الغابر كان يحمل مدفعًا ويقود دبابة وطائرة، وأنا أحب أن أسمي ممارسات هذه الوسائل تسربًا مثل تسرب الغاز الذي لا يشعر به الإنسان، فلا توجد رائحة محسوسة له ولا خطر ظاهر أو محسوس منه لكنه سيؤدي في النهاية إلى خنقه وموته لا قدر الله. إذا كان الجيل الحالي الواعي والمثقف يتعرض لهذه الوسائل وهو يدري نواياها ومع هذا يتعرض لها سواء من باب التعرف على ما يقدمونه وكيف يقدمونه ومتابعة السيناريوهات الإعلامية المحكمة التي يكتبونها، فربما ينسى البعض في خضم هذا لماذا كان يتعرض، وربما بل من المرجح أن تنسى الأجيال الجديدة القادمة التاريخ وتتصور أو تصدق ولو للحظة النوايا المعلنة التي أشرنا إليها آنفًا وهنا يدنو الغاز إلى مرحلة التشبع واختفاء كل من بالبيت، مع الأخذ في الاعتبار الأثر التراكمي للإعلام.
السؤال الذي أسأله لنفسي دائمًا لماذا نجلس في مقاعد المتفرجين ولماذا نحن أصحاب ردود أفعال ولسنا أصحاب أفعال ومبادرات. لماذا لم تبادر الدول العربية أو دولة عربية واحدة بإنشاء قناة تليفزيونية عربية ناطقة بالإنجليزية، وقد يجيب البعض متسرعًا توجد مثل هذه القنوات، ليست هذه النوعية الحكومية الرسمية التي تفتقر إلى أبسط قواعد الأداء المهني المتميز هي ما أتحدث عنه، أنا أتحدث عن قناة محترمة محترفة تصلح بجدارة لمخاطبة المتلقي الغربي الذي ينعم بالعديد من القنوات المتميزة من حيث الأداء ولن يرضى بالأقل خاصة إذا علم أنها من دولة عربية. هل نحن قادرون على ذلك؟ نعم قادرون ولكن لا توجد الرغبة الحقيقية في إنشاء مثل هذه القناة ربما بسبب الخوف من ردود الأفعال أو الخوف من الضغوط السياسية والاقتصادية وربما الخوف من الفشل أو مواجهة اللوبي الصهيوني في الدول الغربية.
وأخيرًا مادام الوضع الحالي مستمرًا شئنا أم أبينا فأرجو أن نستفيد من هذا الوضع أقصى استفادة ممكنة من الناحية المهنية وأساليب الأداء الإعلامية المتميزة التي تمارسها هذه الوسائل مع ضرورة توعية الجمهور بنواياها وأهدافها وتحذيره من الانسياق وراء دعاواها وأن يتعرض لها وهو واع بهذه الأمور، وبعيدًا عن الأساليب التقليدية لابد من الارتقاء بوسائل الإعلام العربية ذاتها حتى تستطيع أن تكتسب ثقة الجمهور واحترامه ليلتف حولها ويعتمد عليها وما في ذلك من قطع الطريق على الوسائل الأجنبية الموجهة، وهذا لن يتحقق إلا بمنح وسائل الإعلام في العالم العربي كل الحرية التي تحتاج إليها في عرض ومناقشة كافة الموضوعات، وهذا بدوره لن يتحقق إلا إذا حدثت تطورات إيجابية لدى النظم السياسية العربية. مع أمل في أن نرى وسائل إعلام عربية متميزة، مثلما نرى قنوات فضائية عربية غنائية تضاهي القنوات الغربية، تنشر ظلالها على ربوع العالم خاصة في أوروبا الغربية والولايات المتحدة لأن الفرصة وإن كانت متأخرة فإنها لم تضع بشرط الإيمان بها والعمل من أجلها.


  • Currently 125/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
41 تصويتات / 622 مشاهدة
نشرت فى 27 ديسمبر 2005 بواسطة nsma

ساحة النقاش

عدد زيارات الموقع

233,963