هناك ظاهرة لا بد من ملاحظتها في ركوب السيارات والحافلات والقطارات والطيارات. تصمم المقاعد فيها بحيث تتجه انظار الركاب الى الامام. وعندما تكون هناك مقاعد تنظر الى الامام واخرى تنظر الى الوراء كما في بعض عربات القطار، تجد ان الراكب حالما يدخل العربة يختار غالبا مقعدا يمكنه من النظر الى الامام.

ما الذي جرني الى ملاحظة ذلك والكتابة عنه؟ هل لأن شركات النقل اختارتني أخيرا لتصميم المقاعد؟

اثارت انتباهي هذه الظاهرة عندما رأيت امرأة محجبة تدخل لقطار وترلو الذي اعتدت على ركوبه كل يوم. دخلت العربة واختارت مقعدا ينظر الى الوراء. جلست عليه واحكمت شد حجابها وراحت تنظر من الشباك الى المناظر الخارجية بعد ان يكون القطار قد مر عليها وفاتها. اثارت المرأة تفكيري. لماذا يصمم المهندسون مقاعد القطار والسيارات بحيث تنظر الى الامام؟ يفعلون ذلك لانهم اكتشفوا ان الركاب يفضلون الجلوس بحيث ينظرون الى الامام. ولكن لماذا نفضل الجلوس بحيث ننظر الى الامام؟ هذا هو السؤال الخطير.

من ينظر الى الامام يستطيع ان يرى ما ستواجهه السيارة من مخاطر او عقبات فيتأهب لها، وكذلك يستطيع ان يستمتع بالمنظر والسيارة في طريقها اليه ثم تمر به فيلاحظ تفاصيله عن كثب واخيرا يراه وهو يتلاشى في البعيد ويصبح من عداد الماضي. الجلوس بحيث تنظر الى الوراء، نعم على خلاف كل ذلك وينطوي على الخوف مما هو آت، والاستسلام للقدر بعدم التأهب للخطر. والمناظر الخارجية تمر بعد ان يكون القطار قد فاتها وتجاوزها.

بيد ان تلك المرأة المحجبة التي جلست بحيث تنظر الى الوراء جلست ايضا بحيث واجهت وجوه الركاب الآخرين الذين ينظرون الى الامام. جاءت جلستها في الواقع جزءا مما اصبحنا نسميه بصراع الحضارات، الصراع بين ركاب الكرة الارضية الذين ينظرون الى الامام والذين ينظرون الى الوراء، فالكرة الارضية في الحقيقة ما هي الا مركبة كبيرة وراءها مئات، بل ألوف، لا بل قل ملايين السنين الغابرة، وأمامها ملايين السنين القادمة.

ولكن من ناحية اخرى لا بد من الانصاف في الموضوع، فهذه المرأة التي اختارت مقعدا ينظر الى الوراء كانت امرأة في غاية الشجاعة. فقد اصبح عليها ان تواجه انظار عشرات الركاب الآخرين الجالسين امامها في العربة وبينهم فتيات سافرات يلبسن المني جوب ورجال منهمكون في التفرج على عاريات الصفحة الثالثة من جرائدهم اليومية. انها تتحداهم جميعا بنظرتها الخافرة الى الوراء ولكن.. ولكن القطار يجري طبعا اثناء ذلك الى الامام.

  • Currently 129/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
43 تصويتات / 425 مشاهدة
نشرت فى 20 ديسمبر 2005 بواسطة nsma

ساحة النقاش

عدد زيارات الموقع

234,249