كنتُ على وشك دخول معرضٍ فني في المتحف البريطاني عُرِضَت فيه لوحات وقطع فنية تعكس صورة لندن وأنماط الحياة فيها أيام شكسبير، وكانت زيارة ذلك المعرض إحدى أهدافي من الذهاب إلى لندن. وصلتُ المتحف قبل أن تُغلق أبوابه بقليل، وقبل أن أدخل اتصل بي صديق عزيز جداً، ولأنه غير مسموح لأحد استخدام هاتفه في داخل المعرض؛ قررتُ الوقوف خارجا وبقيتُ أتحدث معه لنصف ساعة حتى أغلق المتحف أبوابه. انتهت المكالمة وعدتُ مشياً إلى الفندق، ولكن بهجتي بالحديث معه كانت أكبر بكثير من تلك التي كنتُ أبحث عنها في التجول بين أروقة المتحف. فلقد استطعتُ أن أشتري تذكرة دخول للمعرض، ولكن هل كان يمكنني أن أشتري ضحكاته وبهجته؟
- دخلتُ مقهى صغيرا في زقاق بعيد نَسِيَتْهُ أرجل المارة، وكنت أحمل في يدي كتابا صغيرا عن التخطيط الاستراتيجي وآليات اتخاذ القرار. تحدث المؤلف في أحد مقاطعه عما سماه “مبدأ آيزنهاور” الذي كان أحد أفضل رؤساء الولايات المتحدة في إدارة الوقت، وقال مرة: “إن معظم القرارات العاجلة التي نتخذها في حياتنا ليست مهمة”. ثم يشرح الفرق بين المهم والعاجل، وكيف يجب علينا ألا نقدم الأخير على الأول.اقتربتُ من البائعة وطلبتُ كوب قهوة، وعندما لمحت الكتاب في يدي نادت زميلها وقالت له: “أليس هذا هو نفس الكتاب الذي كنتَ تقرأه قبل أيام؟” فضحك وقال بأنه هو نفسه. أخذتُ قهوتي ودعوته للجلوس معي لأسمع رأيه في الكتاب. تحدثنا قليلا ثم سألته عن العلاقة بين قراءة كتاب كهذا وبين وظيفته، فقال لي: “أقرأه لأنني أود أن أملك سلسلة عالمية للمقاهي حول العالم. وقد تقول عني إنني أحمق؛ فكيف يمكن لبائع بسيط مثلي أن يفكر كذلك، وجوابي قد وجدته عند آيزنهاور. فعملي هذا ضروري لأنه يكسبني خبرة في سوق المقاهي، وقراءتي للكتاب ضرورية لأنها تكسبني معرفة في التخطيط، أما حلمي فمستعجل ولكنه ليس ضروري الآن، لذلك قررت أن أحققه على مهل”. يبلغ ذلك الشاب من العمراثنان وعشرون عاما. أتساءل الآن وأنا أتذكر هدوءه: هل يمكننا شراء الأحلام؟ قلت له قبل أن أنصرف: “حلمك لا يقدر بثمن. فهو ليس المقهى، ولكنه الاستمتاع ببنائه، فلا قيمة للأحلام التي تقدم إلينا على طبق من ذهب”.
- دخلتُ محلا تجاريا، وبينما كان الموظف يغلّف الهدايا سألني عن عملي فقلتُ بأنني كاتب. فسألني إن كنت مشهورا، فقلت له ليس بعد. ثم سألني إن كنتُ أسعى للشهرة؟ فقلت له إنني أخشاها جداً، ولكنني سأكذب إن قلت إنها ليست مغرية، ولكنها تحمل الكثير من الالتزامات تجاه القراء، ناهيك عن توقعاتهم اللا محدودة. فقال لي: “لقد كنتُ أُغني إلى جانب عملي هذا، وكنت على وشك أن أصبح مشهورا حتى قال لي أحدهم بأنني إن اشتهرتُ فلن أملك نفسي وسأكون ملكاً للآخرين، وسأكون عرضة لكلام الناس ونقدهم، وسأحارَب وسوف يُشهَّر بي. ثم كل ذلك من أجل ماذا، السعادة؟ وسألني: ألستَ سعيدا الآن!” سَكَتَ قليلا ثم أردَف: “هل ترى أولئك المشاهير الذين يلبسون أقنعة ونظارات سوداء كلما خرجوا من بيوتهم؟ أراهن بأن أيا منهم مستعد لاستبدال حياته مع حياتي”. خرجت وأنا أقول لنفسي: “حقا، لا يمكننا أن نستمتع بالحياة من وراء الأقنعة”. ثم وقفتُ على الرصيف وتساءلتُ: ماذا لو كان بين هذه المحلات محلا لبيع القَناعة؟
- في طريقي إلى المطار سألني سائق التاكسي: “هل أنت مؤمن يا سيدي” فقلت له نعم، لماذا؟ فقال: “كنتُ عندما أرى الناس حولي تعساء أقول في نفسي إنهم ليسوا مؤمنين ولذلك فإنهم لا يعرفون طعم السعادة. ولكنني وجدت بأن هناك آخرون يصلون ويؤدون جميع الفرائض إلا أنهم تعساء أيضاً. هل تعرف السبب؟ لأنهم ينظرون إلى علاقتهم مع الله على أنها صفقة؛ يؤدون فرائضه حتى يرزقهم في الدنيا ثم يدخلهم الجنة في الآخرة. يقرأون القرآن فيستخلصون منه شروطا تشبه شروط الصفقات التجارية: هذا ما سنقدمه وهذا ما سنحصل عليه!” فقلت له أليس ذلك طبيعيا؟ فقال: “كلا، فلو عبدنا الله لذاته وعظمته فقط لكُنّا سعداء؛ لأننا حينها فقط سندرك معنى الإيمان الخالص. انظر إليَّ، لا أعرف إن كنت سأدخل الجنة أم لا، ولكنني سعيد جداً بعبادته” قلت له: “صدقت؛ الإيمان الخالص والحب الخالد يأتيان دون شروط”. تساءلتُ وأنا أجر حقائبي في المطار: لو كان الإيمان الخالص يُشترى فمن منّا سيستطيع شراءه؟
- الرضى عن النفسى، القبول بالذات والتصالح معها، التسامح مع الآخرين، الابتسامة النقية، الصداقة الخالصة، الحب الخالد… وأشياء منسية أخرى هي أشياء لا تُشترى، ليس لأنها غالية الثمن، ولكن لأنها تفقد قيمتها عندما نضع لها ثمنا.