ساجد بن متعب العبدلي
كثيرة هي القصص والحكايات الرمزية التي اخترعها الإنسان. ومن هذه القصص ما قد يبدو بسيطا ساذجا بطبيعة الحال، وما قد يبدو أعمق من ذلك. لكنني، مع ذلك، أؤمن كثيرا بأن لكل قصة وحكاية، مهما بدت للقارئ بسيطة أو ساذجة، معنى غنيا وحكمة عميقة تحويها تحت قشرتها الخارجية، وأن الأمر مرتهن في الأول والآخر بنا نحن القراء عندما نمر على هذه القصص والحكايات.
نحن من يمكن أن يكتفي فيتوقف ببصره عند سطح القصة والحكاية والعبارة والكلمة، ونحن من يغوص أبعد من ذلك نحو الطبقات الأعمق، متأملا ومتفكرا في الدلالات، في السطور وما بين السطور مما لم يكتبه الكاتب، سواء كان يقصده أو لا يقصده.
إن التأمل والتفكر والتدبر، هو ما يميز القارئ العميق عن القارئ السطحي، حتى ولو كان هذا ممن يقرؤون كثيرا جدا، لأن المسألة ليست بكم القراءة في المقام الأول أبدا، وإنما بالدافع والمراد من هذه القراءة، وبماهيتها وكيفيتها وبالناتج عنها في المحصلة، وهو الذي سينعكس على ثقافة هذا القارئ وعلى منظومة تفكيره وأخلاقه وسلوكياته. القراءة التي لا ينتج عنها شيء من هذا التغيير على نظام الإنسان، ليست سوى ملهاة، وربما مضيعة للوقت، كأي عبث آخر يمارسه الناس في مختلف أوقاتهم.
هذه المقدمة الطويلة بعض الشيء، كانت جسرا أردت أن أعبر من خلاله إلى قصة رمزية توقفت عندها منذ أيام، حيث يُحكى في هذه القصة أن رجلا غرقت سفينته في عرض البحر، فألقت به الأمواج العاتية بعدما تعلق بلوح خشب من حطام السفينة، على شاطئ جزيرة صغيرة نائية موحشة.
وهناك على الشاطئ جلس ينظر إلى امتداد الأفق الصامت المتطاول في كل الاتجاهات، بلا بارقة لأمل أو رجاء، وأخذ يدعو ربه أن ينجيه من الهلاك. وبعد ساعات قضاها على تلك الحالة البائسة اليائسة، قام يغالب الإنهاك والجوع، كي يبني لنفسه عريشا من بقايا حطام السفينة التي كانت جرفتها الأمواج قريبا من مكانه، ومن أغصان وجذوع الأشجار والنخيل المتساقطة حوله، ثم أخذ بعد ذلك يجمع تحت ذلك العريش كل ما طالته يده مما عساه يعينه على الصمود في تلك المحنة، من طعام ومؤن.
بعد أيام، وعند عودته في مساء يوم عاصف ممطر إلى عريشه، حيث كان قد خرج في النهار ليجمع بعض الطعام، وجد العريش وقد احترق تماما، وأمسى رمادا، على إثر صاعقة أصابته، فانهار صاحبنا يبكي ويتحسر على حظه العاثر الذي أحرق مأواه الهزيل، والذي كان بالكاد يقيه زخات المطر خلال الأيام الماضية.
وبينما هو على تلك الحالة المحطمة، إذا بأنوار سفينة تقترب من الجزيرة شيئا فشيئا، حتى رست على الشاطئ وجاءه ملاحوها فالتقطوه وأنقذوه، وما هي إلا لحظات حتى كان معهم على ظهر السفينة سليما معافى.
وحين سأل القبطان عن السبب الذي جعله يرسو بسفينته على شاطئ تلك الجزيرة المهجورة النائية، أجابه بأنهم كانوا قد أبصروا وميض نار وسحب دخان تأتي من ناحية هذه الجزيرة، فقرروا أن يستطلعوا الأمر، وإذا بهم يجدونه.
هذه القصة البسيطة، والتي كنت قد مررت عليها مرات متعددة، بعين متكاسلة، ولم أخرج منها بالكثير، توقفت عندها مؤخرا لسبب ما، فوجدتها تعبر عن هذه الحياة بأسرها.
كم من مرة يتعرض الإنسان في حياته للاختبارات والابتلاءات القاسية، وكم من مرة وجد نفسه وقد تجاوز الأمر مهما كان قاسيا، بعد زمن، ليكتشف أن ذلك الاختبار وذلك الابتلاء وكل مرارات الألم التي صاحبته وامتزجت به، حملت في طياتها، وهي التي لم تكن له واضحة حينها، درسا عميقا وحكمة بالغة وخيرا كثيرا.
الخسارة والجرح والهزيمة والمرض والفقد، وغيرها من الجراحات والآلام التي لابد وأن يتعرض لها المرء في حياته، منحة من الله عز وجل للإنسان، تأتينا في ثياب المحنة. لكن الواحد منا، وعند وقوع المصاب، وفي غمرة الألم، لا يستطيع إدراك هذا، ولا يتسنى له أن يتمالك نفسه ليتبصر جيدا في الرسالة الحقيقية لما يجري.
أدرك تماما أن الأمر ليس سهلا، وأن قليلا من الناس من يمكنهم التماسك ومغالبة مشاعرهم وانفعالاتهم عند حلول البلاء ووقوع المصيبة، لكنني أدرك تماما وأؤمن عميقا بأن الرحمن عز وجل رحيم رؤوف بعباده، وأنه أدرى بالخير لنا أكثر من أنفسنا، وهو القائل «وعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا»، وأن كل ما يجري على المؤمن وما يصيبه من وصَب أو نصَب أو سقم أو حزن، حتى الهم يهمه، إلا كفر الله به من سيئاته، كما أخبر النبي عليه الصلاة والسلام.
لكن المصيبة حقا أن لا يخرج الإنسان من مصيبته ومن الابتلاء الذي يكون قد أحاق به، إلا بالألم والشقاء والسخط والاعتراض على القدر، وحينها لن يكون هو الذي استطاع منع وقوع المصيبة ورد البلاء باعتراضه ذاك، ولا هو الذي تخلص أو تخفف من الألم والشقاء، ولا هو الذي تعلم الدرس وأدرك الحكمة التي أرسلها الله له، ولا هو الذي نال الرضا وتكفير سيئاته، وخلاصة ما خرج به أن باء بالخسران العظيم.
أسأل الله أن يقسم لنا الخير، مما علمناه ومما لم نعلم، وأن يرضينا به وأن يثبتنا عندما يحل البلاء.