د. ساجد بن متعب العبدلي
قصة بديعة وقعت عليها، ولعل بعضكم يعرفها، ولكن ليسمح لي هؤلاء بتكرار حكايتها بصياغتي الخاصة، فعسى أن يجدوا فيها شيئا جديدا، أو لعلها تحيي فيهم فكرة جميلة قديمة قد كساها الغبار.
تقول القصة إنه في يوم من الأيام جلست سيدة في قاعة أحد المطارات تنتظر موعد رحلة لها، وأثناء فترة الانتظار الطويلة قررت أن تذهب لشراء كتاب وكيس من الحلوى، لتتسلى بهما في قضاء الوقت حتى موعد الرحلة, فابتاعتهما من أحد المتاجر، وعادت لتجلس على أحد المقاعد. وبينما هي منهمكة في القراءة، أحست بأن شابة جالسة بجانبها قد اختطفت قطعة من كيس الحلوى الذي كانت قد وضعته على المقعد بينهما!
قررت السيدة أن تتجاهل الأمر في البداية، ولكنها سرعان ما بدأت تشعر بالانزعاج أكثر فأكثر، حينما استمرت الشابة الغريبة في مشاركتها الأكل من كيس الحلوى، دون استئذان وكأن الأمر عادي جدا، فبدأ الغضب يعتري السيدة فعلا، وشرعت تفكر وتقول لنفسها: "لو لم أكن امرأة مهذبة وحسنة الأخلاق لأعطيت هذه الوقحة المتجاسرة درسا في الأدب"!
استمر الوضع على ذات المنوال لدقائق بدت للسيدة وكأنها الدهر كله، وفي كل مرة كانت تمد يدها لتتناول قطعة من الحلوى، كانت الشابة الغريبة تأخذ واحدة أيضا، وفجأة سارعت الشابة وبابتسامة خفيفة باختطاف آخر قطعة من الحلوى، فقسمتها إلى نصفين وأعطت السيدة الغارقة في دهشتها نصفها، بينما وضعت النصف الآخر في فمها, لتلجم بجرأتها لسان السيدة التي أخذت تحدث نفسها وتقول: "يا للوقاحة.. انظروا ماذا تفعل!!".
وبينما هي على هذه الحال، دوى صوت المذيع الداخلي معلنا حلول موعد رحلة السيدة، فقامت وجمعت أمتعتها واتجهت من فورها إلى البوابة، دون أن تلتفت وراءها إلى مقعدها الذي ظلت تجلس عليه تلك الشابة الغريبة الوقحة، التي التهمت نصف كيس الحلوى، وكأنها تريد أن تعبِّر لها عن اشمئزازها منها واحتقارها لسوء أخلاقها, وبعدما صعدت إلى الطائرة واستقرت في مقعدها، وأرادت وضع كتابها الذي كان بيدها في حقيبتها اليدوية، صعقتها المفاجأة!
كان كيس الحلوى الذي اشترته موجودا بالكامل في حقيبتها، لتدرك على الفور أن كيس الحلوى الذي كانت تتشارك فيه مع تلك الشابة الغريبة، لم يكن لها وإنما للشابة، وأن تلك الشابة تركتها تشاركها فيه بابتسامة وبكل هدوء، بل وتقاسمت معها بروح طيبة قطعة الحلوى الأخيرة، فأدركت حينها والألم يعتصرها، أنها هي التي كانت وقحة وغير مؤدبة، بل وسارقة أيضا! (انتهت القصة).
كما قلت، لعل بعضكم يعرف القصة، لكن العبرة التي أريد أن أستخلصها منها اليوم فأوجهها لكم، ولنفسي قبلكم جميعا، هي أن نتذكر كم مرة استعجلنا الحكم على الأشخاص من حولنا، سواء من أهلنا وأحبتنا أو من أصدقائنا أو من زملائنا وسائر الناس، وكم مرة أثبتت لنا الأيام بعدها كم كنا بعيدين عن الصواب، وكيف أن الموقف الذي اتخذناه كان خاطئا تماما، وأننا قد ظلمناهم وآذيناهم بأحكامنا وقراراتنا المتسرعة، وبالأخص أولئك الذين قد يكونون من أقرب الناس لنا.
وكذلك كم مرة تمسكنا بآرائنا بعناد، ولم نحاول التثبت أو إعطاء الآخرين فرصة ليقنعونا برأي آخر كان هو الصواب، فأسأنا الحكم والتصرف، وجرحنا لذلك مشاعر وأحاسيس الآخرين وآلمناهم، دون أي اعتبار. بل والأصعب من ذلك، كم مرة اكتشفنا خطأنا من بعد ذلك، فاستكبرنا ولم نعتذر، وتجاهلنا الأمر وكأن شيئا لم يحصل، وكبرت الهوة بيننا وبينهم، وتزايدت المسافة.
هي رسالة أوجهها لنفسي أولا، ولكم.. علينا أن نحرص على التفكير أكثر من مرة، قبل أن نشرع في إصدار الأحكام على الآخرين. وعلينا أن نتذكر إعطاء أنفسنا العديد من الفرص للتفكير وبعمق، قبل أن نتخذ قراراتنا، وقبل أن نكتشف بعدها أننا كنا على خطأ. وعلينا أن نتمهل كثيرا، خصوصا عندما يكون الحكم الذي سنصدره والقرار الذي سنتخذه، يمس مشاعر وأحاسيس من نحب، ومن يعنينا أمرهم.
والأهم من ذلك كله، يجب علينا، عندما نكتشف أننا قد أخطأنا، وكل ابن آدم معرض للخطأ، أن نسارع فنعتذر ممن أخطأنا في حقهم، وإلى إصلاح ما بدر منا من خطأ، فكما قيل؛ جرح الأجساد مصيره، وإن طال الزمن، أن يبرأ، لكن جرح النفوس هيهات أن يبرأ.