د. ساجد العبدلي
الحركة المستمرة لاستعادة التوازن يجب أن تسري على كل مناحي حياة الإنسان، في عمله، وفي بيته مع أسرته، وفي المجتمع مع سائر الناس من حوله وغيرها، وهي في مجملها، أعني الحركة المستمرة، سترسم شكل إدارة الإنسان لحياته وضبطه لإيقاعاتها وصولا إلى الحالة المعيشية المتزنة الهانئة في إطارها العام.
ينحدر ‘تينو واليندا’، لاعب السيرك الشهير، من أسرة كانت تمارس لعبة السير على الحبال أباً عن جد منذ أكثر من قرن من الزمان، سألوه مرة: ‘كيف تبقى ثابتا متوازنا على الحبل ولا تسقط؟’، فأجاب: ‘في الحقيقة أنا لا أكون ثابتا متوازنا على الحبل أبدا، بل أنا في اهتزاز دائم، لكنني أقوم بتعديل وضعيتي طوال الوقت حتى لا أسقط، وذلك بحركات صغيرة مستمرة في مختلف الاتجاهات، وهذه الحركات المستمرة هي ما تبقيني متماسكا على الحبل. إن الثبات على الحبل يعني، في الحقيقة، السقوط’.
إجابة ‘واليندا’ جعلتني أتأمل، وأعكس الأمر على الحياة عموماً،
فحياة الإنسان، مهما كان منظما مرتبا دقيقا، لا يمكن أن تكون متزنة تماما، بل هي في الحقيقة مليئة بالاهتزازات، الصغيرة والكبيرة، تماما كاهتزازات لاعب السيرك الواقف على الحبل، وذلك لأنه مهما ظن الإنسان أنه مسيطر على كل شيء في حياته، فستظل أمور كثيرة خارجة عن إرادته بطبيعة الحال، ولا يمكن له أن يسيطر على مفاجآت الزمان ولا على تقلب صروفه، ولا يمكن له كذلك أن يضمن انضباط واتزان الناس من حوله، ممن لا يمكنه إلا أن يتعامل معهم، وأن يتقاطع دربه مع دروبهم.
لذا فإن هذه الحقيقة تحتم على الإنسان ألا يركن كثيرا لظنه بأن أموره تحت السيطرة تماما، بل لا يجب له حتى أن يحاول السعي إلى جعلها كذلك، لأنه سيخالف بذلك سنّة الأشياء التي أجراها الله سبحانه، ولن يفلح في ذلك أبدا.
بل إن ما يجب عليه حقا هو أن يبذل جهده بالقدر الممكن والمعقول في الوقت نفسه، أي بلا إفراط ولا تفريط، وذلك لضبط الأمور في حياته، فيبقى يقظا ناحية الأشياء التي تخرج عن إطار التوازن، فيعدِّل هنا ذات اليمين وهناك ذات الشمال، ويرفع هذه ويضع تلك، ويبعد هذا ويقرِّب ذاك، وهكذا تستمر الحياة بهذه الحركات المستمرة من إعادة الضبط والاتزان.
هذا الأمر مهم جدا، لأنه حين يغفل الإنسان عنه لفترة طويلة من الزمن سيجد أن الأمور التي خرجت عن مسارات الاتزان قد انحرفت بعيدا جدا، مما سيتطلب منه الكثير من الجهد جسديا ونفسيا، والكثير من الوقت حينها لإصلاحها وإعادتها إلى مساراتها، هذا إن كان يمكن له هذا أصلا آنذاك، ولم تصل الأمور إلى مرحلة مستفحلة يتعذر معها العلاج، أو مرحلة ستخلف إصابة أو جرحا بليغا على أقل تقدير.
هذه الحركة المستمرة لاستعادة التوازن يجب أن تسري على كل مناحي حياة الإنسان، في عمله، وفي بيته مع أسرته، وفي المجتمع مع سائر الناس من حوله وغيرها، وهي في مجملها، أعني الحركة المستمرة، سترسم شكل إدارة الإنسان لحياته وضبطه لإيقاعاتها وصولا إلى الحالة المعيشية المتزنة الهانئة في إطارها العام.
ومن الناحية الفلسفية، فإن ‘حلاوة’ الحياة وإثارتها تكون، في الحقيقة، بهذا ‘اللا إتزان’، فالثبات، تماما كما قال لاعب السيرك واليندا، يعني السقوط، وهو في حياة الإنسان موت أو شبه موت، لكن هذه الاهتزازات الحياتية المستمرة هي ما يدفع الإنسان إلى الحركة الدؤوبة، للسعي والتعديل والبناء والتحصيل… هذه الاهتزازات، صغيرها وكبيرها، هي ما يصنع من كل إنسان، عندما يتعامل معها فيتعلم منها، إنسانا أفضل.