ياسر حارب
حكى لي أحد الكُتّاب ان أحد قُرّائه يُطارده منذ مدة طالباً منه الكتابة حول القضية الفلسطينية، وعندما قال له بأنه ليس متخصصاً في السياسة اتهمه بأنه عميلٌ للأنظمة، ويدعو إلى التطبيع مع إسرائيل. وقبل ذلك طُلب منه أن يكتب حول الانتخابات العراقية فرفض، فاتُهم بأنه ذو أجندة خارجية.
وقد تتخذ هذه المطاردات طابعاً أكثر شراسة، فكل يوم يُطالعنا أحدهم أو إحداهن على تويتر وفيسبوك أو في مواقعنا الشخصية، شاتمين، غاضبين، مهددين، متوعّدين؛ إذا رفضنا الكتابة في المواضيع التي تهمّهم، ويستخدمون نفس الطريقة الابتزازية؛ حيث يقولون لك إنك لستَ وطنياً، أو لستَ مسلماً؛ فالقضايا الوطنية والإسلامية هي التي يصرخون هم فقط من أجلها، أما باقي القضايا الفكرية التي لا تهمّهم فيبدو أنها تقع تحت باب العِلْم الذي لا ينفع.
أُتابع الكُتاب باهتمام على تويتر، وأقرأ يومياً السؤال التالي يوجه لهم: «ما رأيك في كذا وكذا» وعندما يرفض كاتبٌ التعليق أو يتجاهل السؤال فإنه يُرمى بما ذكرتُه قبل قليل. وعندما ننظر إلى تركيبة العقل العربي المعاصر، نجد بأنه يرفض قبول فكرة أن مثقفاً أو كاتباً أو فناناً ليست لديه وجهة نظر في قضية ما، حتى وإن كانت كبيرة وعالمية. ولقد عززت هذه الذهنية في مجتمعاتنا برامج الإفتاء المباشرة، على التلفاز والإذاعات، التي توهِمُ المجتمع بأن شيخ الدين يجب أن يعلم كل شيء. وفي ذلك تسطيحٌ لقضايا المسلمين.
وهضمٌ كثيرٌ لخصوصية مشكلاتهم التي لا يمكنهم أن يشرحوها خلال نصف دقيقة، ليأخذوا إجابة مدتها نصف دقيقة أخرى، في تجرؤ صريح على الفتيا ومخالفة لصحابة رسول الله عليه الصلاة والسلام، وسلفُ الأمّة الذين كانوا يفرّون من الفُتيا خوفاً وورعاً. قال الإمام أبو حنيفة: «لولا الفَرَقُ من الله تعالى أن يضيع العلم، ما أفتيتُ؛ يكون لهم المَهنأ وعليّ الوِزر» وقال الإمام مالك: «ما شيء أشدّ عليّ من أن أُسأل عن مسألة من الحلال والحرام، لأن هذا هو القطع في حكم الله» وقال أيضاً: « إنّي لأُفكر في مسألة منذ بضع عشرة سنة، ما اتَّفق لي فيها رأي إلى الآن».
وإذا كان الناس قد تعودوا أن يسمعوا آراء مشايخ الفتاوى السريعة ــ الذين نكنّ لهم كل احترام وتقدير ــ في كل شيء؛ فإنهم أسقطوا هذه الذهنية على الكُتّاب مطالبينهم بأن يكون لهم موقف «واضح وصريح» من كل القضايا أيضاً. كما أن المثقف ليس وزير خارجية ليبدي رأيه في كل شيء ويُعلّق شفهيا أو كتابيا على كل قضايا العالم. ولا يُضير المثقف أو يُقلل من شأنه ألا يكون له رأي في قضية ما. إن المثقف الحقيقي هو الذي يقول رأيه بشجاعة دون تجريح، وبعمقٍ لا بتسطيح، وبصدق دون مجاملة. أما المثقف الذي يكتب حسب رغبات الجمهور، ويُغرّد تبعاً لما يطلبه المُغرّدون، فحَريٌّ به أن يفتح دكاناً أو مقهى في زاوية الحي؛ يبيع فيه المِعسّل والسجائر والمشروبات، ويسلّك آذان زوّاره بقصص وتحليلات سطحية بينما يلعبون هم «الكوتشينة» ويشربون الشاي.
الغريب في ظواهر «الإرهاب الفكري» التي نشهدها بكثرة على وسائل التواصل الحديثة أن البعض يشتمون المثقفين ويهيلون عليهم أقذع الاتهامات، ثم عندما يردّ أحدهم رداً صارماً محترماً يُقال له بأنه مثقّف وعليه أن يتقبّل الآراء. نعم، على المثقف أن يتقبل الآراء ولكن ليس الشتائم والسِباب. إن مثقّف اليوم يُصلب كلّ نهار على ألسنة الناس، وتُدّق في رأسه مسامير عُقَدهم وتأزماتهم النفسية، ولكنه ليس مُخلّصاً حتى يُدير لهم خدّه الآخر. المثقف ليس مَلَكاً مُنزلا من السماء، وليس داعية للإصلاح أو الإيمان، إنه باحثٌ يحمل عدسة مُكبِّرة، تكمن مهمته في وضع العدسة على مواضع الخلل في إحدى جوانب الحياة التي تهمه أو التي تخصص بها، ثم يَترك المجال للمختصين والخبراء لعلاجها.
ولكن المثقف الشمولي الذي يعطي حلولاً في كل شيء هو مثقف مخدوع، والمثقف الذي ينتقد كل شيء دون أن يبدي اقتراحاً بسيطاً للتطوير هو مثقّف مخادع. أما المثقف الحُرّ فهو الذي يحافظ على حريّته وليس على استقلاله فقط، ويتمسّك بقضاياه ويدافع عنها حتى وإن كانت صغيرة، ويكتب للبناء وليس للتسلية. فما أتعس المثقف عندما يصير نسخة مكررة أخرى في المجتمع. يقول الشاعر الأميركي هنري ميلر في معرض حديثه عن المثقف: «إن الحرية تعني الحفاظ على هوية المرء الفريدة في عالم يتّجه إلى مماثلة كل شخص وكل شيء».