د. ساجد بن متعب العبدلي
لو سألتكم: هل يمكن لأي بشر أن يشرب نهرا كاملا لوحده، لجاءت الإجابة القاطعة، وربما المستهزئة في ذات الوقت، بأن هذا مستحيل.. وسأقول بعدها إن الحياة التي نحيا، في تدفقها وحركتها، هي تماما كنهر عظيم يجري، وكل ما فيها من المعلومات والمعرفة والخبرات والتجارب المتنوعة، تشكل ماء هذا النهر المتدفق الجاري، وكما أنه لا يمكن مطلقا لأي بشر أن يستهلك ويشرب نهرا كاملا لوحده، فالإلمام بكل المعلومات والمعرفة والخبرات والتجارب الإنسانية، أمر مستحيل تماما على أي بشر.
وسأتقدم بكم الآن خطوة إضافية وأسأل: ماذا لو أراد شخص ما أن يتعرف على كل مذاقات الماء من كل بقاع ذلك النهر، وعند مختلف شواطئه ومن حيث مواقع مساقطه ومصباته المتنوعة، رغبة منه في أن يتعرف على سائر مياه النهر، فكيف له أن يفعل ذلك؟ قد يقول قائل منكم إن عليه أن يأخذ عينات مختلفة من كل أنحاء النهر ويتذوقها بنفسه، وقد يقول آخر ان عليه أن يسأل العارفين، من الصيادين والسابحين والساكنين، في مختلف بقاع هذا النهر وعلى شتى شواطئه الممتدة، وقد يأتي ثالث بجواب غيرهما..
وهكذا، ولكن في النهاية سنتفق جميعا على أنه بالرغم من ذلك، ومهما عمل وحاول فلا يمكن له أبدا أن يحيط بسائر النهر، فلا قدراته البشرية ستمكنه من الإحاطة بكل أنحاء ذلك النهر العظيم، ولا عمره كله سيسعفه لذلك أصلا.
هذه الأسئلة والافتراضات الخيالية الغريبة التي طرحتها، تمثل تماما ما يظن كثير من الناس، إن لم يكن أغلبهم، أنهم قادرون على فعله للسيطرة على ما في هذه الحياة من المعرفة والخبرات والتجارب والمتع، فتراهم وهم يحاولون تذوق وهضم أكبر حجم متاح من معارف وخبرات وتجارب ومتع هذه الحياة في أقصر وقت ممكن، وتشاهدهم وكأنهم يتقافزون بين شطآن نهر الحياة بلا استقرار، ويندفعون بين لججه المتدفقة يمينا ويسارا ونحو الأعمق بلا هوادة، وكثيرا ما يكون هذا كله بلا استيعاب وإدراك عميق من ناحية، ولا استيفاء للحظات الاستمتاع من الناحية الأخرى.
شاهدت على الإنترنت منذ مدة مقطعا مؤثرا، يظهر فيه شخص يركض في شارع مزدحم مكتظ بالمارة، وكأنه يحاول أن يسبق الجميع، بل كأنه يحاول أن يسبق الحياة نفسها متجاوزا لحظته الحاضرة؛ إلى التي تليها وتليها وتليها، ويسمع في خلفية المشهد صوت تسارع نبضات قلبه المحموم المندفع بلا هوادة.
حيث يظهر كيف يكاد ينهار تحت وطأة ذلك الضغط المتواصل.. وبعد لحظات يتباطأ التصوير وهو ينتقل إلى إظهار مشاهد من الطبيعة، وكيف تعيش وتتحرك فيها الحيوانات بسلام وسلاسة وخفة واستغراق في اللحظة الحاضرة بكل أبعادها.
لا أحد يستطيع أن يسبق الحياة يا سادتي، ولا أن يقدر على تجاوز لحظته الراهنة، كما أن لا أحد يستطيع أن يشرب ماء ذلك النهر كله، ولا حتى أن يحيط ويستطعم كل مذاقاته، مهما اجتهد في المحاولة، بل إن مصير كل من يحاول ذلك سينتهي إلى الغرق تحت أعماقه حتما.
إن سر النجاح والسعادة في هذه الحياة، هو أن يستغرق الإنسان في اللحظة الراهنة ويستمتع بها حتى آخر قطرة منها، تماما كمثل السابح الذي يستسلم لماء النهر حتى يرفع جسده بأناة وخفة، ويعطي نفسه الفرصة لتذوق ما يتدفق من الماء نحوه في ذلك الحين. وليس هو الذي يشغل باله ونفسه بما قد يكون في هذه الناحية أو تلك الناحية، بل حسبه أن يعيش متعة ما حوله ومعه في كل لحظة قائمة بذاتها.
ولعل حينها يكون ما حوله ومعه هو فعلا الأجمل والألذ من كل ماء النهر الذي هو فيه.. لعله كذلك. بل لعله وهو يستمتع بلحظته تلك بكل ما فيها ومعها ولها، ويمتزج بها حتى أقصاها، يجعلها الأجمل والأعذب والألذ حقا.
ننجح ونسعد، فلنتعلم جميعا أن على الإنسان أن يستمتع بمن معه من أحبائه، وأن لا يشغل نفسه بمن ليس معه. وأن يستمتع بتجاربه التي يعيشها في كل حين، ويستثمرها ويطورها ويزهو بها، ولا يشغل نفسه بما لم يكتب له.
كي ننجح ونسعد، فعلى الواحد منا أن يستمتع بماء النهر الذي يتدفق نحوه، قطرة قطرة، ولا يكترث أبدا بذاك الماء الذي يتدفق بعيدا.