ابتسام نور الهدى ツ Ibtissem Nour el Houda

تنمية عالمنا بتنمية انفسنا..

للانتظار طعمٌ آخر عندما يكون على رصيف قديم، مزدحم بالناس والمشاعر، تتجاور على صفحته أقدام المارة والحَمَام. يُخيّلُ إليَّ أن بعض المدن بنيت من أجل أرصفتها، حيث يُعد الرصيف فيها الملجأ الذي يرتمي عليه الهاربون من شظف العيش، ومن ثقل المسؤوليات.

في تلك المدن، تتزين الأرصفة بالأمنيات، وتتعطر أجواؤها بعبق القهوة التي تُقدّم مع أولى خيوط الشمس وآخرها، تحت ظلال الأغصان المنتشية بالحياة. إحدى أجمل الأحاسيس التي تخالجنا هي عندما تمتزج رائحة القهوة الصباحية برائحة أوراق الأشجار المُبللة بأمطار الليلة الماضية.

للأرصفة حكايات تنتظر أن تروى؛ حكايات الشحاتين وقصص العاشقين الأبدية، فلا تكاد تخلو الأعمال الروائية العظيمة من رصيف دارت عليه أحداثٌ جسام، تنوّعت بين اللقاء والفراق، وبين سقوط القنابل وتفتح الأزهار.

للرصيف مكانٌ في قصص نجيب محفوظ، حيث كان يجلس في مقهى الفيشاوي ويكتب عن المارة ولهم. لقد كان منجماً من الحكايات الإنسانية المتنوعة.

وللرصيف مكانةٌ عند المنتظرين؛ فانتظار الأحباب يجعل من الأرصفة أحباباً آخرين، لا نعرف قدْرهم حتى نفارقهم. قد ننسى كثيراً من الذكريات، ولكننا لا ننسى الأرصفة التي جمعتنا يوماً بمن نُحب. تخيلوا مدينة تخلو من أرصفة؟ يا لسذاجة الانتظار حينها، ويا لكآبة المكان!

رصيف الميناء مسرح من مسارح الحياة، أبطاله العتالون المنهزمون، والربابنة الأباطرة، الظالمون في أغلب الأحيان. الجمهور الوحيد على أرصفة الموانئ هي السفن، إلا أنها لا تعرف كيف تبكي أو تصفق. رأيتُ مرة عتّالاً فقيراً في إحدى الموانئ وهو يبحث في صندوق القمامة، توقفتُ وحاولتُ أن أعطيه بعض النقود، فرفض، وعندما سألتهُ عن السبب قال لي إن ربان «السفينة الخشبية المهترئة» التي جاؤوا عليها يرفض أن يأخذ أحد أفراد طاقمه صدقة. فسألته:

«لماذا إذن لا يُعطيكم ما يكفيكم حتى لا تحتاجوا إلى الآخرين» فقال: «حتى نبقى في حاجة دائمة إليه». لو قُدّرَ لروائي أن يقضي وقتاً على ذلك الرصيف لكتب مسرحيات تراجيدية ربما تكون أفضل من أعمال شيكسبير.

عندما نسافر يصبح الرصيف ورقة بيضاء نكتب عليها بخطواتنا ما نتمنى، ثم نعود بعد عام لنعيد الكتابة على الرصيف نفسه، لا لكي تتحقق الأحلام؛ ولكن حتى لا يبهت لونها. يظن الناس أن أحجار الأرصفة تتشابه، لكنها ليست كذلك، فهي كبصمات الأصابع، يُخيّلُ لنا من جَهْلنا أنها متطابقة. إن الفروقات بين الأصابع وأحجار الأرصفة ليست في الشكل فقط، ولكنها في ثقل الآلام التي احتملتها عبر السنين. الأرصفة لا تعرف التلفيق، ولكنها لا تعرف الكلام أيضاً؛ ولذلك فإنها أقرب شيء للأحلام، نحبها كثيراً، ولكننا نعجز عن شرحها للآخرين.

كم تُشبه بعض الأرصفة عقول المتشائمين، لا يكسوها سوى الأبيض والأسود، ويكفي أحدهم أن يرفع رأسه ليرى الألوان البهية التي تنتشي بها الحياة من حوله. تمنيتُ لو كان بيدي سلطة تلوين تلك الأرصفة؛ لمنحتُ كل عابر لها فُرشاة وتركته يختار اللون الذي يحب.

الرصيف هوية المدينة، وأحد مقاييس تحضر سُكّانها. تأسرني المدن المرصوفة بعناية، تلك التي تدعوك لاستخدام قدميك بقدر ما تستخدم فيها عقلك، كم يستفزنا الرصيف للمشي والتفكير؟ إن أسوأ المدن هي التي تحرمك من استخدام قدميك أو عقلك أو كليهما.

في المدن المرصوفة، يُستخدم الرصيف لمنح الناس فرصة للتأمل، وفرصة للرياضة، وأخرى للفرجة. عند زيارتك لإحدى المدن الفرنسية أو الإيطالية أو الأميركية؛ ستجد بأنهم يهتمون بالأرصفة أكثر من الشوارع، لأن الأرصفة للبشر والشوارع للآلات.

تبدو غالبية مدننا العربية كئيبة لأنها تكاد تخلو من أرصفة، وتلك الموجودة لا تمنحك الأمان للمشي عليها، فهي إما ملغومة بحفرة تصريف المجاري المفتوحة، أو ضيقة وقاصرة كطفل لم يكتمل نموه. كم سيئة هي المدن التي لا تحترم من يحاول عبور الشارع من مكان خطوط المشاة. إن من يعبر الشارع في مدينة عربية كمن يعبر المحيط الأطلسي بقارب صيد.

الأرصفة هي تجاعيد المدن، وكلما اهترأت انهالت الشيخوخة على المدينة. لا يكفي أن نعيد طلاء الرصيف مرة كل عدة أعوام؛ نحتاج إلى عمليات تجميل كثيرة حتى نعيد لمدننا نضارتها.

يا لوفاء الأرصفة، يبصق عليها الإنسان، ويرمي عليها مخلفاته، وتظل تحمله حتى عندما يُفقده الحزن القدرة على حمْل نفسه. لكل إنسان حكاية مع رصيف، وعلاقة وجودية لا يكتشفها إلا عندما يبقى وحيداً، أو يُردُّ إلى أرذل العمر.

عندما تباغتك الشيخوخة، وتفقد القدرة على استرجاع ذكرياتك الجميلة، وتنسى أين وضعتَ دفاتر مذكّراتك، فاطلب من أحدهم أن يخرج بك إلى الرصيف؛ فالأرصفة لا تنسى ولا تعرف الكذب. سألني أحدهم: «هل الرصيف هو الحقيقة؟» فقلتُ له: «وقد تكون الحقيقة هي الرصيف».

المصدر: yhareb.com
nourelhouda

الحياة دمعة وبسمة.. فلا تجعل الدمعة التي تسقط تلو الاخرى تضعفك بل اصنع منها قوة ومن القوة سيف لتقطع به الاشواك التي تنبت في طريقك.. **لديك حياة واحدة لتعيشها.. فكيف تختار ان تعيشها..!!!** عش كل لحظة كأنها اخر لحظة في حياتك ..

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 378 مشاهدة
نشرت فى 7 يونيو 2012 بواسطة nourelhouda

ابتسام نور الهدى ツ Ibtissem Nour el Houda

nourelhouda
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

356,372

ضع كتاباً بين يديك...

سلم النجاح
ضع دائما صورتك التي تريد أن تكون عليها في عقلك و مخيلتك, وستتجه تدريجيا نحوها.. اذا لم تهزم نفسك, ستهزمك.. سلم النجاح لا يعاني من الازدحام في اعلاه..
نابوليون هيل

**********
Follow me on Twitter
Ibtissem Nour

Join me on Facebook
For a beautiful world



*******************

بنوك المحبه - Love Cheques
إبداع في طريقة التواصل مع كل من حولك لتعبر لهم عن اهتمامك وتوصل لهم مشاعرك وتشاركهم أحاسيسك وحياتك، مع انتقاء عبارات تواصل رائعة في جزء من هذه الشيكات، وترك المجال لك مفسوحاً لتعبر بطريقتك في الجزء الآخر.
بالتواصل الجميل وتبادل الاهتمام تحلو الحياة سواء كنت زوجاً أم كنتِ زوجة، أباً أم أماً، ابناً أم ابنة، صديقاً أم قريباً.
للطلب اون لاين عن طريق موقع شركة الابداع الفكري ولديهم خدمة توصيل للمنازل.
==> شيكات المحبة - السوق الإلكتروني لشركة الإبداع الفكري

****