جوديث روس
في منظّمات اليوم الحديثة ذات المستويات الهرمية المختصرة، والتي تسود فيها تعددية وظائف المواقع المختلفة وتقاطعها، يتطلّب المضيّ بالمشاريع في طريق الإقناع بالفكرة واكتساب التأييد مقدرة التعامل بنجاح في كل الاتجاهات صعوداً ونزولاً وجانبياً. والسلطة والصلاحية الناشئة بحكم المنصب والاختصاص Power and line authority لا تمضي في هذا المضمار إلاّ شوطاً محدوداً.
وفي هذه الأحوال يبرز دور الإقناع. يقول روبرت كيالديني أستاذ علم النفس والتسويق في جامعة ولاية أريزونا والباحث والكاتب المتخصّص في أساليب الإقناع في ميادين العمل.
مثلما يتغلّب ممارسو الرياضات القتالية على خصومهم بالاستثمار الذكيّ لقوانين وعوامل فيزيائية مثل العتلة، والعطالة، والجاذبية وليس بالاعتماد المطلق على القوّة الشرسة، يمكنك إقناع الآخرين باستثمار مبادئ التأثير الاجتماعي. من هذه المبادئ الشعور بواجب ردّ الجميل الناشئ بين فردين بعد بذل أحدهما يداً بيضاء لدى الآخر، وميلنا للموافقة مع من نحبهم أو نعجب بهم، ورغبتنا في التصرّف بطرقٍ متسقة مع التزاماتنا وقيمنا.
هل جزاء الإحسان إلاّ الإحسان
فعّل "الأخذ والعطاء"
خطوةٌ جيدة منك تجاه الآخرين تولّد خطوةٌ جيدة أخرى منهم تجاهك. أيّ جميل تقدمه اليوم قد تجده يعود إليك غداً أو بعد غد من حيث لا تحتسب:
- المناصرة الصادقة القويّة لمقترح زميلك في اجتماع العمل بينما ترى الآخرين لا يمنحون الفكرة إلاّ تقبّلاً فاتراً.
- مشاركة معلومات مفيدة مع زميل عملٍ في قسم بعيد عنك ما كان له الحصول على هذه المعلومات لولاك
- المبادرة الحامية "الفزعة" إلى مساعدة زميلك في الفريق في إنهاء عرضٍ تقديمي أو في التحضير له.
تجنّب التظاهر، وتجنّب البرود والإعراض عن مدّ يد العون. فالبشر سيشعرون بما تضمر في داخلك وسيحترسون ويتحفّظون. كن صادقاً، وابق على طبيعتك تتحيّن الفرص لتكون شخصاً صالحاً معواناً. لن تقتصر النتائج الطيّبة على شعورك الجميل بالرضا في نفسك، بل ستبني شبكةً من الزملاء الذين يشعرون بواجب مبادلتك الإحسان بالإحسان والذين تتأهّب أسماعهم وأبصارهم بحثاً عن فرص مد يد العون والدعم لك.
لا تقدّم لهم.. امنحهم الأفضليّة واطلب أنت منهم!
تبادلية المعروف Reciprocity يمكنها أيضاً تصليح العلاقات المتدهورة، ولو بطرق مختلفةٍ عمّا تتوقّع.
فإن كنت ترجو إصلاح الحال بينك وبين أحد الزملاء فاطلب أنت منه معروفاً. قد يبدو هذا مخالفاً للبديهة، لكنّ هذا ينجح في الواقع فعلاً. إنّك تمنح ذلك الزميل الفرصة حتّى يقدّم إحساناً ويشعر بنفسه شهماً رحب الصدر. إذاً اطلب المساعدة منه ولا تتردّد.
وينصح كيالديني بأن يكون الجميل المطلوب متصلاً بالوظيفة التي نقوم بها، فهذا يزيد من شعوره بالرضا في نفسه. وعلى ذلك يسوق كيالديني مثالاً من تجربته الشخصية، فبعد فوزه في نقاشٍ حامٍ في إحدى مسائل التوظيف الهامّة، قام كيالديني مباشرةً وبحث عن أحد الزملاء الذين كانوا في المعسكر المعاكس، ومع مشيه مرافقاً ذلك الزميل إلى مكتبه طلب منه النصح والرأي في ورقة بحث كان يعمل عليها فأشار عليه ببعض الكتب والموارد المفيدة وأعارها له. وخلال تلك المناقشة علم كيالديني بالمهمة التي كان ذلك الزميل يعمل عليها، ومع انتهائه من عمله بالكتب وإرجاعها لصاحبها كان كيالديني قد بحث ووجد مجموعةً من المواد المفيدة التي ينصح بها ذلك الزميل، فيرسّخ بذلك علاقةً إيجابية.
"لم يكن نقاشنا في ذلك الاجتماع الخاص بهيئة التدريس نقاشاً ساراً. ومع انتصار الجانب الذي كنت فيه أدركت الاحتمال الكبير لشعور الطرف الآخر بالمرارة. لكن بسبب طلبي المساعدة منه أصبحنا أصدقاء وبقينا كذلك".
ركّز على الخصال الإيجابية لدى الشخص الآخر
ساعده على أن يُعجب بك!
على منوال "تبادلية الجميل Reciprocity" فإنّ التركيز على خصال الآخر الإيجابية طريقة مثلى لإنشاء رابطة. يتطلب منك هذا الأسلوب أن تبحث بحثاً واعياً عن شيء يعجبك إعجاباً حقيقياً في ذلك الشخص. حتّى لو كان ذلك الشخص كارثةً في مكان العمل فهناك على الأغلب شيء يمكنك أن تعجب به وتقدّره من خصاله الشخصية، أو خبراته الماضية، أو القضايا التي يناصرها.
بعد تحديدك الميزة الإيجابية، اثن عليه بها. وبإظهار تقبّلك له وإعجابك به فإنّك تساعده على أن يعجب بك، وهذه هي (حسب قول البروفيسور كيالديني) لحظة تصدّع وانهيار الحواجز. ويتابع القول (يشعر الناس بمزيد من الطمأنينة ويغدون أكثر انفتاحاً وائتماناً إزاء من يعجبونهم. وتزداد فرصة منح هؤلاء المزيد من المعلومات الإضافية التي تيسّر نجاحهم).
والتركيز على الإيجابيات يمكن أن يعين في تحسين العلاقات مع زميل عملٍ طالما كنت تكرهه فيما مضى. مثلا: مديرٌ في شركة دوائية كانت العلاقة متوترة بينه وبين رئيسه وكثيراً ما كان هذان الاثنان المتعنّتان غافلين عن الإيجابيات. باستخدام هذه التقنية أدرك المدير أنّ ميل رئيسه إلى التدخّل في العمل وعرقلته أحياناً كان ناشئاً عن رغبته في القيام به على أكمل وجه.
وعندما أثنى على قيمة الحرص هذه عند رئيسه أشرق وجهه وانفرجت أساريره. وفي صباح اليوم التالي قدّم هذا الرئيس للمدير نوعاً جديداً من المعلومات لم يسبق له تقديمه من قبل: لقد قدّم له معلومات مفصّلة مباشرة وواضحة حول النقاط التي ينبغي التأكيد عليها، والنقاط التي ينبغي الاحتراس منها، في سبيل نيل الموافقة والدعم في اجتماع عمل مهمّ سيعقد مساء ذلك اليوم. ومن دون تلك المعلومات والإرشادات كانت الأمور ستسير في طريقٍ بعيد عن الهدف.
ويتابع كيالديني القول: بقول المدير لرئيسه "إنني أقدّر وأحترم معاييرك الرفيعة" فإنه أعطاه سمعةً يُسرّ بتذكّرها والاعتزاز بها والثبات عليها وتدعيمها. ولقد أدرك ذلك الرئيس أنّ ظهور ذلك المدير ظهوراً إيجابيّاً ناجحاً يعني كذلك ظهوراً إيجابياً مشرقاً له أيضاً.
استرجع آراءهم وتصرّفاتهم الماضية
دعهم يرون في فكرتك فكرةً لهم
عندما نذكّر أحدهم بموقفه السابق إزاء قضية (مثل: أتذكر يا مالك كيف كنت تنادي بتخصيص الشركة مزيداً من الموارد في تعريف فريق المبيعات بخط المنتجات الجديد؟) فإنّ هذا الشخص سيميل إلى التصرّف الآن بطريقة تتسق مع تصرّفه في ذلك الموقف المشابه. إنّ هذا مثالٌ على الظاهرة السلوكية الاجتماعية المعروفة باسم "الاستتباع Labeling".
عندما تستخدم "الاستتباع" في التأثير على أحدهم فإنّك تذكّره بسمعةٍ يميل إلى التمسّك بها ومتابعة العمل بها. إن أردت تأييده لاقتراحٍ يقضي بتحويل المزيد من أموال التسويق من المواد الورقية المطبوعة إلى شراء الإعلانات الإلكترونية لتنشيط المبيعات الفلانية، فسنجدك تستدعي سجله الماضي من تفضيل الإعلان الإلكتروني لترويج أشياء مماثلة. إنّك تريد جعله يرى أنّ تأييده لاقتراحك يتماشى مع مواقفه السابقة.
و"الاستتباع Labeling" (أجل، كما تتصوّر عزيزي القارئ) فعّال بشكل خاص في إقناع من لديهم اعتداد كبير بحكمة ورجاحة صناعتهم للقرار.
يتطلّب استخدام هذه التقنية معرفة جيدة بأولويات الشخص وقيمه ومواقفه السابقة. إن لم يسبق لك العمل مع أحدهم عملاً كافياً لتكتسب هذه المعرفة فيمكنك أن تعود إلى التقارير والعروض التي قدّمها في الماضي، وأن تستكشف معلوماتٍ عنه من التحدّث مع من عملوا معه بقرب أكثر ولمدةٍ أطول.
في النهاية التأثير مسألة علاقات. كلّما كان لديك علاقات أكثر وكلّما كانت علاقاتك أقوى وجدت نفسك أكثر قدرةً على جعل الناس يصطفون إلى جانبك حين تحتاج إلى التأييد.