قراءة في "أنثى النهر" للشاعر عاطف الفراية
بقلم نزار سرطاوي

 

"أنثى النهر" هي المشهد التاسع من عمل شعري مطول بعنوان "أنثى الفوكه الغامضة" للشاعر والأديب الأردني عاطف الفراية. وقد سبقت انثى التهر ثمان من الإناث بينهن  أنثى التوت، التفاح، الثلج، الرمان، العنب، والورد. شدني مشهد "أنثى النهر" حين قرأته، ليس بالضرورة لأنه أجمل من المشاهد التي سبقته، بل ربما لأنني اطلعت عليه قبل سائر المشاهد، وربما أيضاً لأنني توقفت عنده أكثر من سائر المشاهد فترك أثراً في نفسي بالغاً. لكن قبل أن أشرع في الغوص في "أنثى التهر" لا بد من إلقاء نظرة على النص بصورته الكاملة:
<!--

 

أنثى النهر

شعر عاطف الفراية


النساء يقفن على ضفة ذاهلة.
النساء السعيدات ينسجن أفراحهن...
على صفحة الماء... والنهر يدنو!!!!!
........................
في مرايا المياه الشقية...

النساء الجميلات مشّطن أحلامهن..
(بطول الضفائر أحلامهن)
ويغزلن خيط المياه بأشواقهن... 
عسى... ولعل المياه ستنشق عن فارسٍ مثل كل الحكايا

(لا يهم الحصان ولا لونه)
ثم يلقين في النهر أرجلهن إلى القاع... والنهر يعلو...
النساء اللواتي أطلن المكوث على النهر يرفعن أثوابهن...
لينكشف الماء عن فتنة... لم يعد يعرف النهر أي المرايا بها وجهه؟
والنساء يخبئن في النهر أسرارهن إلى القاع.. والنهر يشهقُ...
النساء الحزيناتُ يشربن خيباتهنَّ .. 
فلا انشق ماءٌ... ولا...
هو النهر من فرط إشفاقه... يتصاعد مثل حزام من الضوء.. 
طوق خصر النساء...
وحاضنهن... وفرّ بهنّ إلى وكره ليخبئ
أحزانهن... وأشواقهن... وأحلامهن... وخيباتهن... ويضحك...
النساء اللواتي تحزمن بالنهر... أجببنه... 
ونسين زمان الرجال.

 

================
<!--

 

حقّاً هكذا يكتب الشعراء الكبار. يتحول القلم إلى ريشة والشاعر إلى رسام والكلمات إلى صُوَرِ تدهشك، تأسرك، تسحرك، تقتحم لباب عقلك، تنفذ إلى شغاف قلبك. ولا تملك إلّا أن "تشهق ذاهلاً،" جاهداً أن تتصوّر في مخيّلَتك كيف تكون ضفةُ النهر ذاهلة (مثلك)؟ وكيف يشهقُ النهر (مثلك)؟ كيف تكون مرايا المياه – أو المياه نفسها – شقيّة (كالأطفال)؟ كيف يحس النهر بالإشفاق (كالبشر)؟  كيف تمشط النساء أحلامهن (كالضفائر)؟ كيف يحاضن النهرُ النساءَ (كالعاشق)؟ وكيف يفرّ بهن (كالعرائس أو ربما الفرائس) إلى وكره؟ وربما تحلم (إذا كنت رجلاً) بأن تتحوّل إلى نهر –  كما نحوّل كل الأناسي الذين كتب عنهم الشاعر الروماني أوفيد إلى مخلوقات أخرى –  فتنكشفَ لك أسرار النساء. أو قد تداعب أشواقَك رغبةٌ خفيّة أن تتحول، ولو للحظات،إلى واحدة من هؤلاء النساء، فتعيشَ تجربة الأنوثة بأبعادها الأسطورية كما يصوّرها الشاعر.

 

"أنثى النهر" نص يقدم تجارب أنثويةً فريدة من خلال صور شعرية تتميز بالدقة والوضوح، تعبّر عن نفسها بلغة حادّة تذكرني بالشاعر الأمريكي عزرا باوند رأس المدرسة الصورية Imagism الذي كان هو الآخر يميل إلى استخدام صور شعرية محكمة السبك، قوية الملامح، عالية التركيز.

 

أزعم أن الصور الشعرية التي يستخدمها الفراية في "أنثى النهر" أكثر ثراء، وأوسع امتداداً، وأعمق ولوجاً في التجربة الإنسانية. باوند يكتفي بنحت الصورة، أمّا الفراية فينفخ فيها الروح.

 

هاكم مثالاً على ذلك: باوند ينزل من قطار في إحدى محطات المترو فى باريس، ويشاهد وجهاً جميلاً، وآخر، وثالثاً. وتتوالى الوجوه فيفرغ تجربته في بيتين من الشعر:

The apparition of these faces in the crowd

Petals on a wet, black bough

"انبلاج هذه الوجوه بين الجموع / بَتَلاتٌ على غصنٍ أسودَ مبتلّ"   (ترجمة نزار سرطاوي).

 صورة جميلة تثير الأعجاب بلا جدال، يستشهد بها جلّ الذين يكتبون عن باوند ومدرسته الشعرية. لكنها أقرب إلى صورة تمثال. وكأنّي بالشاعر، استجابةً لحالة الدهشة التي اعترته، قد تخيَّل في ذهنه صورةً تحاكي، على نحوِ ما، الصورة الموضوعية للوجوه. ثمّ التقط صورةً شبه فوتغرافية للصورة الذهنية، فكانت القصيدة بسطريها الرصينين

 

الفرّاية من جانبه يعبر عن حالة الدهشة – أو بالأحرى يثير دهشة القارئ –  بطيف من الصور المتلاحقة المليئة بالحياة والحركة. الفراية يبعث الروح، لا في مياه النهر وحسب، بل في ضفة النهر أيضاً. إنه، ببساطة، ينقل إلينا تفاعلاً  نشطاً بين الإنسان والطبيعة يتمثل في تلك العلاقة المثيرة بين العنصريْن الرئيسين اللذَيْن يتّكئُ عليهما بناء القصيدة: النساء والنهر، ويبلغ أوجه في ذلك الالتحام الرائع بين النساء والنهر الذي يسدَل به الستار في ختام القصيدة  

 

والحق أن التصوير في "أنثى النهر" يستحق وقفةً متأنّية، باعتبار أنه يشكل إحدى الدعامات الأساسية في جماليات القصيدة. فالقصيدة، كما أشرت، تزخر بالصور الحسيّة. بعض هذه الصور يستدعي حاسة السمع (والنهر يشهقُ، ويضحك) أو حاسّة البصر (ضفة ذاهلة، مرايا المياه، بطول الضفائر أحلامهن، حزام من الضوء)، أو اللمس (طوق خصر النساء..وحاضنهن)، أو الذوق (يشربن)، وبعضها يرتكز على الحركة – حركة النهر وحركة النساء. فالنهر يعلو، يدنو، يتصاعد، يطوّق خصر النساء، يحاضنهن، يفرّ بهن. والنساء يقفن، يمشّطن أحلامهن، يغزلن خيط المياه، يلقين في النهر أرجلهن، يرفعن أثوابهن، يشربن خيباتهنَّ. ثم هنالك الصور التي تخاطب الأحاسيس الداخلية (هو النهر من فرط إشفاقه، أحببنه). ولا يخفى أن السواد الأعظم من هذه الصور يجمع بين حاسّتين أو أكثر. فالضحك مثلاً يجمع بين السمع والبصر والحركة والإحساس الداخلي، والشهقة مثل ذلك. والشرب يجمع بين الذوق والبصر والحركة. والصور الحركية كلها صور بصرية أيضاً.

 

لكن القصيدة ليست مجرد سلسلة من الصور. القصيدة تحكي قصةً بطلُها النهر وشخوصها النساء. النساء على ضفة النهر ينتظرن حظوظهن، وكأنهن يتضرّعن أمام الغانج (نهر الهندوس المقدس)، أو يستطلعن نبؤات الغيب في أحد معابد دلفي الإغريقية. وهُنَّ يتلقفن من النهر العطايا، يخضن في مياهه، يكشفن له عن مفاتنهن، يبحن له بأسرارهن، أو يلقين إليه بأنفسهن قرابين يفعل بها ما يشاء. والنهر – هذا الكائن الغامض الذي هو أشبه بآلهة الأساطير – يدنو منهن أو يجذبهن إليه، ينفحهن بالهبات أو يستولي عليهن.

 

لكن نهر الفراية لا يُصَرَّف أقدار النساء على هواه. فسلطانه لا يتجاوز ضفافه. والنساء هنّ اللواتي يخترن الوقوف عليها. وهنّ، على اختلاف ألوانهن، ينتمين إلى فصيلة واحدة: "أنثى النهر." ولعل ذلك يوحي بأنهن، على نحو ما، يشاركن في صنع أقدارهن ومصائرهن.

 

هل يمكننا أن نَحْمِل قصة النهر – أو قصصه – مع النساء على وجهة نظر معينة؟ بالتأكيد نستطيع ذلك. ففي القصة نساء سعيدات وأُخَرُ حزينات، وفيها نساء جميلات ونساء حالمات، وقد نجتهد أن لا بد وأن هناك نساء دميمات وربما نساء ساذجات أو حمقاوات أو ساقطات. وبمعنىً آحر، ربما تغرينا مفردات القصيدة بأن نطلق الأحكام، أو أن ندهب في التأويل مذهباَ سيكولوجياً أو اجتماعيأً أو أخلاقيأً أو غير ذلك. كل ذلك ممكن. لكن مثل هذه التفاسير ربما تشطح بنا بعيداً خارج سياق النص، فنقول شططا.

 

لا يمكنني أن أجزم بأن الشاعر يرمق نساء القصيدة بنظرات الإعجاب، لكنني أُخمِّن أنه يفهم أحاسيهن، ويرفق بهن، ويتعاطف معهن كما يتعاطف سيرفانتيز مع دون كيشوت رغم كل أوهامه وتهيؤاته، أو كما يرى فلوبير ذاتَه في بطلته مدام بوفاري رغم كل خطاياها. وحين يذكر لنا الشاعر "أحزانهن... وأشواقهن.. وأحلامهن.. وخيباتهن..،" ألا يشير بهذه الكلمات، عن قصدٍ أو غير قصد، إلى مشاعرَنا وأحاسيسَنا وتجاربَنا نحن أيضاَ؟

 

 

 

  • Currently 15/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
5 تصويتات / 388 مشاهدة
نشرت فى 4 يونيو 2011 بواسطة nizarsartawi

ساحة النقاش

عدد زيارات الموقع

48,664