آكلوا البطاطا ونظرات تربوية 

كنت غارقاً في حلمي بين اليقظة والنوم استرجع تفاصيل لوحة عشاء أسرتنا طقوس ثابتة أميفي المطبخ أبي يساعد سها ونزار بين التلفاز والمشاكسة و أحمد هدوء وطلب علم . نداء لطيف يلاالعشا كانت الأرض بقسوتها أو الطبلية بأناقتها آنذاك لايوجد متغيب وليس من ذلك سبيل أوامرعليا معلنة ماحدش ياكل استنوا ... كلنا مع بعض تلك المعلمة الطيبة ماما سنية وأبي رضا (الشهرة ) بنظرته المسيطرة لنا كلنا حااااااضر يا ماما مع اختلاس بعض اللقيمات سراً منالحلاوة والإغراء . 

تمتد الأيدي متجمعة مع صوت المعالق والضحكات والكلمات فلا يوجد فيس بوك ولا ماك ولامحمول فقط حكايات ودردشات وأسئلة وحوارات وتربية وتوجيهات . 

الله يا أبي 

آهٍ كَمْ أَشتاقُ أَيامَ أَبيْ

رُغمَ ما فيها من الهمِّ وطولِ التعبِ

ذلك الرجل الرهيبُ العصبيُّ العصبيْ

إِنه أُورثنيْ الحزنَ ولكن..

مَدّني بالعزمِ والعزةِ والصبرِ الأَبيْ

فحملتُ العبءَ طفلاً ودموعي لُعبَيْ

وبكى حينَ رآني ناجحاً

ورضى عِينيهِ أطفا تعبيْ

إنما كانَ أبيْ..

قاسيَ الوجهِ ويُخفي نهرَ حُبٍ عذبِ

قلبهُ قلبُ صبيْ

صبرُهُ صبرُ نبيْ.. رحم الله أَبيْ

كم أشتاق لك أمي ولمساتك الحانية وتفاصيل حضنك ومسحات يديك كم أحن لقبلتك خوفك فرحكمرحك كلك كم وكم احتاجك !! 

هذه التفاصيل هيجتها لوحة فان كخ ( آكلوا البطاطا ) فيها كم هائل من التفاصيل استخرجتبتأملي أكثر من ١٥٠ معلم وفهم وذكرى . 

أرسل "ثيو جوخ" إلي أخيه الفنان "فان جوخ" تعقيبا علي اللوحة التي أرسلها له في باريسقائلا:

اللوحة رائعة حقا، لكن بها أشياء تزعجني كثيرا، قل لي بحق لماذا صورت الناس المجتمعين عليالطعام وهم يأكلون وأيديهم جميعا غير نظيفة؟ ما الذي كنت تخسره لو جعلتهم أجمل من ذلك،كانت اللوحة لتكون اجمل بحق لو صورتهم بأياد نظيفة، إنك يا أخي تزعجني بهذه الأشياءالصغيرة .

فارسل له فان جوخ رسالة يرد عليه: “بل هذه يا ثيو أهم نقطة في اللوحة، لقد أردت فعلاً أن أجعلالناس يعلمون أن هؤلاء الناس الذين يأكلون البطاطا ، قد حفروا الأرض بأنفسهم بهذه الأيديالتي يضعونها في الطبق ليحصلوا على البطاطا ،أخي ثيو، كل ما أردته وبشدة تخليد تلكاللحظة. لحظة هؤلاء الناس وهم يأكلون البطاطا على ضوء مصباحهم الصغير بأيديهم الخشنةالتي يزرعون الأرض بها، لابد ان يعرف من يراهم ان هؤلاء الناس حصلوا على طعامهم بصدق ياثيو "

كانت هذه المحادثات علي إحدي ايقونات الفنان فان جوخ التاريخية وإحدي اللوحات الأشهرعالميا وهي لوحة "آكلو البطاطا" "De Aardappeleters" لاسرة من المزارعين يجتمعون بوجوهمكفهرة علي مائدة عشاء ليس عليها الا البطاطا والبطاطا وقتها هي الوجبة الرئيسة للطبقاتالفقيرة والمتوسطة في هولندا. وكانوا يسمونها تفاح الأرض ..

عبقرية الفن بشكل عام تتمثل في عدم المباشرة والقدرة علي نقل اقوي الرسائل من خلال تفاصيلصغيرة صامتة ربما لا تنتبه لها اول الامر .. كالشعر ينساب بداخلك 

المصباح الصغير، الايدي الخشنة المتسخة، الطاولة الفقيرة، الاعين الناعسة، الطعام القليل،النظرات الحائرة، البطاطا ..الشقاء البادي علي الملامح والصمت الذي يخيم علي الصورة، الالوانالقاتمة، كل هذه التفاصيل الصغيرة المذهلة في اللوحة هي التي جعلتها من أشهر أعمال جوخ.

قفز كل هذا الي ذهني وانا اعيد تأمل هذه اللوحة العبقرية الغنية بالتفاصيل الصغيرة الصامتةوالتي ظهرت عفوية في الصورة..تأمل معي ..الهدوء واللامبالاة والسلام النفسي الكامل الحباللهفة الجمال الحقيقي العميق  ..خمسة أسخاص بالصورة من أسرة كادحة واحدة تكاتف أوتواسي الأيدي على المائدة والبطاطا غير المقشرة تلتهم كمكافأة بعد يوم شاق عسر ليتنا نتدارسهموم اللقطة مع الأبناء الناعمين الذين يلقون بنص الوجبة أرضاً وبحواف الساندوتش قرفاً . 

ثم البشرى بضوء ساطع( الأمل كبير والتفاؤل ضرورة )  يخترق منتصف اللوحة ويضيء الوجوهرغم العتمة ( ضيق العيش الغلاء .... ) فاللوحة مشرقة رغم كآبة ما تحكي .

فكرة اللوحة سياسية اجتماعية وما حصلوا عليه بعد الزرع والحصد فتات الفتات ليأكلوا بطاطابنهاية يومهم القاسي تقول لنا تحرر من الوظيفة الآن وخطط لتكون حراً مالياً لتقرر بلا خوفوتبدع بلا قلق.

هؤلاء الناس الظلال أو الخيال في أرض الواقع والآتون من زمن آخر، يأكلون من ذلك الصحنالضئيل وهم من قاموا بزرع الأرض، وحصد الكثير منه ليرسم فان  البطاطا غير المقشرةوالساخنة، وكأنها رسالة صريحة وواضحة عن أحوال هؤلاء، خاصة أنه استخدم خمسة ألوانفقط، وهي الألوان الترابية، من الرمادي والبني المخفف والأخضر الداكن والأصفر بدرجاته... كلهاكما نرى تتحرك في ضوء المصباح الأصفر، إن لم يكن المصباح يحرك الألوان، والهدف هو استنارةوجوه الفلاحين وأياديهم المتعبة البارزة في عظامها والمعلقة في طبق البطاطا أمل الحياة .

من تلك الوجوه الخمسة ترك لنا فنسنت فان كوخ وجهاً وحيداً خافياً، ليدع الخيال لنا، فكيف منالممكن أن يكون وجه الطفلة في هذه الأجواء، والأطفال في هذا العمر أكثر فرحاً من الكبار وأقل ألماًمما يحدث لكونها ما زالت صغيرة ولا قدرة لها أن تستوعب كل ذلك الألم، ليصعد بخار البطاطا فيوجهها، لكن ومن جلستها وهيئتها البريئة فإنها تشعر بالحب والبهجة وأن القادم من تغييروتطوير في طفولتها ومستقبلها قد يكون لنا بصمات مع الأطفال ليرسموا لنا مستقبلاً أعدل .

بعيداً عن تفسير الضوء الساقط على هؤلاء الأفراد وهم يحلقون حول صحن البطاطا، فإننا لانغفل القلق الذي حولهم وهم في منزل مهترئ وصغير يشهد على حياتهم المهملة، فهو قديم جداًوبني كما يبدو بعشوائية شديدة، فمن جهة لن نعرف من يستند إلى الآخر، العمود يساند السقفأم السقف يساند العمود، أمام تلك النوافذ المختلفة عن بعضها وحجمها فمن المؤكد أنها لم تفتحمنذ زمن، ومن جهة أخرى فإن السقف المنخفض المرسوم لا يبدو آمناً، ومن الممكن أن لا يصمدطويلاً وينهار... كما أن الساعة المعلقة خلفهم، ربما تكون متوقفة، أو دعونا نقول إنها بلا أهمية،فقد نسيهم الزمن إلى غير رجعة.لا تنسوا من في الأكواخ من حولكم رغم الضوء الساطع منها فلانعلم ما بهم . 

بين الشحوب والألوان والتدرجات بين الأضواء والزوايا الألوان متناسقة كعائلة واحدة متناغمةكتناغم الخمسة كل وجه له حكاية وعمق تسعر بدفء الأم وسخونة القهوة وانسيابية الصب رغمقهر الحياة . تستطيع ببساطة تركيب حوار الأخت والأب والأم كحياتنا تماماً 

جلسةٌ حميمية لعائلة في كوخها الخشبي المُنار بمصباح الزيت, والعيش في كوخٍ خشبييختلف عن العيش في سجن الجدران الاسمنتية, فالخشب كائنٌ حيّ والحياة داخل كائنٍ حيّ تبثّفينا ذكريات منسيّة عن الحياة داخل أرحام أمّهاتنا الحيّة لمدّة تسعة أشهر, متمتّعين بالدفءوالأمان - وقد دخلت قصوراً لا أحلم بدخولها وكان الضنك النفسي يعشش فيها كل ثانية لدرجةانتحار ساكنيه - .

رسالة البطاطا تقول لنا متى تزرع قوت يومك بيديك فهذه يد يحبه الله ورسوله . 

مع لمس اللوحة الزيتية  تجد المنحدرات الوعرة للألوان الحارة والخطوط المتوارية. كأنها تمثل“الانفعالات” و”التراكمات” المحطمة، والجريئة فاللوحة تقول لنا: الحياة قرار إنساني، فـإذا أردتأن تنمو فمن الضروري أن تغرق في التراب، لأن المهم هو ألا نجهل عصرنا الزائف، وأن نقوللأنفسنا إننا نحيا في قلب الألم، وتكمن المواساة في أنه لا يتوجب على المرء السعي وحده دوماً،بمشاعره وآرائه، بل لا بد من المشاركة والعمل بشكل جماعي.

الصورة ليلية مفعمة بالفلسفة الروحية وجمال وبروز الألوان في زحام الليل يعطي إيحاءاتإيمانية عميقة التأثير في القلب وكأنها طاقة شاحنة من طول مسير النهار وكأن رأسك على وسادةوعيونك تسرح متأملة سكون الليل . 

 

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 70 مشاهدة
نشرت فى 9 أكتوبر 2021 بواسطة nezarramadan

ساحة النقاش

نزار رمضان حسن

nezarramadan
مدرب تنمية بشرية بالمملكة العربية السعودية / مدرب معتمد في الكورت من معهد ديبونو بالأردن / متخصص رعاية موهوبين وهندسة التفكير/ مستشار في حل المشكلات الأسرية والشبابية / معهد اعداد دعاة / عضو شبكة المدربين العرب /مدرب في نظرية سكامبر/مدرب في نظرية تريزمن معهد ديبونو بالأردن / دبلوم برمجة لغوية »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

392,435