انتهت المباراة، عاد الفريقان إلى بلديهما، لا الكاميرون صارت دولة عظمى، بعد الفوز بالبطولة الأفريقية، ولا مصر هبطت، في ترتيب البؤس الحضاري والفشل السياسي والتردي الاقتصادي، لأبعد مما هي عليه.
كانت مباراة كرة قدم، يؤديها اللاعبون، ويتحمس لها الجمهور، فيما أرادها النظام السياسي في مصر بطولة وإنجازاً، يضعه في دولاب إنجازاته الوهمية الكاذبة، أو بالأحرى، اعتبرها مناسبة لتعبئة الحناجر بأناشيد الوطنية الرخيصة، وفرصة لتسديد ضربة في دماغ المصريين، تسيل ما بقي من الوعي، وتجفف حالة السخط المتصاعد ضد الهزيمة الحضارية الكاملة التي ألحقتها هذه السلطة بمصر.
لقد أعلنوا التعبئة العامة في مصر، قبل بدء المباراة، وصدروا للناس أن الوطن في حالة حرب، ومن لا يصفق يجردوه من وطنيته، إذ حضرت السلطة بكل أفرعها وأذرعها، من الإعلام إلى البرلمان، تعلن النفير العام وتحشد الناس خلف القائد، المهزوم سياسياً وأخلاقياً، والباحث عن التعويض، بأقدام اللاعبين في المستطيل الأخضر.
وهكذا تحولت القضية إلى مهرجان مبتذل للوطنية الماجنة، انتقل من السلطة إلى المعارضة التي وجدت نفسها مسحوبة خلف دخان الابتزاز المتصاعد، من مراجل الوطنية المزيفة، فوجدنا سياسيين معارضين يزايدون على أهل الحكم في اختزال الموضوع الوطني كله بتسعين دقيقة من اللعب، وتعليق قيمة الوطنية بأقدام أحد عشر لاعباً، يشقون ويكدحون من أجل جنرال جائع لانتصار خادع.
ورأينا إعلاميين يخلعون أردية المهنية والوقار، ويلبسون قميص المنتخب، وينخرطون في اللعبة، كما أرادها الجنرال.
حالة من الاستقطاب الرياضي المخيف فرضها أهل الحكم في مصر، من خلال ممارسة أبشع أنواع الإرهاب الكروي، قسمت الناس إلى فريقين: الأول يتراقص بمجون ويشجع بكل الهوس، على إيقاعات الإعلام الرسمي، وفريق آخر، ألقت به الهستيريا على شواطئ تمني ألا يفوز الفريق المصري، كي لا يسجل الانتصار باسم السلطة، وبينهما فريق ثالث يتفرج على الملهاة/ المأساة بحيادية، لم تكن موجودة في مناسبات مماثلة سبقت.
قلت عقب انتهاء المباراة، مع امتداد سرادقات الحزن على خروج الفريق المصري خاسراً، إن الأكثر مدعاة للحزن، من الهزيمة في الكرة، هي الهزيمة الحضارية التي ينتعش معها محصول الوطنية الفاسدة والوطنية المزيفة، كما أنه ليس كل من حزن على ضياع الكأس وطنياً، وليس كل الذين لا يعنيهم الأمر خونة وعملاء.
والمؤكد أن الوطنية ليست في ارتداء قميص المنتخب بألوان العلم، فقد لفت الراقصة الأرمينية صافينار جسدها بالعلم المصري ورقصت، كما أن القتلة وباعة الأرض ولصوص المال العام هم أكثر من هتفوا "تحيا مصر"، معتبرين أنهم عنوان الوطنية والانتماء.
والحاصل أن إهانة قيمة الوطنية، بربطها بأحذية اللاعبين، هي لعبة تجيدها كل السلطات الدكتاتورية الفاشلة، وقد رأينا شيئاً من ذلك في الحرب الكروية المصرية- الجزائرية عام 2009، حيث جرت وقائع فضيحة سياسية، صنعها أهل الحكم في زمن حسني مبارك، وتكشفت بعد ثورة يناير/ كانون ثاني 2011، حين حاول المذيع الرياضي أحمد شوبير القفز من سفينة أبناء مبارك الغارقة، وتسلق الثورة، فراح في لحظة اعتراف نادرة يحكي على الهواء مباشرة ما جرى من حشد بعض الجماهير، بمعرفة قيادات سياسية وأمنية للاعتداء على بعثة الجزائر بالقاهرة، وعما جرى فيما بعد.
ويقول" أنه ببلوغ المباراة الفاصلة بين مصر والجزائر في السودان، تم تنظيم اجتماعات للإعداد للسفر، وفوجئت بمكالمة من أحمد عز (أمين التنظيم بالحزب الحاكم) وقتها، يستدعيني للتوجه إلى أمانة الحزب الوطني، وذهبت ووجدت معه قيادات روابط الألتراس، وقال عز «أنت بتعادي ليه جماهير الألتراس، دول حبايبنا وأصدقائنا ومتجيش ناحيتهم ولهم دور مهم معانا"، ثم يؤكد أن قيادات الألتراس كانت على طائرة جمال وعلاء مبارك فيما بعد.
باختصار، في عصور الانحطاط السياسي فقط، تلعب السلطة برأس الجماهير، على العشب الأخضر، وقد برع في تصوير هذه المأساة، مجدد القصة القصيرة، الذي لم ينل حظه المستحق من الشهرة، في فترة الستينيات، الكاتب السكندري محمد حافظ رجب في قصة بعنوان "الكرة ورأس الرجل"، ويتحدث فيها عن استبداد الهوس الكروي بأدمغة الناس، حتى تمنى كاتبا مثقفاً أن يبيع رأسه ليلعبوا بها ويركلوها في المباريات، بدلاً من الكرة.
وفي هذه المسألة رصد المثقف المصري، الراحل محمد سيد سعيد، كيف تنهض نظرية أكثر اكتمالاً لفهم التغييب العمدي للشعب عن واقعه السياسي والاجتماعي أو عن شؤونه العامة، وهي نظرية التلاعب بالعقول. فوسائل الإعلام الجماهيري تنظر إلى الجمهور باعتباره خامة قابلة للتشكيل كما يشاء مؤلفون ومخرجون وأطقم فنية تعمل على امتداد الزمن من دون توقف.
ويعتقد هؤلاء جميعاً أن عليهم التعامل مع المشاهدين كقطيع مسحور يمكن تسييره إلى الوجهة التي يريدونها، بشرط إتقان فن السحر ذاته، وهو ما يتم اليوم ليس بالوسائل البدائية لسحرة الماضي، وإنما عبر وسائط فنية بلغت شوطاً بعيداً من النضج.
وبذلك لا تكتفي هذه الوسائل بتفريغ الشحنات الزائدة من الانفعال، بل تقوم بتوجيهها نحو الخصوم المناسبين.
باختصار شديد، في الدول المنكوبة بالطغاة، يعرق اللاعبون، وتشجع الجماهير، حد الموت، وتحتسب النتائج لمصلحة السلطة الحاكمة.