كان المصريون، قبل عقود، يتداولون نكتة، أظنها سخيفةً، تقول إن مواطناً سأل زميلاً له: دخلت الجيش؟ فرد الثاني: لا، تفرّجت عليه فيديو.
الآن، لم يعد دخول المدنيين الحياة العسكرية حدثاً يستحقّ التوقف عنده، إذ داهمت العسكرية الناس في مساكنهم، وشوارعهم، ووسائل تنقلهم، على نحو يذكّرك بالمقولة الشهيرة في ليبيا القذافية" اللجان في كل مكان".
تعسكرت مصر من رأسها حتى قدميها، اقتصادها وسياستها، وحتى نخبتها الثقافية ونظامها التعليمي، إذ تعلو أصواتٌ، الآن، تطالب بإسناد امتحانات الثانوية العامة للقوات المسلحة، لزوم الضبط والربط.
في مارس/آذار 2012، كان عضو المجلس العسكري، اللواء محمود نصر، يستعرض في ندوة بعنوان "رؤية للإصلاح الاقتصادي"، مليارات المؤسسة العسكرية التي هي بنص كلماته "ليست أموال الدولة، وإنما عرق وزارة الدفاع من عائد مشروعاتها".
الجنرال أعلنها صريحة: "سنقاتل على مشروعاتنا، وهذه معركة لن نتركها. العرق الذي ظللنا 30 سنة لن نتركه لأحد آخر يدمره، ولن نسمح للغير، أياً كان، بالاقتراب من مشروعات القوات المسلحة".
لم يجرؤ أحد على الحديث عن صيحة الحرب الاقتصادية التي أطلقها العسكر في ذلك الوقت، إلا القسم الاقتصادي في صحيفة "الشروق"، وأذكر أنني علقت عليها، واضعاً مجموعة من المخاوف من هذا الوضوح في رغبة العسكريين في اعتبار أنفسهم دولةً داخل الدولة، وتساءلت "ماذا، مثلاً، لو اتجهت وزارة الداخلية إلى الدخول إلى ملعب البيزنس والاستثمارات الخاصة بها، بعيداً، هي الأخرى، عن رقابة ومحاسبة أجهزة الدولة المختصة بهذه الأمور؟".
ثم ماذا لو اصطدمت المصالح الاقتصادية والاستثمارية لوزارةٍ ما بمصالح وزارةٍ أخرى؟ من سيفصل فى النزاع، إذا كانت إحداهما تعتبر نفسها فوق الرقابة والمحاسبة؟
والآن، تأتي الإجابة: "بدأت وزارة الداخلية، منذ سبعه أشهر، المشاركة في حملة محاربة غلاء الأسعار، من خلال افتتاح منافذ بيع السلع الأساسية (أمان) بأسعار مخفضة، على غرار منافذ القوات المسلحة والمخابرات العامة، لبيع اللحوم والفراخ والبقوليات بأقل من أسعارها في السوق المحلي".
وهكذا يجد المواطن المصري نفسه محاصراً بين" وطنية" و"أمان". الأولى هي سلسلة محطات وقود و"سوبر ماركت" تتبع الجيش، وتنتشر في كل مكان على أرض مصر، وسوف تتوسع قريباً، بموجب فرمان زعيم طائفة الجند عبد الفتاح السيسي، بانتزاع أراض بعمق كيلومترين وبامتداد الطرق الطويلة على أرض مصر، وتخصيصها للقوات المسلحة.. والثانية تتبع وزارة الداخلية، بعد أن سمح لها العسكر بما يتساقط من الكعكة.
قلنا مبكراً إن السيسي هو الرئيس القادم من "حزب الجيش"، ومن ثم فولاؤه للحزب صاحب الفضل في وصوله إلى الحكم يسبق أي اعتبار آخر، ليتغير تعريف مصر من "جمهورية مصر العربية" إلى "جمهورية الهيئة الهندسية"، بالنظر إلى الحضور الطاغي للمؤسسة العسكرية في كل شيء على أرض البلاد، من أعمال "الباديكير والمانيكير" في الأندية التابعة لها، إلى تشغيل الطرق السريعة، لحسابها، بطول البلاد وعرضها، مروراً بأسواق الخضر واللحوم المستوردة.
لم تعد القوات المسلحة تزاحم القطاعين، العام والخاص، وتنازعهما في عملهما، بل صارت الكيان المخيف الذي يحتكر السوق، ويوزّع الفتات على الآخرين، أو إن شئت الدقة، باتت "الهيئة الهندسية" المقاول الكبير الذي يهيمن، ويمنح الآخرين فرصة المشاركة، بالقدر الذي يحدّده.
وكما عرفت مصر ظاهرة إعلاميي رجال الأعمال الذين يتولون ترويجهم، تعيش مصر الآن مرحلة "أبواق الهيئة الهندسية"، فمن حيث أراد أحد الكتاب العسكريين أن يقنع الناس بعظمة "الهيئة"، ذكر في غمرة حماسه أن 1737 مشروعاً استثمارياً حصلت عليها القوات المسلحة منذ الثلاثين من يونيو/حزيران 2014.
كل هذه الغابة الكثيفة من المشروعات، بخلاف المشروعات السرية المخبأة من عيون "أهل الشر" والحصيلة: احتفالات قومية بحصول الدولة على حق الانتفاع بالحلق الذهبي للحاجة زينب، وتضخم مخيف قفز بالأسعار 40% وفق أقل التقديرات تشاؤما.
أغرقوا الناس بأحاديث "الحرب على الإرهاب"، ليتضح، مع مرور الوقت، أنه "الصراع على الكباب"، ومن يفتح فمه بكلمة، فهو في نظرهم خائن وعميل وبائع للوطن، ومفرّط في ترابه.
يعترف السيسي، في حواره التلفزيوني مع نفسه، بإنفاق ترليونات الجنيهات على مشاريع، أضخمها لا تهمه الجدوى الاقتصادية منها، بقدر ما يستهدف رفع الحالة المعنوية للشعب.. ربما كان يقصد إنعاش "الشؤون المعنوية"، وشقيقتها الكبرى "الهيئة الهندسية"، وكلتاهما سليلة النسب العسكري الذي يُراق على جوانبه الدم، إذا ما فكّر أحد في الاقتراب منه.