*** يمكن بكثير من التسامح تفهم أن قطاعاً هائلاً من المصريين تعرض لعملية خداع استراتيجي في 30 يونيو،لكن، لا يمكن، على الإطلاق، ابتلاع أكذوبة أن الطبقة العليا من النخبة السياسية في مصر كانت ضحية للخداع نفسه، ذلك أن هذه الطبقة كانت واعية ومدركة تماما أنها حاشدة ومحتشدة ومحشودة لإسقاط ثورة يناير، وليس لإسقاط نظام حكم الدكتور محمد مرسي.
كل المقدمات كانت واضحة لا لبس فيها، ولا تشويش، كان الأبيض واضحاً والأسود أوضح، بحيث كان الذين زأروا كأسود جائعة، طلبا لرأس نظام الحكم المنتخب لأول مرة، راضين تماماً بدور الأرانب، وربما الفئران، في ماكينة انقلاب الثورة المضادة، طمعاً في قليل من العشب، أو اختباء من جنون الماكينة المنطلقة بأقصى عنفوانها.
*** ينشغل العالم، غربه وشرقه، بنذر الجحيم التي تقترب من الشرق الأوسط، إلا مصر، مشغولة بحروب الجيل الرابع، والقفا الرابع، لواحد من مذيعي عبد الفتاح السيسي.
مصر الغائبة، المغيبة، غارقة، حتى كتفيها، في دلالات ومآلات ضرب إعلاميي السيسي، أينما رافقوه في رحلاته، التي صارت مناسبة للإهانة "حرب الجيل الرابع"، ذلك الوهم الذي يهذي به نظام السيسي
أما الحرب، الحقيقية، التي تدور على أرضنا، وتحرق عشبنا، فلا ناقة للقاهرة فيها، ولا جمل، إذ تستغرق في "الحرب على الحريات"، والحرب على الإنسان، والحرب على كل ما تبقى من ملامح لمصر، حيث تحول حكام مصر إلى شيء أقرب لمجموعة من مهاويس تشجيع فرق كرة القدم، الأجنبية، حد التماهي التام معها، والانسحاق الكامل في الولاء لها، فتجدهم تارةً يرتدون قمصانَ ويرفعون أعلامَ هذا الفريق، أو ذاك، فإذا خسر، نقلوا انتماءهم إلى فريق آخر. العالم كله يلعب، ومصر تتفرّج، أو تشجع بأجر.
العالم كله مشتبك في حروبٍ بمعناها الواضح والصريح، بينما بؤساء النظام المصري متمسكون بتجارة الأوهام التي أغرقوا بها المجتمع، حتى صدّقوا أنفسهم، فبات التعدي اللفظي والجسدي على براميل البذاءة المتنقلة مع السيسي، في جولاته، استهدافاً للدولة المصرية، ومكانتها العالمية، من خلال إهانتها وخدش كبريائها، بالتعرض لمذيعيها.ولو دقق هؤلاء المحاربون الظرفاء قليلاً، لتوصلوا إلى أن الإهانة الحقيقية لمصر هي هذا الأداء الدبلوماسي الذي يبني علاقاته الدولية على معايير التربح والتسول، لا مبدأ ثابتاً، هنا، ولا قيمة مستقرة، ولا احترام لهوية أو دور أو انتماء، ولعرفوا أن التجسيد الكامل لمعنى الإهانة هو خطابهم الإعلامي المبتذل، والذي يتغير ويتبدل، حسب اتجاه ريح الأرز.أما الحرب، الحقيقية، التي تدور على أرضنا، وتحرق عشبنا، فلا ناقة للقاهرة فيها، ولا جمل، إذ تهتم أكثر بولادة برلمانها المشوّه، وتستغرق في "الحرب على الحريات"، والحرب على الإنسان، والحرب على كل ما تبقى من ملامح لمصر، كما عرفها العالم، وعرفت نفسها.
*** ليس مفاجئاً على الإطلاق أن يحصل توفيق عكاشة على أعلى الأصوات في انتخابات برلمان" القاهرة 30"، فما دامت هذه هي مصر في طورها العكاشي، فلماذا لا يكون عكاشة هو الأول، ولماذا لا يصل بطموحه إلى الحد الأقصى، معلناً بثقة أنه رئيس البرلمان القادم؟
ذلك ببساطة أن عكاشة هو التعبير الأمثل عن دولة عكاشية، وكما قلت مراراً هي مصر في طورها "العكاشي" الذي اندلع قبل أكثر من عامين، ثم أخذ الأمر يتطور ويستفحل، حتى تجاوز مرحلة الكوميديا التجارية الرخيصة، وبلغ حد الخلل العقلي، والجنون الرسمي، وبعد أن كانت المسألة محصورة في شخصٍ مولع بتقمص شخصيات هاربة من فصول الفانتازيا، في كتب التاريخ الصفراء، تحولت إلى سياق عام من الهزل، تذوب فيه الفروق بين ما يصدر عن الدبلوماسية وما "ينشع" من ملاهي الـ"توك شو" الليلية.
*** تجاوز الواقع الفانتازيا بمراحل، وصارت النكتة لا تضحك أحداً، والزلازل فقدت القدرة على هز الوعي، وبات من الممكن أن تقرأ عن اتفاق شراكة استراتيجية بين القوات المسلحة و"بيتزا هت"، أو تعاون بين الجيش المصري وشركات إسرائيلية متخصصة في تنظيم حفلات رأس السنة..
أليس القرار الجمهوري الذي أصدره عبد الفتاح السيسي بالسماح للقوات المسلحة بإنشاء شركات بمساهمة رأس مال أجنبي كافياً لتوفير الغطاء القانوني لدخول كل المؤسسات العالمية الخاصة، صاحبة العروض الأفضل؟ أليس رئيس أكبر دولة عربية متفرغاً للتفاوض مع الشركات العالمية، من جنرال إليكتريك، إلى سيمينز، وحريصاً على التباحث بنفسه مع رجال الأعمال من الوزن الثقيل؟
*** الاصطفاف تحت البطانية
"الله دي تقيلة أوي. دي البطانية وده مطار القاهرة. البطاطين وصلت، يا رجالة، أخيراً بعد عناء شديد. شوفوا البطانية عاملة ازاي، يا ولاد، حاجة ألاسكا خالص بطانية بجد بطانية تقيلة".
تلك كانت مفردات واحد من أكثر عروض الاستبرتيز الإعلامي انحطاطاً، قبل عامين، حين صاح مذيع، عالي الأجر، خفيض القيمة، محتفلاً بوصول بطاطين وملابس مستعملة من دولة الإمارات، مساعدات عينية لسكان جبلاية الانقلاب.
مصر التي فتحت أبوابها لشحنات البطاطين، الآتية من مهرجان التسول، من رعاة الانقلاب، تستأسد، الآن، وتستجمع شراستها لمنع وصول بطاطين إلى المسجونين والمعتقلين في زنازين النظام.
*** هذا نظام صنع في إسرائيل، وتغذّى على حليب الاعتدال، في ظل رعاية أميركية.لذا يكره غزة وسيناء، ويعاديهما، ويسدّد كل يوم واحدة من الفواتير المستحقة للكيان الصهيوني، الحليف والصديق وصاحب الفضل في صعوده وبقائه في الحكم.
كانت إسرائيل حاضرةً في التجهيز للانقلاب، وكانت كتيبة المطبعين الأنشط والأكثر همة في مشروع القضاء على نظام حكمٍ، خاطب الصهاينة، حين اعتدوا على الفلسطينيين في غزة، قائلاً "غزة لم تعد وحدها"، وأرسل رئيس حكومته لزيارتها في أثناء القصف.تلك كانت اللحظة التي اتخذوا فيها تنفيذ قرار الانقلاب، فاشتغلت ماكينة شيطنة المقاومة الفلسطينية، واعتبار "حماس" إرهابية، وابتداع مسطرة جديدة لقياس الوطنية، عبرت عنها وقتها تحت عنوان "قل خرفان والعن حماس وصفق لإسرائيل تكن وطنياً"، إننا نعيش، الآن، زمن المسخ، حيث تنشط ماكينة جبارة في الحفر عميقاً داخل ذاكرة المصريين ووجدانهم، لتثبيت معايير جديدة لوطنية جديدة (فاسدة) تقوم على جهل بالتاريخ، وتحلل من القيم واستغراق في البذاءة ليصبح الوطني النموذجي وفقاً لمعايير هذه الأيام التعيسة أن يلعن القضية الفلسطينية، ويعادي مقاومتها (حماس)، ويتمنى لو أن "إسرائيل" صبت جام إرهابها ووحشيتها على الفلسطينيين في غزة.
*** العقلية البغيضة التي أقدمت على محو اسم "رابعة العدوية" من الوجود ليس غريباً أن تواصل تجلياتها لتطاول المسجد الأقصى، أيضاً، فيعترف الروائي ذائع الصيت، يوسف زيدان، بلا أي استشعار للخجل، بأنه في سبيل تهيئة فراش الخطيئة بين نظام عبد الفتاح السيسي والكيان الصهيوني.
اتفق مع الأول على إنكار أية قداسة للمسجد الأقصى المبارك، وسيلة للتمكين لفكر التطبيع، والتطويع، والتسليم بأهمية العلاقة الحميمة مع إسرائيل. مواطن ومخبر وحرامي وإعلامي.. ومثقف على استعداد لمزاولة نشاط النخاسة بحق التاريخ والجغرافيا، تلك هي ترسانة عبد الفتاح السيسي لقتل الثوابت والعبث بالمقدسات والاستهانة بالتواريخ والحدود، ويبقى أخطر هذه الأدوات، المثقف، المتعوب على ترويجه، والمصروف بسفه على تأطيره كفيلسوف ومفكر، لا يرد له كلام..ما يقوله يوسف زيدان ليس شطحة مثقفٍ، يردد ما يروق السلطة، إنما هي خطوة مدروسة، مدفوعة الثمن مقدماً، لمحاصرة الأقصى من الجهة الأخرى، لا تنفصل أبداً عن وقاحة بنيامين نتنياهو، وهو يقول "نستطيع هدم الأقصى، لو أردنا ذلك".
*** خالد يوسف، مخرج فضيحة 30 يونيو، أسوأ أفلام العري السياسي، في تاريخ الثورات المضادة. الآن، رقبة خالد يوسف تحت سكين دولة الثلاثين من يونيو، يريدون ذبحه بالسيديهات والصور الفاضحة، قبل أيام من الجلوس على مقعد عضوية برلمانهم.
على الهواء مباشرةً، يساق المخرج الشهير إلى المقصلة، حيث تتألق ماكينة الوضاعة الإنسانية والانحطاط الأخلاقي، في قصفه باتهامات التحرّش والعلاقات النسائية. ليس الأمر رغبة مسعورة تنتاب إعلامياً بينه وبين المؤسسة الأمنية حبل سري لا ينقطع، وليس كذلك استعراضاً لقوة الوساخة السياسية، كما يجسدها نائب آخر من إعلاميي الثورة الحرام، بتفاخره بأنه ذاهب إلى البرلمان، على ظهر عربة محملة بتسريبات وفضائح لنواب آخرين.
الحكاية هي حكاية أخلاق "30 يونيو" وقيمها ومبادئها، تلك التي قامت على استدعاء وتدوير كل نفايات مصر السياسية والاجتماعية والإعلامية.. كانت "أنشودة للوساخة" فيما كانت 25 يناير "أنشودة للبساطة".خالد يوسف، مثل حمدي الفخراني، كلاهما تفانى في خدمة الغزاة، كلاهما انسلخ من قيم معبد الخامس والعشرين من يناير، وقرّر البحث عن فرصة عمل في مستنقع الثلاثين من يونيو.استقبلوا خالد يوسف بترحاب، دللوه وكافأوه في البدايات، رفعوه على الأعناق، وصعدوا به إلى السماء، على متن طائرة عسكرية، من أجل تصوير فيلم الحشود، ليعلن الإعلام العسكري بعدها نكتة الثلاثة وثلاثين مليوناً خرجوا في تظاهرات تطالب بالانقلاب.مبكراً جداً نشط خالد يوسف في تأجير "كعبة يناير" مفروشة، لجمهور الانقلاب والثورة المضادة، وقد كتبت في ذلك قبل الانقلاب بستة أشهر، عندما كان خالد يوسف يستضيف صبيان عمر سليمان وأحمد شفيق، في خيمة تيار حمدين صباحي في قلب ميدان التحرير.
**(يقول تلمود 30 يونيو إنه لا مكان للمنتمين إلى ثورة يناير في الوطن القومي للسفلة والأوغاد)**
*** سلطة عبد الفتاح السيسي حصدت من المساعدات والمنح والإعانات والهبات ما لم تحصل عليه سلطة قبلها، أو بعدها، وعلى الرغم من ذلك، تتخبّط في دروب الفشل، وتنحشر في أنفاق البلادة، وتكاد تصل بالاقتصاد إلى حدود الانهيار، من دون أن تفعل شيئاً إلى تسويق أوهام الرخاء والنهضة والانطلاق إلى الأمام. عشرات المليارات من دولارات داعمي الانقلاب الخارجيبن، ومليارات أخرى حصيلة النهب والسطو والقرصنة التي تمارسها هذه السلطة تحت لافتة "لجنة مصادرة أموال الإخوان"، ناهيك عن فرض الضرائب والرسوم على كل شيء، حتى بات المصريون مهددين بضريبة على الشهيق والزفير، كل ذلك لم يقدم شيئاً يستر عورات نظام فاشل، يقتل ليستمر في الحكم، ويحكم ليواصل القتل.
* قد ينجح الأرز في تعويم نظام فاسد مؤقتاً، لكنه لا يمنح وطناً، ولا يصنع استقراراً، وكما أنه ليس بالأرز وحده تُبنى الأوطان، فإنه لا توجد ثورة في العالم تنتظر حلاً أو دعماً من أهل المنح والعطايا والمساعدات، وبكلمة واحدة: هناك فرق هائل بين تسوية الأرز وحرق الثورات.
***ما بين عكاز إسراء الطويل، الخشبي، وعصا اغتصاب مازن، الخشبية، تنحشر مصر السيسية، إذ تمضي عمليات تجريفها إنسانياً، وحرقها أخلاقياً، بحيث لا يبقى فيها إلا ناعقون وناعقات من عيّنة مظهر شاهين، الشيخ المعتزل، وعزمي مجاهد، اللاعب المعتزل، وكلاهما احترف الإعلام المكارثي، وداليا زيادة، الحقوقية التي اعتزلت الإنسانية، واحترفت الفاشية.
مظهر شاهين الذي سخر من عكاز إسراء الطويل، واعتبره "سيناريو خايب وبايخ وممل للاستعطاف"، ماذا يقول الآن عن قرار محكمة الجنايات بالإفراج عنها لظروف صحية، وتبرئة عكازها من التمثيل والادعاء؟
وماذا يقول عزمي مجاهد، بعد أن توعّد إسراء على الهواء مباشرة "هنحاسبك، ونخليكي تعيّطي دم كمان، مش دموع بس، لحد ما تتعلّمي يعني إيه وطن".
وما رأي داليا زيادة، مدير المركز المصري للدراسات الديمقراطية، وهي التي قالت "مش كل حد يعوج رجله أو يمسك عصاية أو يعيط يبقى بريء، وافتكروا فيلم محمد سلطان، وانتم بتتفرجوا على فيلم إسراء الطويل".
سيخلّد التاريخ عكاز إسراء الطويل، وسيضمه إلى متحف الإنسانية، بمفهومها النقي النظيف، وسيضع خشبة انتهاك الطفل مازن في عيون الأوغاد السفاحين، حين تغتسل مصر يوماً، عمّا قريب، من كل هذا القبح، وتتطهّر من كل هذا العار الحضاري.
*** عملية الإقصاء التي تمارسها هذه السلطات، قد تحوّلت إلى إخصاء كامل للوعي، وإطفاء تام للعقل الجمعي، كي يقبل، راضياً وسعيداً، بكل ما تسكبه في دماغه من معلومات ملوثة، ومعتقدات وأفكار أكثر تلوثاً، عن الدين والوطن والفن
وطن صار خرابة، وبلد تحوّل من مقبرة للغزاة إلى محرقة للمعارضين، باختلاف درجات معارضتهم، غير أن هذا ليس غريباً في ظل سلطةٍ كان أول ما نطقت به أنها طلبت تفويضاً بالقتل والإبادة، والإقصاء.
*** يستخرج السيسي من صندوقه الأسود ما يبث الرعب، ولا يمانع في إشعالها حربًا أهلية، وهذا الخطاب، بحذافيره، سبق أن ردده في سبتمبر 2014، حين هدّد المصريين: إما أن تقبلوا بي، أو فلتكن مثل سورية والعراق.
ذلك منهجه في الحكم الذي لا يتغير، كل شيء مؤجل في مصر، كي لا تتحول إلى سوريا أو العراق. لا حريات سياسية واجتماعية، لا تحسن في الأحوال المعيشية، لا عدالة أمام القضاء، لا كلام عن استحقاقات ووعود، جاء وقت الوفاء بها. منطق السلطة الثابت: إنس كرامتك وحريتك، ويكفي أنك لا تزال على قيد الحياة.. أغلق فمك، ولا تنطق حتى لا تصبح مصر مثل سورية والعراق "العيراء"، كما يتندر جمهور النكتة المصرية على طريقته الطرية في نطق الكلمة.
يرتدي السيسي، هنا، مجددا وجه إيون أليسكو، زعيم الثورة المضادة في رومانيا، وريث الديكتاتور المخلوع تشاوشيسكو، يفعل مثله، ويتكلم ويخطب في الجماهير، ويبتزها ويدغدغ مشاعرها ويستصرخ غريزة الخوف لديها، من خطورة أعداء الخارج، وأعداء الداخل، الذين هم المتمسكون بحلم ثورة الخامس والعشرين من يناير، ويصفهم، هو وإعلامه، بالعملاء المخرّبين، ويصفيهم بالفضائح والقضايا الماسة بالشرف، المصنعة في مطابخ النظام.
يعلن عبد الفتاح السيسي بهذا الخطاب، المنطوق والمسكوت عنه، فيه، على السواء أن العقلية التي قتلت آلافًا كي تمهد الطريق إلى الحكم، مستعدة لقتل آلاف أخرى، كي تدافع عن سلطتها المنقوعة في الدم، ويبعث رسائل التهديد إلى المعارضة، وخطابات الاستدعاء لجمهور جريمة التفويض، في آن معا.
*** تحويل مجرى النيل إجراء خطير، يعني أن الحكومة الإثيوبية لم تعد تحسب حساباً لردود أفعال من جانب دولة المصب، والأرجح أنها باتت على ثقة بأن النظام المصري مهتم أكثر بمحاولاته الصبيانية لاغتيال شباب الثورة وتصفيتهم وقتل الفلسطيني المعاق على الحدود، كي تنام إسرائيل قريرة العين، ومواصلة الكفاح ضد ميكروفون قناة الجزيرة، الذي بات يطارد وزير الخارجية المصري، أينما حل.
النظام في مصر مستغرق تماماً في حربه على الإنسان، وعلى الحريات، وكفاحه ضد الديمقراطية، فيبدو الجهد الذي يبذله في مراقبة إسراء الطويل في محبسها المنزلي، أو في تحدّي إرادة الطلاب والعبث بنتائج انتخاباتهم، وإصدار فرمان عسكري يحرمهم من التنقل والسفر، إلا طلباً للعلاج والحج والعمرة وزيارة الوالدين، والحديث عن عبقرية الحكومة وأفضالها في المؤتمرات الدولية.. يبدو هذا الجهد أكبر بكثير من المبذول في متابعة قضية سد النهضة، وما يتولّد عنه من أخطار العطش والجفاف
*** نخبة عبد الفتاح السيسي مشتبكة وغارقة حتى الأذقان في عدد ساعات نوم جنرال الضرورة. هيكل يقول للميس إنه ينام ساعتين فقط، ومصطفى بكري يقول لنفسه إنه ينام أربع ساعات في اليوم، وباقي اليوم شغل من أجل مصر.
الرئيس لا ينام، تلك هي أم القضايا، التي ينبغي أن تكون وحدها موضع الاهتمام والقلق، لا سد النهضة، ولا الخراب الاجتماعي والسياسي، ولا الفساد الذي بلغ حجمه 600 مليار دولار، وفق الجهاز المركزي للمحاسبات، حتى تشعر من فرط انزعاجهم أنهم ربما يدعون إلى مليونية ترفع شعار "الشعب يريد تنويم الرئيس"
يمكنكم الاستعانة بالفكرة لتدشين حملة قومية كبرى ترفع مطلب "النوم للجنرال"، لأن مصر تحتاج فعلاً أن ينام، ففي نومه نوم للفشل ونوم لقلّة الحيلة ونوم للأوهام. افعلوا شيئاً كي ينام الليل كلّه وبعض النهار، أيها السادة، إذا كانت يقظته تُحدث كل هذا الخراب.نومه فعلا مطلب وطني، فضلا عن أنه عبادة بالطبع!
*** لماذا كان السد خطراً، والحرب ضرورة، عندما كان رئيس مدني منتخب في الحكم، ثم صارت الحرب خطراً، وعملاً لا يجوز مع استيلاء جنرال الحرب على الحكم؟
الحاصل أن نظام السيسي لم ولن يستخدم سلاحاً واحداً من الأسلحة التي كفلها القانون الدولي للدفاع عن حق مصر في النيل، بما فيها القوة العسكرية، واللجوء للتحكيم الدولي، ذلك أن الجهد كله مخصص لتغذية وتحديث ترسانة العسس وزوار الفجر، الذين يداهمون شباب الثورة في بيوتهم، وباتت الجبهة الوحيدة للحرب هي ميادين التظاهر
*** كل شيء جرى ويجري بعلم نظام السيسي، وبموافقته، أو بإذعانه الكامل للأطراف الفاعلة في مشروع سد النهضة الإثيوبي، وهي إسرائيل ودول أوروبية والولايات المتحدة الأميركية، ولن تكون نائماً في فراش نظرية المؤامرة، لو ذهبت إلى أن تمرير موضوع السد كان واحداً من الأثمان التي دفعها عبد الفتاح السيسي لتعويم انقلابه، إقليمياً ودولياً.
الرجل الذي يحارب سيناء، ويحرقها على رؤوس سكانها، إرضاء لإسرائيل، لا يمانع أيضاً في إحراق النيل، وإحراق مصر، عطشاً وجدباً، كي يستتب له الحكم
النظام المتفرغ لقضيتين أساسيتين، هما الحرب على الحريات والديمقراطية، والحرب على كل ما يهدد أمن إسرائيل، لا يعرف معنى الحقوق التاريخية، والجغرافية، ومن ثم قضية النيل بالنسبة له ليست أكثر من موضوع فرعي، أو وسيلة للاستمرار في الحكم.
*** اختراعات الجيش العملاقة لا تندلع إلا في مواعيد الغضب الشعبي الموسمية، إذ ولد وهم الكفتة في بداية أغسطس/آب 2014، شهر الذكرى الأولى لمذابح ميداني رابعة العدوية والنهضة وتوابعهما، بحيث بدا المقصود تخدير الوعي الجمعي، عن طريق حقنه بحلم، تم تصنيعه على عجل، فخرج على ذلك النحو من الإسفاف والابتذال.
والآن، مصر السيسية عائدة للتو من هزيمة ساحقة، في مباراة سد النهضة مع إثيوبيا، حيث لم يكن ثمة أداء، ولا التمثيل المشرف، كما يفعل محترفو الخسائر، عادت لتجد نفسها على موعد آخر للغضب العارم، الذكرى الخامسة للثورة التي أسال دمها عبد الفتاح السيسي ونظامه، فكان لا بد من الحقن بجرعة حلم أخرى، بامتداد مساحة الصحراء الغربية، علها تساعد، بالإضافة إلى إجراءات الترويع والإرهاب، في لجم تيار الغضب المتصاعد، والمصمم على الخروج إلى الشوارع والميادين في الخامس والعشرين من يناير/كانون الثاني الذي يقف على الباب.أهان عبد الفتاح السيسي شرف العسكرية المصرية، وامتهن صورة الجيش كثيراً، غير أن الخدش الأكبر كان توريطه في كبرى الأكاذيب الاجتماعية والطبية، على مدار تاريخ مصر، واستخدامه في تسويق "وهم جهاز الكفتة"، تمهيدا لإعلان ترشحه لرئاسة البلاد، محمولاً فوق حلم قومي عظيم.
*** جاءت الفتاة الأيزيدية، في إعارة إلى القاهرة، لتجميل وجه نظام قبيح، استقبلها عبد الفتاح السيسي في القصر الرئاسي، جلس أمامها ملطخاً بكل مساحيق الدعاء والتمثيل الركيك. ها هو رجل الإنسانية يكفكف دمع ضحية الدواعش، ويبلسم جراح اغتصابها.
خارج القصر الرئاسي، كانت عشرات من العائلات المصرية لا تستطيع الحصول على تصريح زيارة بناتها، المحبوسات والمعتقلات، بعضهن تعرضن لانتهاكاتٍ لا تقل بشاعةً عما حدث للفتاة الأيزيدية التي دار بها نظام السيسي على جميع الفضائيات والصحف، كي تردد نشيداً وحيداً في روعة وعظمة الجنرال الذي استقبلها في قصره، بإنسانيته الفياضة. في واحدة من أسوأ صور دعايات التجارة بالألم، العابرة للحدود.
"اشكروا ربكم، يا شباب المسلمين، على نعمة الدولة، وعليكم مساعدة باقي الدول التي بحاجة لكم، وأجدد شكري للرئيس عبد الفتاح السيسي".
هكذا تحدثت نادية مراد بصفتها الهاربة من جحيم "داعش" إلى جنة السيسي، في حضرة مذيع من "الدولتية" المحترفين، عمرو أديب، والذي يعبر عن فلسفة سياسية جديدة، تقوم على مبدأ "اصنع دولة بأي شكل، حتى وإن كانت من مسحوق عظام المواطنين".
ربما لا تعرف الأيزيدية المغتصبة أن مصرياتٍ في عمرها تعرّضن للاغتصاب على أيدي زبانية "رسول الإنسانية والمحبة" الذي استقبلها في القصر. لا توجد أرقام موثقة، لكن توجد حالات مؤكدة، جلهن رفضن الحديث لاعتبارات اجتماعية وعائلية، غير أن هناك حالة صارخة، تحدثت وفضحت جريمة "دواعش نظام السيسي"، والتي لا تقل بشاعةً عما روته الأيزيدية.
ما بين "نادية الأيزيدية" و"ندى المصرية"، لا توجد فروق كبيرة في التفاصيل. الأولى اغتصبها "أعضاء تنظيم"، والثانية اغتصبها "رجال نظام"، لتنمحي وسط فظاعة السيناريو الفروق بين تنظيم على رأسه أبو بكر البغدادي، ونظام على قمته عبد الفتاح السيسي.
نادية استقبلها عبد الفتاح السيسي، وشبع تصويراً معها، باعتباره رجل البر والرحمة، قبل نحو أسبوع، أما ندى، فقد قرر قضاؤه العادل النزيه حبسها عاماً بتهمة التظاهر.
ندى أشرف، طالبة في جامعة الأزهر، اغتصبها ضابط شرطة داخل مدرعة، تقف على أبواب الجامعة، بمساعدة جنود مساكين يصدعون للأوامر.
*** لست بصدد الدفاع عن حزب النور، المنتسب للسلفية، فدور هذا الحزب في التآمر على الثورة المصرية، وإسهاماته، باسم الدين، في خدمة انقلاب السفاحين والقتلة، لا تقل بأي حال عن إسهامات رأس الكنيسة، فضلًا عن أن التناغم والانسجام والتوافق التام بين رأس الكنيسة ورأس الجماعة السلفية، تواضروس وياسر برهامي، بلغ حدًا مذهلًا، صار كثيرون لا يفرقون معه، بين الملامح الشكلية لكلا الرجلين.
ما يستوقفني، هنا، أنه بعد انتهاء مدة صلاحية “النور السلفي” للاستعمال في مؤسسة الانقلاب، وانفراد “نصف الانقلاب الآخر” بعناية زعيم الانقلاب، يتحدث تواضروس عن نفسه وعن كنيسته وعن مسيحيته، باعتبارهم “النور” في مواجهة “الظلام” الذي هو حزب السلفيين، بمرجعيته وإسلاميته.لا يكتفي بذلك، بل يذهب إلى ما هو أبعد وأخطر، حين يقطع بأنه لا يوجد في المسيحية ما يعرف بتجديد الخطاب الديني.لكنه وغيره يشعلون المدى كلامًا وحديثًا عن حتمية تغيير الخطاب الديني الإسلامي وتجديده
*** يهم مؤسسة الانقلاب دائماً أن تضع الجميع على حافة الهاوية، وتؤجج كل عناصر الاحتراب المجتمعي، وقد رصدت ملامح هذه اللعبة غير الأخلاقية في مقال نشرته بعد ثلاثة أسابيع من وقوع الانقلاب، تحت عنوان "الهولوكوست المصري"، حذرت فيه من اللعبة التي تقوم على صناعة عدو تلصق به كل الشرور والآثام، ثم عزله، أو سلخه عن المجتمع، وتعلق عليه الأخطاء والكوارث السابقة والحالية، لتتم، فيما بعد، استباحة دماء المصريين، واسترخاص حياتهم، وامتهان حقوقهم موتى بعد قتلهم، تعبيراً عن ردة حضارية عنيفة، وانسلاخ من قيم تجسّد الحد الأدنى من الفطرة الإنسانية السوية.إذن، رسمت مؤسسة الانقلاب حدود الهولوكوست، ثم عملت على استدعاء الجزء المعتم من الوجود الإنساني، وإطلاق أسوأ ما في الشخصية المصرية من نوازع وحشية، بحيث صار المجتمع يمور برغبات الانتقام والتلذّذ بالدماء، واستعذاب التضليل والتزييف وقلب الحقائق، لينعم المجرم بإجرامه، ويُساق الضحايا إلى الجحيم.
***قائد سلطة الأوغاد يواصل أداء أدواره العاطفية الركيكة، بإصرار منقطع النظير، بين الكاتدرائية ودار الأوبرا. وقف عبد الفتاح السيسي يتحدث إلى الشباب، أمس، مرتدياً أقنعة الرقة والليونة (بنص كلماته) والرخاوة التي لا تليق برجل عسكري، يخاطب شعباً، واضعاً على وجهه كميات هائلة من مساحيق الرحمة والإنسانية والتحضر، كنصير للشباب، يردّد حزمة جديدة من الأكاذيب والأوهام.
قبل ساعات فقط من كلام السيسي للشباب، كانت قواته قد قامت بتصفية ثلاثة طلاب داخل بيوتهم في محافظة الشرقية.
كان السيسي يتحدث عن الشباب، بعد ساعات من جريمةٍ ارتكبها نظامه في الغردقة، في إطار الحملة القومية "لصناعة الإرهاب المفبرك"، لترويع المصريين وتفزيعهم من التظاهر ضد النظام، حين اختطفت الشرطة محمود شيكا، وهو من شباب "وايت نايتس" من منزل أسرته في الجيزة، قبل حادث فندق الغردقة بيوم، ليظهر عقب الحادث جثة مضرّجة في دمائها، باعتباره إرهابياً.
*** عكاشة زعيماً للمعارضة فى دولة الزند
إذلال المعارضة بلغ حدّ تعميد توفيق عكاشة ممثلاً لها، داخل البرلمان وخارجه، أو قل إنها عملية تأميم المعارضة، وضمها إلى خارطة دولة عبد الفتاح السيسي، بحيث لا يبقى للمعارضة التقليدية إلا منافي المهجر، أو أحراش شبكات التواصل الاجتماعي، بعد تدجين أصوات المعارضة القديمة واستئناسها، لتصيح وتموء في طرقات بيت الحكم.
يضع توفيق عكاشة لاصقاً على فمه، في أداء تمثيلي مبهر، معبراً عن غضبه من حكومته التي جعلته نائباً، ومتحدثاً عن تردّي أوضاع الحاضر، وسواد المستقبل. وفي المقابل، يتحدث جورج إسحاق، سليل حركة كفاية والجمعية الوطنية للتغيير، مرتجفاً، ويتلعثم حافظ أبو سعدة، سليل المجتمع المدني الحقوقي، مذعوراً، وهما يعلقان على اختيار مرتضى منصور رئيساً للجنة حقوق الإنسان في البرلمان.
إنهم لم يعودوا يملكون البكاء، كالنساء، على ثورة لم يحافظوا عليها، كالرجال.
*
مصر الآن هي "بلاد الزند"، فمشروع الانقلاب والانتقام من ثورة يناير، صُنع في "جبل علي"، ومطبخه كان نادي القضاة، و"الشيف" هو أحمد الزند، أمير الانتقام الذي هرول إليه المعارضون المحترفون الذين سلموا أنفسهم للدولة العميقة، تستعملهم كيفما شاءت في إسقاط حكم محمد مرسي، والإجهاز على تلك "الثورة اللعينة" التي سمحت للإخوان المسلمين بالوصول إلى رئاسة الدولة.نعم، وبلا مبالغة أو تجنٍ، نخب ثورة يناير، المحترفة، هي التي صنعت، منذ منتصف عام 2012، ومع وصول محمد مرسي إلى الحكم، منتخباً، صنعت دراما سياسية مدهشة، شملت كل ألوان ودرجات الكوميديا والتراجيديا، وضعت، مثلاً، ذلك الكائن العكاشي عنواناً لحرية التعبير، وجعلت ممثلة السينما التجارية نموذجاً لحرية الفن والإبداع، وصدّرت الزند رمزاً لاستقلال القضاء، وحوّلت النائب العام السابق إلى شهيد للعدالة. وقبل ذلك، قدمت جنرال الثورة المضادة باعتباره قارب العبور إلى الدولة المدنية.