"وائل قنديل" يكتب "الزعيم السيسي في الحضانة" :
: يسلك عديد من النظم السياسية العربية والدولية مع عبد الفتاح السيسي، باعتباره الزعيم الذي ولد مبتسراً. وبالتالي، لا مناص من وضعه في "حضانة"، أملا في اكتماله وامتلاكه القدرة على الحركة والقابلية للنمو. وبعد أكثر من 18 شهراً مضت على "زرع" هذه الزعامة الاصطناعية في مصر، يكتشف الرعاة والداعمون أن كل ما فعلوه لم يحقق المطلوب، فقد ضخت هذه النظم الكثير، لتوفير البيئة الملائمة لإنجاح عملية إنضاج الزعامة المبتسرة في حضانةٍ، لم يبخل عليها أحد بالمال والسلاح وأطقم الحراسة". وأتبعت "والمدهش أن زعيم الجماعة الانقلابية يسلك، هو الآخر، وفقا لسيكولوجية المبتسرين، إذ يكاد يكون مستقراً في يقينه أنه طفل العالم المستحق للرعاية الشاملة، كونه يردد ما يملى عليه من "كتاب الأناشيد" الخاصة بالحرب على الإرهاب. ومن ثم يريد إسقاط مديونيات، إسكات منابر إعلامية، إبعاد معارضيه وتشريدهم في كل واد، ابتزاز معونات ومساعدات، وكأنها حق أصيل، إلى آخر معطيات هذه الحالة التي لا تجدها إلا في مجموعات التسول بعاهات مصطنعة".
***ما قولكم، الآن، أيها السادة، في شرعية أداء جنرال يقود حافلة، وقد أشعل النار فيها، ودمّر مكابحها، وانقلب بها في الطريق غير مرة، داهساً كل ما يدب على الأرض، وهوى بها في قاع المستنقع، كل ذلك وهو لا يحمل رخصة قانونية.
أفتونا في شرعية أداء الجنرال الذي يمضي على خطى الطغاة الذين يحقنون أدمغة مواطنيهم المقهورين المقموعين بهلاوس من نوعية أن العالم كله يتآمر على بلادهم، وأن جميع المعارضين خونة ومأجورون، يريدون تقويض دعائم الدولة وهدمها؟ بل اسألهم: هل ما ترونه أمامكم دولة؟ هل تكون مصر مصراً، حين يكون على رأس السلطة فيها من تستنفر "إسرائيل" كل قواتها من أجل منع سقوطه، وابتعاده عن الحكم؟
***كانوا يصرخون "تحيا مصر"، كلما وجدوا أنفسهم بصدد استحقاق لازم، أو سؤال موضوعي، يرددونها ثلاثاً، بشكل هيستيري، قافزين في أحراش الوطنية الفاسدة، للاختباء، والابتزاز، ومواصلة الاستثمار في الأوهام والاتجار في الأكاذيب. الآن، لم تعد "تحيا مصر" تسد رمق الجائعين للأجوبة، ولا تقي من انهمار سيول الأسئلة، بعد أكثر من عامين، تمتع فيها نظام عبد الفتاح السيسي بوضعية طفل العالم المدلل، والمريض الأولى بالرعاية، من أولئك الباحثين عن جنرال يمارس الاستبداد والقمع بيد، وبالأخرى ينفذ ما يأمره به الرعاة، على النحو الذي يحقق مصالحهم، وفي العادة، تكون هذه على حساب المبادئ والقيم المحترمة. وفي الداخل، يتمتع بمكانة الصنم المقدس، التميمة، أو "المبروك" في تراث الخرافة الشعبية، الذي لا يجيد الكلام، ولا الفعل، ولا التفكير، لكنه مثل "الخرزة الزرقاء"، يكفي وجودها على باب الدار لجلب الرزق، كما يعتقد ضحايا الدجل والشعوذة
***في مصر الآن باتت هناك جريمة خيانة عظمى، اسمها "العيب في الذات السيسية"، ينظر لها ويسمم بها وعي الجماهير فريق من الصحافيين والإعلاميين والمثقفين والسياسيين، يحتويهم مشروع عكاشي واحد، ويعتبرون غياب السيسي عن المشهد إجهازاً على امتيازاتهم وإنهاء لأدوارهم، وإظهاراً لدمامتهم المهنية وقبحهم الإنساني.هؤلاء يبيعون للناس وهْم أن انتقاد الجنرال خيانة للوطن، وأن المطالبة بتخليص البلاد من فشله ورعونته ودمويته عمالة للغرب الإمبريالي، وأن تناول الكوارث التي تقع على يديه شماتة في مصر والمصريين.
ليس الوطن هو الجالس على كرسي حكمه، والقابض على سلطته. الوطن هو الإنسان والتاريخ والجغرافيا والقيم، فما بالك لو كان الممسك بالسلطة فيه قرصاناً وقاتلاً وسافكاً للدماء ومبدداً للتاريخ والجغرافيا ومهدراً للقيم.. وفوق ذلك كله فاشل، وصديق للأعداء ومعاد للأشقاء، فعن أي شماتة يتحدث الباعة السرّيحة في أزقة الوطنية المزيفة وحواريها؟
***كانت التوقعات تشير إلى احتمالات ارتفاع مؤشر القمع في مصر، عقب الزيارة الخائبة التي مني بها الجنرال المنفوخ بالأوهام، إلى بريطانيا، غير أن أحداً لم يكن يتصور أن يصل بهم الجنون إلى هذا المستوى من العصف بالحريات الشخصية وحقوق الإنسان في التملك والتنقل والتعبير.
في ضربة واحدة، تم اختطاف مؤسس "المبادرة المصرية للحقوق الشخصية"، الحقوقي والصحافي حسام بهجت، والمذيعة في التلفزيون المصري، عزة الحناوي، ومؤسس ورئيس مجلس إدارة صحيفة المصري اليوم، إحدى الأذرع الإعلامية المهمة للانقلاب العسكري، ورجل الأعمال المعروف بـ"حلواني النظام"، صلاح دياب، ثم مصادرة مقالات، وقرارات بالمنع والإيقاف عن الكتابة، علناً، وليس بناء على تعليمات سرية صامتة، كما كان يجري في أزمنة أخرى للقمع.يبدو النظام في هذه الحالة من هستيريا القمع وهلوسة الغضب الجريح وكأنه تلميذ فاشل بليد، رسب في مادة، فقرّر أن ينتقم من هذه المادة بإشعال النار في الكتاب الخاص بها، وإغاظة المعلم وسبه وإهانته. المادة اسمها "حقوق الإنسان"، الموضوع الذي يسأله فيه الناس أينما رحل، ولا يستطيع الإجابة، على الرغم من أنه قدّم نفسه للغرب، باعتباره فعل ما فعل في الرئيس المدني المنتخب ديمقراطياً، بهدف منع البلاد من الاندفاع إلى حالة من تغييب الحريات، خصوصاً حرية الفكر والتعبير، وحقوق الإنسان.
اكتشف التلميذ الخائب أن ما قدمه من إجابات تافهة على أسئلة الحالة الحقوقية والديمقراطية لم تقنع الغرب، ولم تجعلهم يبتلعون كوارثه، نظير استعماله في مشروع ما يسمى "الحرب على الإرهاب". وهنا، قرّر تطهير البلاد من الحقوق والحريات،
***كيداً في الأوروبيين والأميركيين، وفي ظل حالة الهذيان عن المؤامرة والشماتة، إلى آخر هذه القائمة من المعلبات العكاشية، قرر عبد الفتاح السيسي أن يأخذ الشعب المصري رهينة، ويضع السكين على رقبة الجميع، مهدداً بنحرهم، إن لم يعيدوا له وضعية "طفل العالم المدلل"، حتى وإن كان فاشلاً وجاهلاً وغير قابل للتعلم والاستيعاب والتطور.
ووسط هذا الجنون، يفتح السيسي كتاب "كوريا الشمالية"، ويسلك مثل حاكمها، مخوفاً شعبه من الخارج، الوغد، ومهدداً مواطنيه بالويل، إن عارضوه أو ناقشوه، ثم يقتل "الحالة الحقوقية"، ويمزق كتابها وقوانينها، كفعل انتحاري يقدم عليه أي بليد يائس من النجاح.
*** إن الجنرال هو من خطط عملية حشد الجماهير، مستعملاً تلك النخب الانتهازية الأجيرة، لكي يدهن انقلابه بطلاء مدني أبيض، ليكون يونيو 2013 تاريخ وفاة ثورة يناير ومواراتها الثرى. لذا، يصبح أي حديث عن اصطفاف ثوري جديد، لا يتضمن الاعتراف بخطأ السقوط في "كمين الثورة المضادة" لغواً لا مردود له. ومرّة أخرى، فإن الفصل بين الثلاثين من يونيو(مقدمة الانقلاب)، والثالث من يوليو (مؤخرته)، لا يختلف كثيراً عن الفصل بين ثورة يناير وشرعية الرئيس محمد مرسي. بحثت "يناير" عن ديمقراطية، وعثرت عليها وطبقتها، فأتت برئيس منتخب، "ويونيو" جاء بجنرال دموي عبر إلى الحكم فوق جماجم كثيرة. وعلى هذا، لا يستقيم أن تعلن الخروج من مؤخرة الانقلاب، وتتمسك بمقدمته، ولا يتصور ، منطقا، أن شخصاً لا يزال يضع قدماً في يونيو، يمكن أن يكون مؤهلاً لأن يتم دمجه في مشروع اصطفاف ثوري لاستعادة يناير، إذ كيف تنادي بديمقراطيةٍ أنت نفسك قبلت أن يستعملوك ويمتطوك، من أجل قتلها ووأد مولودها؟
*** الجنرال الذي أشرف على أكبر عملية نصب علمي، مستخدماً أكذوبة اكتشاف الجهاز العسكري للقضاء على الإيدز، وتحويل الفيروسات إلى ثروة غذائية، هو نفسه الذي لجأ إلى الأسطورة والخرافة وعالم الهلاوس والأحلام الاصطناعية، لكي يأتي بما يحقّق له هيمنة "روحية" على جمهور، قتلوا بداخله القدرة على التمييز بين العلم والجهل، وبين الوهم والحقيقة. كيف يمكن أن يصدق أحد أن نظاماً بهذه القيمة الفكرية والعقلية المتناهية في الصغر، مهتم أو منشغل بالبحث العلمي والعلماء؟ لا يتصوّر أن نظاماً يستثمر في محتوى الجهل والخرافة، يمكن أن يصبح فجأة معنياً بالمحتوى العلمي والتعليم الدولي.. هذا من المستحيلات، أو أن نجوم السماء أقرب من تحققه من أن يكون نظام داعشي أكثر من داعش نفسه، مفيداً، أو مقبولا أن يشارك في حرب على الإرهاب، مهما فعل من أشياء مضحكة، مثل إعلانه عن مشروع قومي ضخم لدعم البحث العلمي، بينما يواصل قتل العلماء وتصفيتهم.
*** قائدالانقلاب لا يترك مناسبةً إلا ويقايض فيها المصريين على حياتهم، موضحا أنه في البداية، كان يسرق منهم الحرية والديمقراطية، مقابل أن يأكلوا ويشربوا،ثم تطور الأمر، حتى وصلنا إلى مرحلة بات معها يساومهم على التخلي عن مطلب الغذاء مقابل أن يبقوا على قيد الحياة، مطلقًا شعار "نجوع كي لا نهدم الدولة" حين جدد مطلبه من المصريين بالامتناع عن الطعام، كي يبني لهم مصر، في الوقت الذي نجد أن عملية البناء الوحيدة المنتظمة هي بناء السجون الجديدة، وتوسعة الزنازين القديمة، فيما كل شيء ينهار.من الممكن اعتبار طلب السيسي من المصريين أن يجوعوا، تعبيرًا عن نزعة وطنية حقيقية، لو أنه امتلك الشجاعة، وصارحهم بمصير 47 مليارًا من الدولارات، حصل عليها من ممولي انقلابه، متسائلا: "لماذا لم يظهر أثرها على حياة شعبه الموعود "بوطن قد الدنيا"؟ وماذا فعل بالمساعدات والمنح سوى أنه صنع وطناً محترقاً، ودمّر وشائج مجتمع، وأدخل الجميع في أتون حروب إبادة وإقصاء، وزرع مساحات هائلة من الكراهية، وجرّ جيش مصر إلى حروب شريرة على مصريين وعرب؟ ماذا فعل منذ استولى على الحكم سوى تربية الإرهاب وتسمينه،وتحويل البلاد إلى ساحة للانفجارات، بفعل سياسات خرقاء، تهين العسكرية المصرية، بالقدر نفسه الذي تحتقر به حق الشعب في الحياة. كان من الممكن أن يقبل المصريون بالجوع والفقر"
*** السيسي يلجأ إلى سلاحه الأثير، وربما الوحيد، وهو حقن الجماهير
بمخدر الوهم، متصورًا أنه مع تكثيف الجرعات، تحدث حالة من الإدمان، غير أنه
بمضي الوقت، اكتشف أن مفعول الجرعات الاعتيادية لا يصمد أمام الانهيارات
المدوية، فقرر استدعاء مخدر "الوهم النووي"، معلنا بدء معركة امتلاك
المحطات النووية، بعد سويعات من دعوة "الجوع من أجل البناء"، منتحلا شخصية
قائد باكستان، ذو الفقار علي بوتو، صاحب الصيحة الشهيرة "نجوع أو نأكل
العشب حتى نمتلك السلاح النووي".. لكن، شتان بين قائد أمة حقيقي وجنرالكم
السعيد الذي يطالبكم بالجوع، حتى يبني لكم سجونًا ومعتقلات ويعادي أشقاءكم،
ويتحالف مع عدوكم الصهيوني.
*** السؤال لكل من راهن على لحظة 30 يونيو/ حزيران المجنونة: هل ما تراها ممتدة من النيل عند السودان، حتى ساحل المتوسط، "دولة" وتسمى مصر؟ هل ما تسمعه وتضحك، ثم تبكي، وتقرأ أخبار تحركاته وقراراته، هو نظام سياسي، بالمعنى الحقيقي للكلمة؟ أسألك الآن، وأنت ترى القاهرة عاجزة عن التدخل في شؤونها الداخلية والسيادية، بينما العالم كله يتدخل ويقرّر، في موضوع فضيحة إسقاط الطائرة الروسية في شرم الشيخ.. وطن هذا أم خرابة، أم مقبرة، أم منتجع مهجور؟ تجاوز نظام عبد الفتاح السيسي مرحلة "القدرة على التزييف" إلى حالة "الهذيان اللا إرادي" فيما يخص مواقف عواصم العالم منه، على نحو يجعل من بقاء هذا النظام طليقاً، خطراً حقيقياً على المجتمع. استأنف نظام السيسي تصفية المعارضين أحياء، مع تصاعد شعوره بالانكشاف أمام المجتمع الدولي، وانفضاض المانحين وإدراك الجميع أنهم راهنوا على الشخص الخطأ.
***بيع الوهم النووي للمصريين مرتين، الأولى في العام 1961، فترة حكم الرئيس جمال عبد الناصر، حين صدرت أهرام هيكل، وعلى صفحتها الأولى تلك العناوين التي تدغدغ أحلام المواطن الغلبان: "المفاعل الذري العربي بدأ في العمل".
ثم عنوان شارح كبير يقول "نجحت تجربة المفاعل الذري العربي في أنشاص وأثبت كفاءته. المفاعل بدأ في إنتاج النظائر المشعة بصفة مستمرة ودون توقف". كان الروس حاضرين في المرة الأولى مع عبد الناصر، كما هم حاضرون، هذه المرة، مع السيسي، مع الوضع في الاعتبار الفروق الشخصية بين زعيم وقائد دولة حقيقي، اسمه جمال عبد الناصر، وعبوة صغيرة، مقلدة ورديئة الصنع منه. وهذا هو الفرق نفسه بين "الاتحاد السوفييتي" الذي كان وروسيا الاتحادية، الحالية. وأظن أنه يمكن اعتماد الفروق نفسها بين مفاعل "أنشاص" ومحطة "الضبعة"، فالأول كان جداً في فترة خصبة، حبلى بالأحلام والطموحات والتحديات والمعارك الحقيقية مع الأعداء، والثانية هزل وتمثيل ركيك في فترة ملبدة بغيوم الأوهام والشعوذة والانسحاق التام أمام إرادة الأعداء، والطاعة العمياء لهم. ثم كان أن بيع الوهم نفسه، وفي المكان نفسه، الضبعة، غرب مصر، في زمن حسني مبارك، حين صدرت الأهرام، نفسها، وإنْ بلا هيكل، لتقول الآتي في يونيو/ حزيران 2009 "توقيع عقد إنشاء أول محطة نووية في مصر"، وتشرح على لسان رئيس الحكومة "نظيف: المحطة تتويج لرؤية مبارك دخول مصر عصر التكنولوجيا النووية".
وها هي ست سنوات كاملة مرت على بيع حلم/ وهم مبارك النووي، من دون أن يلمس له أحد أثراً في السوق، أو يرى له بناءً يرتفع، حتى جاء عبد الفتاح السيسي، لكي يبيع المباع، ويستثمر في الوهم الذي قتله سابقوه لعباً ولهواً بعقول الناس وأحلامهم، غير أن البجاحة تبلغ منتهاها، حين يحاولون ادعاء أن مصر لم تعرف حروف الأبجدية النووية، إلا في زمن عبد الفتاح السيسي. ومن عجبٍ أن النظام الذي يهذي بالنووي، ويزعم أن الله بعثه لكي ينشر العلم في ربوع البلاد، ويستخدمه من أجل نهضتها، هو نفسه النظام الذي اختطف وسجن وأهان أستاذاً للفيزياء النووية، بدرجة رئيس جمهورية منتخب لأول مرة في تاريخ المصريين، وسجنه وعذبه وحكم عليه بالإعدام، لكي يجلس مكانه شخص دموي قاتل، لا يستطيع تكوين جملة سليمة واحدة، يكره العلم ويحتقر العلماء، ويحكم بالدجل والخرافة، ويجمع حوله فيالق من المشعوذين والمخرفين. بقي أن تعرف أن الوهم النووي الذي يبيعه السيسي لك الآن يبلغ ثمنه خمسة مليارات دولارات، ستذهب للروس، في مقابل السكوت على فضيحة الطائرة، وستكون أنت دافعها من مالك ومال أولادك، وعلى حساب مستقبلهم، وستصحو يوماً على "الأهرام"، بعد عقد، تنشر في صفحتها الأولى "الرئيس فلان يدخل بمصر العصر النووي". كل وهم وأنتم طيبون.
*** هل وصل عبد الفتاح السيسي إلى السلطة، عبر انتخابات رئاسية مبكرة، كي تكون مغادرته له عبر الطريق نفسه؟ هل تتصور أن في مصر بنية قضائية وتشريعية وإعلامية، يصح معها أن تذكر كلمة "انتخابات"، عملة قابلة للتداول في مجتمع تحول إلى ساحة مفتوحة للقتل والاغتيال والتعذيب؟ هل تعلم أنك، بهذه الطروحات التي تلح عليها في الفترة الأخيرة، تلقي بطوق نجاة لنظام، يقف عارياً من أية قيمة سياسية، أو جدارة محلية، أو إقليمية، بالبقاء؟ كان من الممكن أن أتعامل مع ما تقول بجدية، لو أنك قدمت علامة واحدة على أن النظام القائم في مصر يمكن أن يسمح بالمشاركة أو المنافسة أو التعايش. يا عزيزي، هذا نظام يقوم على مبدأ وجودي، لا يختلف عن عقيدة وجود إسرائيل في المنطقة، لا يقبل المنافسين أو المعارضين (الأغيار)، والأهم من ذلك أنك، منطقياً، لا تستطيع أن تتحدث عن علاقة جوار أو عيش مشترك بين قيم الديمقراطية والليبرالية التي تتحدث عنها وبها، وبين قيم الإبادة والإزاحة والإقصاء التي يعلنها هذا النظام في كل مناسبة. وليس أوضح دليلاً على أن هذا نظام لا يسمح بوجود من يعارضه أو يقترب من أسوار حكمه، من إقدام "قوات التدخل القضائي السريع" في سلطة عبد الفتاح السيسي إلى وضع اسم أبو الفتوح في قائمة الاتهام بالخيانة العظمى، لأنه ارتكب جريمة الدعوة إلى انتخابات مبكرة، عبر وسيلة إعلامية، من المفترض أنها مساحة مسموح بها للأشخاص أن يعبروا عن قناعاتهم وأفكارهم ورؤاهم السياسية والاجتماعية. بحت أصواتنا تقول، من أكثر من عامين، إن العلاقة الصحيحة بنظام قمعي قاتل لا ينبغي أن تتأسس على مبدأ المعارضة، بل يجب أن يكون عمادها مقاومته ومناهضته والسعي إلى إزاحته، قبل أن يحرق البلاد عن آخرها. وأزعم أن معارضة النظام، أي نظام، تعني إضفاء شرعية عليه، أو يمكنك القول إن المعارضة كمنطق، وكمبدأ، تصح مع النظم ذات الشرعية الثابتة والأداء المحترم، أما التي يمثل وجودها جريمة ضد الديمقراطية، والإنسانية، معا، فهذه لا يصلح معها معارضة، بل نضال سياسي ومقاومة حضارية، لا يتوقفان إلا برحيلها، وتحرير المجتمع من بطشها ورداءتها. صنف هذا النظام، كما قلت سابقا، الناس في مصر، إلى فريقين: خونة وشرفاء، ولا وسط بينهما. ومن انتقد فشل الجنرال فهو خائن، ومن سب معارضيه، وحرّض على قتلهم هو الشريف، إذ لا توجد حالياً منطقة في العالم، تتردد فيها عبارة "الخيانة العظمى" بالغزارة الحاصلة في القاهرة. وبعبارة أخرى، إنهم يتعاملون مع اسم السيسي "المقدس"، باعتباره إله الخيانة العظمى عند قدماء المصريين، من مسّه بكلمة خائن وزنديق، استحق النفي والرجم.
*** العلاقة بوضوح: زواج بالإكراه بين العسكر والدولة، سيكون كل من يحاول تحرير مصر منه القتل والإلقاء في جب الخيانة والعمالة والتآمر. ومثل هذا الزواج الحرام، لكي يقع ويتم، ويحاط بسياج من الشرعية الزائفة، لا بد له من رجال كهنوت، من نوعية الشيخ أحمد الطيب والأنبا تواضروس، يحللون لصاحب السيف الباطش كل ما يريد، ويرجمون كل من يعارضه. ولأنه زواج مشين ومختل، فإنه لا ينتج عنه إلا نسل من نوعية تهاني الجبالي، والمبروك توفيق عكاشة، ومواليد أُخٓر مثل مصطفي بكري وسيف اليزل، وسياسيين ومذيعين يتكاثرون كالفطر، يحوّلون الوطن إلى ما يشبه عنبر للحالات الخطرة في مستشفى فسيح للأمراض العقلية والعصبية. وطن يبدو صغيراً ضئيلا، لا يُرى بالعين المجردة، يعيش على ما يتساقط من فتات موائد الكبار
*** فضيحة تفجير طائرة الركاب الروسية في سيناء، وما أعقبه من إجراءات روسية مهينة، وجارحة للكرامة الوطنية، حيث بدا جنرال مصر الصغير، العائش في بهجة ودفء المعطف البوتيني، منبوذا، كتلميذ بليد، ينفذ عقوبة التكدير والإبعاد، حيث كانت ذروة الإهانة مع قرار روسي بحرمان أسطول الناقل الجوي الرسمي المصري من دخول روسيا.
سياسة العقاب والتكدير أتت أكلها سريعا، بإذعان قاهرة عبد الفتاح السيسي للمشيئة الروسية، من دون مجادلة، حيث قرّر الروس توقيع اتفاقية ثنائية، بشأن مشروع نووي في الضبعة، مع عبد الفتاح السيسي منفرداً، في بلد لا يعرف أي شكل من الرقابة والمناقشة البرلمانية لأمور بهذا القدر من الخطورة.
الآن، ومع حادث إسقاط المقاتلة الروسية، في الأجواء التركية، صارت مصر السيسية أكثر احمراراً، إذ تضع على وجهها مساحيق بلشفية فاقعة، وثقيلة، حتى يكاد المستمع للراديو يشعر أنهم غيروا "صوت العرب" إلى "صوت روسيا الاتحادية"، ناهيك عن دعواتٍ، تنطلق من فضائيات السيسي، تطالب بالحشد الشعبي في مصر دفاعاً عن روسيا، ويكاد يصل الجنون ببعضهم إلى المطالبة بإنشاء صندوق "تحيا روسيا"، لدعم المجهود الحربي الروسي ضد "الأعداء الأتراك والقطريين والسعوديين والأميركيين والأوروبيين".
تشعر لوهله أن ماكينات الهلوسة الوطنية في "عالم سيسي" قرّرت أن تنقل تفويضها الشهير بالقتل وسفك الدماء، تحت ذريعة "مواجهة العنف والإرهاب المحتمل" من جنرال مصر الصغير، إلى قيصر روسيا الكبير، بل تكاد الدبلوماسية المصرية نفسها تجري تعديلا على خطاب "مسافة السكة" الكوميدي، بحيث تعلن أن المقصود به هو الشقيقة الكبرى، روسيا، وليس الأوغاد، من الدول العربية الصديقة للعدو التركي.
على ضوء ذلك، لن يكون غريباً أن تتم الدعوة لمليونية في ميادين مصر، يقودها "ناصريو افرم يا سيسي" و"يسار كل أخ روسي أخي" لمنح فلاديمير بوتين "التفويض والأمر"، لكي يرد على أنقرة، بقتل أكبر عدد ممكن من الشعوب العربية، في اللاذقية وسيناء وبنغازي، وكل أرض عربية تُسمٓع فيها أصواتٌ تعترض على جرائم الانقلابات والثورات المضادة، بمواجهة الربيع العربي.
ولن يكون مفاجئاً إذا حملت الصفحات الأولى من جرائد السيسي خبراً، عن مواطن أطلق على مولوده اسم "بوتين" أو "لينين"، تعبيرا عن وطنية فيّاضة، وحب جارف لمصر، لا يعادله إلا حب ذلك الشخص الذي أطلق على مولودته اسم "رافال"، وذاك الذي رزقه الله بغلامٍ، فجعله "سيسي"
السيكولوجية الرخيصة، المنسحقة أمام رغبات كل من يقدم دعماً لسلطة الانقلاب، لا تتصور أن هناك شعوباً ودولاً تمارس شيئاً اسمه "السيادة" على أراضيها وسماواتها، ولا تصدّق أن هناك من لا يزال يحتفظ بالقدرة على الإحساس بالكرامة.
***لا ألوم عبد الفتاح السيسي على هذه المرحلة من الهذيان الذي يناسب شخصاً يمضي إلى نهايته المحتومة، كأحد الفاشلين العظام في التاريخ.
اللوم، كل اللوم، على جيش من الخبراء والعلماء الذين يشكلون المجلس الاستشاري العلمي التابع لرئاسة الجمهورية، وفي مقدمتهم أستاذ الصحة النفسية، أحمد عكاشة، لأنهم تركوا الحالة تتطور، والوضع يتفاقم، وخلايا الهلوسة تتكاثر وتنتشر، حتى وصلنا إلى هذه المرحلة المرعبة التي باتت معها المناسبات التي يتحدث فيها الجالس في مقعد الرئيس، جرعات مكثفة من الكوميديا السوداء، التي تضحك المصريين على حاله، وتبكيهم على أحوالهم.
*** حالة التوحد مع الرداءة، أو استعذاب القبح، أو الرضا بالجهل والفشل التي تنتاب المطرب الفتوة، هذه، هي التفسير المنطقي الوحيد لإصرار عبد الفتاح السيسي على أنه ناجح، بل وعبقري، يحقق، في أيام، ما عجز عن تحقيقه السابقون في عقود. وبهذه الأوهام المعششة في رأسه، بقي يتنقل من أكذوبة إلى أخرى، إذ كلما فضح الواقع واحداً من وعوده، وإنجازاته الوهمية، يهرب إلى كذبة أخرى، حتى نضبت بئر الأوهام، فقرّر الانتقال إلى المرحلة الأصعب، والأكثر خطورة على الجميع، كما تجلى في خطابه المثير للشفقة، أمس، حين قال إنه يحقق إنجازات ضخمة، لكنه يفضل أن يحتفظ بها طي الكتمان والسرية، يبني مطارات في السر، ويشق طرقاً في السر، ويحفر أنهاراً وقنوات في السر، لكنه لا يريد أن يعلن"خوفاً من الشر وأهله".
اسمح لي، هنا، أن أستعيد ما قلته سابقا من أن هذا النظام، وتوابعه الإعلامية والفنية والثقافية، بدأوا ينفصلون عن الواقع بشكل فادح * تستحق مصر أفضل من هذا بكثير، مصر الطهطاوي وطه حسين ومحمد عبده ومصطفى مشرفة ونجيب محفوظ، لا يليق بها أن يقودها من لا يجد غضاضة في اعتبار مهمة جيشها العظيم أن يتجوّل بسيارات محملة بكراتين الفراخ المجمدة والزيت والسكر واللحوم المستوردة.. في اللحظة التي يسقط فيها الجيش التركي مقاتلات روسية معربدة داخل حدوده، يسقط جيش السيسي كراتين سلع غذائية، مدفوعة الثمن على القرى والأحياء الشعبية، فلتتفرغ وزارة التموين لإنشاء محطات نووية إذن.
*** التخلص من كل هذا الظلم وكل هذه البشاعة بات واجب الوقت، قبل أن تدخل البلاد إلى جحيم، يوشك أن ينقض؟ السؤال بصيغة أخرى: هل بات مجدياً الحديث عن ترقيعات للنظام، تجسدها دعوات إلى انتخابات مبكرة، أو ترحيب وإشادة بتعيين شخصياتٍ يشهد لها معارضون بالكفاءة، منذ كانت تخدم في حكومة حسني مبارك، في جهاز مشروعات السيسي الوهمية، كما هو حاصل مع تعيين الوزير أحمد درويش، في مشروع محور قناة السويس؟
حسناً، ماذا لو اختار السيسي أكثر من "أحمد درويش" في حكومته، وعينهم نواباً في برلمانه، وألغى لكم قانون التظاهر، وأفرج عن أصدقائكم، في الشلة والحزب والتيار، هل سيصير السيسي حلواً والنظام محترما؟ هل تعارض لتحقيق منافع مصالح، وتحسن شروط الحياة في ظل سلطة فاشية، أم تقاوم للانتصار لمبادئ وقيم، وأهداف نبيلة، تنحاز للحق، بما هو حق، بلا تلوين أو أصباغ، وتدافع عن الإنسان بما هو إنسان، بلا تعصب للشلة والجماعة والعشيرة؟
*** ظهور باسم يوسف فى حفل جوائز "إيمي الأميركية" لم تسعفه ذاكرته، أو ضميره الإنساني، وهو يستعرض
عذاباتِ العالم ومعاناته مع الإرهاب، من باريس حتى سيناء، مروراً بمالي وكينيا ونيجيريا، أن يتذكّر إرهاباً أشد قبحاً وإجراماً، مثل ذلك الإرهاب الصهيوني، الذي يمارسه المستعمر الإسرائيلي، باسم الرب أيضاً، ضد الشعب العربي الفلسطيني، صاحب الأرض والحق.
" كنا نتمنى أن يستثمر النجم الهوليوودي الشرق أوسطي هذه المناسبة، ليطرق أبواب الضمير العالمي، بشأن الإرهاب الفاشي، الهولوكوست بكل معنى الكلمة، الذي تمارسه السلطة في مصر وسورية على شعوبٍ كل جريمتها أنها حلمت، ولا تزال، بجرعةٍ ديمقراطيةٍ وحرية، تروي ظمأها لحياة إنسانية، مثل التي ينبهر بها المذيع الموهوب، الذي غنى يوماً، بعد مذبحتين هما الأبشع في تاريخ
المنطقة "السيسي لعبها صح".
بقلم//وائل قنديل