<!--[if !mso]> <style> v\:* {behavior:url(#default#VML);} o\:* {behavior:url(#default#VML);} w\:* {behavior:url(#default#VML);} .shape {behavior:url(#default#VML);} </style> <![endif]--><!--<!--[if gte mso 10]> <style> /* Style Definitions */ table.MsoNormalTable {mso-style-name:"جدول عادي"; mso-tstyle-rowband-size:0; mso-tstyle-colband-size:0; mso-style-noshow:yes; mso-style-parent:""; mso-padding-alt:0in 5.4pt 0in 5.4pt; mso-para-margin:0in; mso-para-margin-bottom:.0001pt; mso-pagination:widow-orphan; font-size:10.0pt; font-family:"Times New Roman";} table.MsoTableGrid {mso-style-name:"شبكة جدول"; mso-tstyle-rowband-size:0; mso-tstyle-colband-size:0; border:solid windowtext 1.0pt; mso-border-alt:solid windowtext .5pt; mso-padding-alt:0in 5.4pt 0in 5.4pt; mso-border-insideh:.5pt solid windowtext; mso-border-insidev:.5pt solid windowtext; mso-para-margin-top:0in; mso-para-margin-right:0in; mso-para-margin-bottom:4.0pt; mso-para-margin-left:0in; text-align:justify; text-justify:kashida; text-kashida:0%; text-indent:22.7pt; line-height:80%; mso-pagination:none; font-size:10.0pt; font-family:"Times New Roman";} </style> <![endif]--><!--<!--
آداب، وأحكام، وشروط، ودرجات، ومسائل
د. سعيد بن علي بن وهف القحطاني
فهذه رسالة مختصرة في ((زكاة الفطر)) بيَّنتُ فيها مفهوم زكاة الفطر: لغةً، واصطلاحاً، وأن الأصل في وجوبها عموم الكتاب، والسنة الصريحة، وإجماع أهل العلم، وذكرت شروطها المعتبرة عند أهل العلم، وأوضحت الحِكَمَ من زكاة الفطر، وأنها فرضٌ: على كل مسلمٍ حرٍّ، أو عبدٍ، أو كبيرٍ، أو صغيرٍ، أو ذكرٍ، أو أنثى، وأوضحت وقت إخراج زكاة الفطر، ومقدار زكاة الفطر: بالصّاع النبويّ وبالوزن، وذكرت درجات إخراج زكاة الفطر، ثم بيَّنت أهل زكاة الفطر الذين تُدفع لهم، وذكرتُ حُكْمَ دفع القيمة في زكاة الفطر، وأن زكاة الفطر تلزم المسلم عن نفسه وعن من يعول، ثم ختمت ذلك ببيان مكان زكاة الفطر، وحكم نقلها، وأحكام إخراج زكاة الأموال، وقد استفدت كثيراً من ترجيحات سماحة شيخنا الإمام عبدالعزيز بن عبدالله ابن باز، غفر الله له، ورفع منزلته.
حرر بعد الظهر من يوم السبت 28/3/1426هـ بمدينة الرياض
أولاًَ: مفهوم زكاة الفطر:
الزكاة لغة: النماء، والزيادة، والطهارة، والبركة، يقال: زكى الزرع: إذا نما وزاد([1]).
الفطر: اسم مصدر، من قولك: أفطر الصائم، يفطر إفطاراً؛ لأن المصدر منه: الإفطار، وهذه يراد بها الصدقة عن البدن، والنفس، وإضافة الزكاة إلى الفطر، من إضافة الشيء إلى سببه؛ لأن الفطر من رمضان سبب وجوبها، فأضيفت إليه؛ لوجوبها به، فيقال: ((زكاة الفطر)).
وقيل لها: فطرةٌ؛ لأن الفطرة: الخلقة، قال الله تعالى: ]فِطْرَةَ الله الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا[([2]). أي جبلته التي جبل الناس عليها، وهذه يراد بها الصدقة عن: البدن، والنفس، كما كانت الأولى صدقة عن المال([3])، ويقال: ((زكاة الفطر، وصدقة الفطر، ويقال للمُخْرَج: فطرة, وهي اصطلاحية للفقهاء، كأنها من الفطرة التي هي الخلقة: أي زكاة الخلقة))([4]).
زكاة الفطر في الاصطلاح: ((هي الصدقة تجب بالفطر من رمضان، طهرة للصائم: من اللغو، والرفث)) ([5]).
وقيل: ((إنفاق مقدار معلوم، عن كل فرد مسلم يُعيله، قبل صلاة عيد الفطر، في مصارف مخصوصة))([6]).
وقيل: ((صدقة واجبة بالفطر من رمضان، وتسمى فرضاً، ومصرفها كزكاةٍ))([7]).
ثانياً: الأصل في وجوب زكاة الفطر: عموم الكتاب وصريح السنة والإجماع:
أما عموم الكتاب، فقيل: قول الله تعالى: ]قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى* وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى[([8])([9]). وعموم قول الله تعالى:]وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ [([10]).
وأما السنة؛ فلأحاديث كثيرة، ومنها حديث عبدالله ابن عمر رضي الله عنهما، وفيه: ((فرض رسول الله r زكاة الفطر من رمضان على كل نفس من المسلمين...))([11]).
وأما الإجماع، فأجمع أهل العلم: أن صدقة الفطر فرض، قال الإمام ابن المنذر رحمه الله: ((وأجمعوا على أن صدقة الفطر فرض، وأجمعوا على أن صدقة الفطر تجب على المرء، إذا أمكنه أداؤها عن نفسه، وأولاده الأطفال، الذين لا أموال لهم، وأجمعوا على أن على المرء أداء زكاة الفطر عن مملوكه الحاضر))([12]).
ثالثاً: شروط وجوب زكاة الفطر ثلاثة شروط:
الشرط الأول: الإسلام، فتجب على كل مسلم: حرٍّ أو عبدٍ، أو رجل أو امرأة، صغيرٍ أو كبيرٍ؛ لحديث ابن عمر رضي الله عنهما، وفيه: ((فرض رسول الله r زكاة الفطر من رمضان، على كل نفس من المسلمين: حرٍّ أو عبدٍ، أو رجلٍ أو امرأةٍ، صغيرٍ أو كبيرٍ))([13]). قال الإمام ابن قدامة رحمه الله: ((وجملته أن زكاة الفطر تجب على كل مسلم، مع الصغر والكبر، والذكورية والأنوثية, في قول أهل العلم عامة، وتجب على اليتيم, ويخرج عنه وليه من ماله، وعلى الرقيق))([14]).
الشرط الثاني: الغنى، وهو أن يكون عنده يوم العيد وليلته صاع، زائد عن قوته وقوت عياله، وحوائجه الأصلية([15]).
الشرط الثالث: دخول وقت الوجوب، وهو غروب الشمس من ليلة الفطر؛ لقول ابن عمر رضي الله عنهما: ((فرض رسول الله r زكاة الفطر من رمضان))([16]) وذلك يكون بغروب الشمس، من آخر يوم من أيام شهر رمضان، فمن أسلم أو تزوج، أو وُلِدَ له ولد، أو مات قبل الغروب لم تلزمه فطرتهم، وإن غربت وهم عنده ثم ماتوا فعليه فطرتهم؛ لأنها تجب في الذمة، فلم تسقط بالموت ككفارة الظهار([17]).
رابعاً: الحكمة من وجوب زكاة الفطر:
لا شك أن مشروعية زكاة الفطر لها حِكم كثيرة من أبرزها وأهمها الحكم الآتية:
1 – طُهرةٌ للصائم، من اللغو والرفث، فترفع خلل الصوم، فيكون بذلك تمام السرور.
2 – طعمةٌ للمساكين، وإغناء لهم عن السؤال في يوم العيد، وإدخال السرور عليهم؛ ليكون العيد يوم فرح وسرور لجميع فئات المجتمع.
3 – مواساةٌ للمسلمين: أغنيائهم، وفقرائهم ذلك اليوم، فيتفرغ الجميع لعبادة الله تعالى، والسرور والاغتباط بنعمه I، وهذه الأمور تدخل في حديث ابن عباس رضي الله عنهما ((فرض رسول الله r زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث، وطعمة للمساكين...)) ([18]).
4 – حصول الثواب والأجر العظيم بدفعها لمستحقيها في وقتها المحدد؛ لقوله r في حديث ابن عباس المشار إليه آنفاً: ((فمن أدَّاها قبل الصلاة فهي صدقة مقبولة، ومن أدَّاها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات))([19]).
5 – زكاة للبدن حيث أبقاه الله تعالى عاماً من الأعوام، وأنعم عليه سبحانه بالبقاء؛ ولأجله استوى فيه الكبير والصغير، والذكر والأنثى، والغني والفقير، والحر والعبد، والكامل والناقص في مقدار الواجب: وهو الصاع.
6 – شكر نعم الله تعالى على الصائمين بإتمام الصيام، ولله حكم، وأسرار لا تصل إليها عقول العالمين([20]).
خامساً: زكاة الفطر فرض على كل مسلم فَضُل عنده يوم العيد وليلته
صاع من طعام، عن قوته وقوت أهل بيته الذين تجب نفقتهم عليه؛ لحديث عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال: ((فرض رسول الله r زكاة الفطر في رمضان على كل نفسٍ من المسلمين: حرٍّ أو عبدٍ، أو رجلٍ، أو امرأةٍ، صغيرٍ، أو كبيرٍ، صاعاً من تمر، أو صاعاً من شعير)) وهذا لفظ مسلم في رواية, ولفظ البخاري: ((فرض رسول الله r زكاة الفطر: صاعاً من تمر، أو صاعاً من شعير، على العبد، والحر، والذكر، والأنثى، والصغير، والكبير من المسلمين، وأمر بها أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة)). وفي لفظٍ للبخاري عن نافع عن ابن عمر: ((فرض النبي r صدقة الفطر – أو قال: رمضان – على الذكر، والأنثى، والحر، والمملوك: صاعاً من تمر، أو صاعاً من شعير، فعدل الناس به نصف صاع من برٍّ، فكان ابن عمر يعطي التمر, فأعوز أهل المدينة من التمر فأعطى شعيراً، فكان ابن عمر يعطي عن الصغير والكبير، حتى إن كان يعطي بنيَّ، وكان ابن عمر رضي الله عنهما يعطيها للذين يقبلونها، وكانوا يعطون قبل الفطر بيوم أو يومين))([21]).
ويستحب إخراج زكاة الفطر عن الحمل؛ لفعل عثمان t([22]).
وتخرج عن المملوك يخرجها سيده عنه؛ لحديث أبي هريرة t، قال: قال رسول الله r: ((ليس على المسلم في فرسه، ولا في عبده صدقة إلا صدقة الفطر))([23]).
سادساً: وقت إخراج زكاة الفطر:
وقَّت النبي r وقت إخراج زكاة الفطر في حديث ابن عمر السابق بقول ابن عمر عن النبي r: ((وأمر بها أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة))([24]). أي صلاة العيد. وفي رواية عن ابن عمر رضي الله عنهما: ((وكانوا يعطون قبل الفطر بيوم أو يومين))([25])؛ ولكن الأفضل أن تخرج يوم العيد قبل الصلاة؛ لسد حاجة الفقراء يوم العيد،وإغنائهم يوم العيد عن المسألة.
ولا يجوز تأخيرها بعد الصلاة؛ لحديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: ((فرض رسول الله r زكاة الفطر طهرةً للصائم: من اللغو، والرفث، وطعمة للمساكين، فمن أداها قبل الصلاة فهي صدقة مقبولة، ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات))([26]).
ولكن زكاة الفطر لا تجب إلا بغروب شمس آخر يوم من رمضان: فمن أسلم بعد الغروب، أو تزوج، أو وُلِد له وَلدٌ، أو مات قبل الغروب لم تلزم فطرتهم([27]).
سابعاً: درجات إخراج زكاة الفطر على النحو الآتي:
الدرجة الأولى: جواز تقديم زكاة الفطر قبل العيد بيوم أو يومين؛ لحديث ابن عمر رضي الله عنهما، وفيه: ((... وكانوا يعطون قبل الفطر بيوم أو يومين))([28])، وفي لفظ للإمام مالك: ((أن ابن عمر كان يبعث بزكاة الفطر إلى الذي تجمع عنده قبل الفطر بيومين أو ثلاثة))([29]). قالت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء برئاسة الإمام عبدالعزيز بن عبدالله ابن باز رحمه الله: ((ووقتها ليلة عيد الفطر إلى ما قبل صلاة العيد؛ ويجوز تقديمها يومين أو ثلاثة))([30]). وقال شيخنا الإمام عبدالعزيز ابن باز رحمه الله: ((ولا مانع من إخراجه قبله بيوم أو يومين, أو ثلاثة، ولكن لاتؤجل بعد العيد))([31])([32]).
الدرجة الثانية: وقت الوجوب: هو غروب الشمس من آخر يوم من رمضان؛ فإنها تجب بغروب الشمس من آخر شهر رمضان، فمن تزوج، أو ملك عبداً، أو وُلِد له ولد، أو أسلم قبل غروب الشمس، فعليه الفطرة، وإن كان ذلك بعد الغروب لم تلزمه، ومن مات بعد غروب الشمس ليلة الفطر فعليه صدقة الفطر، نص عليه الإمام أحمد، وبه قال الثوري، وإسحاق، ومالك في إحدى الروايتين عنه، والشافعي في أحد قوليه([33]).
وقالت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء في أول وقت الوجوب لزكاة الفطر: ((إنما يبدأ من غروب شمس آخر يوم من رمضان، وهو أول ليلة من شهر شوال، وينتهي بصلاة العيد؛ لأن النبي r أمر بإخراجها قبل الصلاة))([34])([35]).
الدرجة الثالثة: المستحب إخراج زكاة الفطر يوم الفطر قبل صلاة العيد؛ لأن النبي r أمر بها أن تؤدَّى قبل خروج الناس إلى صلاة العيد، كما في حديث ابن عمر رضي الله عنهما([36])، وكما قال ابن عباس رضي الله عنهما ((فمن أداها قبل الصلاة فهي صدقة مقبولة، ومن أدَّاها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات))([37]).
الدرجة الرابعة: لا يجوز تأخيرها بعد صلاة العيد على القول الصحيح، فمن أخَّرها بعد الصلاة بدون عذر، فعليه التوبة، وعليه أن يخرجها على الفور، قال العلامة ابن مفلح رحمه الله: ((وفي الكراهة بعدها وجهان، والقول بها أظهر؛ لمخالفة الأمر، وقيل: تحرم بعد الصلاة، وذكر صاحب المحرر أن أحمد رحمه الله: أومأ إليه، وتكون قضاءً، وجزم به ابن الجوزي))([38]). وقال الإمام عبدالعزيز ابن عبدالله ابن باز رحمه الله: ((الواجب... إخراجها قبل صلاة العيد، ولا يجوز تأخيرها إلى ما بعد صلاة العيد))([39]).
وقال العلامة محمد بن صالح العثيمين، رحمه الله، في تعمد إخراجها بعد صلاة العيد: ((والصحيح أن إخراجها في هذا الوقت محرم، وأنها لا تجزئ، والدليل على ذلك حديث ابن عمر [رضي الله عنهما: أن النبي] ((أمر بها أن تؤدَّى قبل خروج الناس إلى الصلاة))([40]) فإذا أخرها حتى يخرج الناس من الصلاة، فقد عمل عملاً ليس عليه أمر الله ورسوله، فهو مردود؛ لقوله r: ((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد))([41]) بل إن حديث ابن عباس رضي الله عنهما صريح في هذا، حيث قال: ((من أدَّاها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة، ومن أدَّاها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات))([42]). وهذا نص في أنها لا تجزئ...)) ([43]). وقالت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء عندما سئلت عن وقت زكاة الفطر هل يمتد الوقت إلى آخر يوم العيد؟ فبينوا وقتها ثم قالوا: ((... فمن أخرها عن وقتها فقد أثم، وعليه أن يتوب من تأخيره، وأن يخرجها للفقراء))([44]). وهذا اختيار شيخ الإسلام وابن القيم([45])([46]).
ثامناً: مقدار زكاة الفطر وأنواعها:
هو صاع من قوت البلد الذي يأكله الناس، وقد ثبت في حديث ابن عمر رضي الله عنهما الذي ذكرته آنفاً أنه قال: ((فرض رسول الله r زكاة الفطر من رمضان صاعاً من تمر، أو صاعاً من شعير...)). وعن أبي سعيد الخدري t أنه كان يقول: ((كنا نخرج زكاة الفطر: صاعاً من طعام، أو صاعاً من شعير، أو صاعاً من تمر، أو صاعاً من أقط، أو صاعاً من زبيب)). وفي لفظ للبخاري: ((كنا نعطيها في زمان النبي r...)). وفي لفظ لمسلم: ((كنا نخرج إذ كان فينا رسول الله r زكاة الفطر: عن كل صغير، وكبير، حرٍّ أو مملوك: صاعاً من طعام، أو صاعاً من أقط، أو صاعاً من شعير، أو صاعاً من تمر، أو صاعاً من زبيب، فلم نزل نخرجه حتى قدم علينا معاوية بن أبي سفيان حاجًّا أو معتمراً, فكلم الناس على المنبر فكان فيما كلم به الناس أن قال: إني أرى مدين من سمراء الشام تعدل صاعاً من تمر، فأخذ الناس بذلك، قال أبو سعيد: فأما أنا فلا أزال أخرجه كما كنت أخرجه أبداً ما عشت))([47]).
وفي لفظ ابن ماجه قال أبو سعيد: ((لا أزال أخرجه كما كنت أخرجه على عهد رسول الله r أبداً ما عشت))([48]). وفي حديث أبي سعيد زيادات لم أذكرها؛ لأن فيها نظراً([49])، أما رأي معاوية t في أن البر يعدل المد منه المدين من غيره فيجزئ نصف صاع، فقال عنه الحافظ ابن حجر رحمه الله: ((حديث أبي سعيد دال على أنه لم يُوافق على ذلك، وكذلك ابن عمر، فلا إجماع في المسألة خلافاً للطحاوي، وكأن الأشياء التي ثبت ذكرها في حديث أبي سعيد لما كانت متساوية في مقدار ما يخرج منها مع ما يخالفها في القيمة دل على أن المراد إخراج هذا المقدار من أي جنس كان، ولا فرق بين الحنطة وغيرها، وهذه حجة الشافعي ومن تبعه. وأما من جعله نصف صاع منها بدل صاع من شعير فقد فعل ذلك بالاجتهاد))([50]).
وقد قال الإمام النووي رحمه الله: ((قوله: عن معاوية أنه كلم الناس على المنبر فقال: إني أرى أن مدين من سمراء الشام يعدل صاعاً من تمر فأخذ الناس بذلك، قال أبو سعيد: فأما أنا فلا أزال أخرجها كما كنت أخرجها أبداً ما عشت، فقوله: سمراء الشام: هي الحنطة, وهذا الحديث هو الذي يعتمده أبو حنيفة وموافقوه في جواز نصف صاع حنطة، والجمهور يجيبون عنه: بأنه قول صحابي, وقد خالفه أبو سعيد وغيره ممن هو أطول صحبة، وأعلم بأحوال النبي r، وإذا اختلف الصحابة لم يكن قول بعضهم بأولى من بعض، فنرجع إلى دليل آخر. وجدنا ظاهر الأحاديث، والقياس متفقاً على اشتراط الصاع من الحنطة كغيرها، فوجب اعتماده، وقد صرح معاوية بأنه رأيٌّ رآه, لا أنه سمعه من النبي r، ولو كان عند أحد من حاضري مجلسه مع كثرتهم في تلك اللحظة علم في موافقة معاوية عن النبي r لذكره))([51]).
وسمعت شيخنا الإمام عبدالعزيز بن عبدالله ابن باز رحمه الله يقول فيمن جعل مُدين من الحنطة تقوم مقام الصاع من غيرها: ((اجتهد معاوية فجعل عدله مدين، والصواب أنه لا بد من صاع أخذاً بالنص؛ ولهذا قال أبو سعيد: أما أنا فلا أخرج إلا صاعاً وهو الصواب كما تقدم([52])، والله تعالى أعلم([53]).
تاسعاً: مقدار الصاع الذي تؤدى به زكاة الفطر هو صاع النبي r وهو خمسة أرطال وثلث بالعراقي([54])، وهو أربعة أمداد، والمد ملء كفي الإنسان المعتدل إذا ملأهما ومدّ يديه بهما، وبه سمي مدّاً، قال الفيروزآبادي: ((وقد جربت ذلك فوجدته صحيحاً))([55])، والصاع أربع حفنات بكفي الرجل الذي ليس بعظيم الكفين ولا صغيرهما، إذ ليس كل مكان يوجد فيه صاع النبي r،قاله الداوودي([56]). قال الفيروزآبادي: ((وجربت ذلك فوجدته صحيحاً))([57]).
قال شيخنا ابن باز رحمه الله في تحديد مقدارالصاع: ((ومقداره أربع حفنات بملء اليدين المعتدلتين من الطعام اليابس، كالتمر، والحنطة، ونحو ذلك، أما من جهة الوزن فمقداره أربعمائة وثمانون مثقالاً، وبالريال الفرنسي ثمانون ريالاً فرانسه؛ لأن زنة الريال الواحد ستة مثاقيل، ومقداره بالريال العربي السعودي [الفضي] مائة واثنان وتسعون ريالاً، أما بالكيلو فيقارب ثلاثة كيلو، وإذا أخرج المسلم من الطعام اليابس: كالتمر اليابس، والحنطة الجيد، والأرز، والزبيب اليابس، والأقط بالكيل، فهو أحوط من الوزن))([58]).
وقالت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء: ((المقدار الواجب في زكاة الفطر عن كل فرد صاع واحد بصاع النبي r، ومقداره بالكيلو ثلاثة كيلو تقريباً))([59]).
عاشراً: أهل زكاة الفطر الذين تدفع لهم: الفقراء والمساكين
قيل: تعطى صدقة الفطر لمن يجوز أن يعطى صدقة الأموال؛ لأن صدقة الفطر زكاة فكان مصرفها مصرف سائر الزكوات؛ ولأنها صدقة فتدخل في عموم قوله تعالى: ]إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالـْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالـْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ الله وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ الله وَالله عَلِيمٌ حَكِيمٌ[([60])([61]).
وقيل: لا يجوز دفع زكاة الفطر إلا لمن يستحق الكفارة، فتجري مجرى كفارة اليمين، والظهار، والقتل، والجماع في نهار رمضان، ومجرى كفارة الحج، فتدفع لهؤلاء الآخذين لحاجة أنفسهم، وهم الفقراء والمساكين، ولا يعطى المؤلفة قلوبهم، ولا الرقاب ولا غير ذلك، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ((وهذا القول أقوى في الدليل))([62]). وقال رحمه الله: ((ولا يجوز دفع زكاة الفطر إلا لمن يستحق الكفارة، وهو من يأخذ لحاجته لا في الرقاب، والمؤلفة قلوبهم وغير ذلك))([63]).
وقال الإمام ابن القيم رحمه الله: ((وكان من هديه r تخصيص المساكين بهذه الصدقة, ولم يكن يقسمها على الأصناف الثمانية قبضة قبضة، ولا أمر بذلك، ولا فعله أحد من أصحابه، ولا من بعدهم، بل أحد القولين عندنا: أنه لا يجوز إخراجها إلا على المساكين خاصة, وهذا القول أرجح من القول بوجوب قسمتها على الأصناف الثمانية))([64]).
وقال الشوكاني رحمه الله عن حديث ابن عباس رضي الله عنهما وفيه: ((وطعمة للمساكين...)) ([65]).
((وفيه دليل على أن الفطرة تصرف في المساكين دون غيرهم من مصارف الزكاة))([66]). وقال العلامة ابن عثيمين رحمه الله في ذكر القولين: ((هناك قولان لأهل العلم: الأول أنها تصرف مصرف بقية الزكوات، حتى المؤلفة قلوبهم والغارمين... والثاني أن زكاة الفطر مصرفها للفقراء فقط، وهو الصحيح))([67]). وقال الإمام عبدالعزيز ابن عبدالله ابن باز رحمه الله: ((زكاة الفطر شرعها الله مواساةً للفقراء والمحاويج، وطعمة للمساكين))([68]). وقال في موضع آخر: ((ومصرفها الفقراء والمساكين))([69]). ويجوز دفع زكاة الفطر عن النفر الواحد لشخص واحد، كما يجوز توزيعها على عدة أشخاص))([70]).
الحادي عشر: حكم دفع القيمة في زكاة الفطر:
قال الإمام ابن قدامة رحمه الله: ((ولا تجزئ القيمة؛ لأنه عدول عن المنصوص))([71])([72]). قال الإمام عبدالعزيز ابن عبدالله ابن باز رحمه الله: ((ولا يجوز إخراج القيمة عند جمهور أهل العلم، وهو أصح دليلاً، بل الواجب إخراجها من الطعام، كما فعله النبي r وأصحابه y))([73]). وقال رحمه الله: ((... زكاة الفطر عبادة بإجماع المسلمين، والعبادات الأصل فيها التوقيف، فلا يجوز لأحد أن يتعبد بأي عبادة إلا بما ثبت عن المشرِّع الحكيم عليه صلوات الله وسلامه))([74]).
وقالت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء: ((ولا يجوز إخراج زكاة الفطر نقوداً؛ لأن الأدلة الشرعية قد دلت على وجوب إخراجها طعاماً، ولا يجوز العدول عن الأدلة الشرعية؛ لقول أحد من الناس))([75]). قال r: ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)). وفي رواية لمسلم: ((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد))([76]).
الثاني عشر: الفطرة تلزم المسلم عن نفسه وعن من يعول ممن تلزمه نفقته:
قال الإمام الخرقي رحمه الله: ((ويلزمه أن يخرج عن نفسه وعن عياله، إذا كان عنده فضل عن قوتِ يومه وليلته))([77])، قال الإمام ابن المنذر رحمه الله: ((وأجمعوا على أن صدقة الفطر تجب على المرء إذا أمكنه أداؤها عن نفسه، وأولاده الأطفال الذين لا أموال لهم، وأجمعوا على أن على المرء أداء زكاة الفطر عن مملوكه الحاضر))([78]). فظهر أن الفطرة تلزم الإنسان القادر عن نفسه، وعن من يعوله، أي يمونه، فتلزمه فطرتهم، كما تلزمه مؤنتهم، إذ وجد ما يؤدي عنهم([79])؛ لحديث ابن عمر رضي الله عنهما: ((أمر رسول الله r بصدقة الفطر، عن الصغير، والكبير، والحر، والعبد، ممن تمونون))([80]).
قالت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء: ((زكاة الفطر تلزم الإنسان عن نفسه، وعن كلِّ من تجب عليه نفقته، ومنهم الزوجة؛ لوجوب نفقتها عليه))([81]). ويبدأ بنفسه إذا لم يجد لجميع من ينفق عليهم, ثم من يليه في وجوب النفقة([82])؛ لحديث جابر t ، وفيه: ((ابدأ بنفسك فتصدق عليها، فإن فضل شيء فلأهلك، فإن فضل عن أهلك شيء فلذي قرابتك، فإن فضل عن ذي قرابتك شيء فهكذا وهكذا)) يقول: فبين يديك، وعن يمينك، وعن شمالك([83]).
وعن حكيم بن حزام t: أن رسول الله r قال: ((أفضل الصدقة، أو خير الصدقة عن ظهر غنىً، واليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول))([84]).
وعن بهز بن حكيم قال: حدثني أبي عن جدي قال: قلت: يا رسول الله، من أبرُّ؟ قال: ((أمك)) قال: قلت: ثم من؟ قال: ((أمك)) قال: قلت: ثم من؟ قال: ((أمك)) قال: قلت: ثم من؟ قال: ((ثم أباك ثم الأقرب فالأقرب))([85])؛ ولحديث أبي هريرة t، قال: يا رسول الله من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: ((أمك، ثم أمك، ثم أمك، ثم أبوك، ثم أدناك أدناك))([86]).
وعنه t قال: قال رسول الله r: ((تصدقوا)) فقال رجل يا رسول الله عندي دينار، فقال: ((تصدق به على نفسك)) قال عندي آخر، قال: ((تصدق به على زوجتك)) قال: عندي آخر، قال: ((تصدق به على ولدك)) قال: عندي آخر: قال: ((تصدق به على خادمك)) قال: عندي آخر؟ قال: ((أنت أبصر به))([87]).
الثالث عشر: مكان زكاة الفطر وحكم نقلها:
الأصل في ذلك قول النبي r لمعاذ حينما بعثه إلى اليمن: ((...فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم))([88]).
قال الإمام عبدالعزيز بن عبدالله بن باز رحمه الله تعالى: ((والسنة توزيعها بين الفقراء في بلد المزكي، وعدم نقلها إلى بلد آخر؛ لإغناء فقراء بلده وسد حاجتهم...)) ([89]). وقال رحمه الله عندما سئل عن حكم نقل زكاة الفطر: ((لا بأس بذلك, ويجزئ إن شاءالله في أصح قولي العلماء، لكن إخراجها في محلك الذي تقيم فيه أفضل وأحوط، وإذا بعثتها لأهلك؛ ليخرجوها على الفقراء في بلدك فلا بأس))([90]).
الرابع عشر: أحكام إخراج زكاة الأموال:
1 – يجب إخراج الزكاة على الفور، كالكفارة، والنذر؛ لأن الأمر المطلق يقتضي الفورية، ومنه قول الله تعالى: ]وَآَتَوُا الزَّكَاةَ[([91]) إلا إذا أخرها؛ ليدفعها إلى من هو أحق بها، من: ذوي القرابة، أو ذوي الحاجــة الشـديــدة، جــاز إذا كان وقتاً يسيراً([92])([93]).
2 – من جحد وجوب الزكاة كفر، إذا كان عالماً بوجوبها؛ لتكذيبه لله، ولرسوله، وإجماع الأمة، ويستتاب فإن تاب وإلا قتل([94])([95])، ولا يصلى عليه، ولا يدفن في مقابر المسلمين([96]).
3 – من منع الزكاة بخلاً، وتهاوناً، أخذها إمام المسلمين أو نائبه منه، وعزّره؛ لارتكابه محرماً؛ ومنعه ركناً من أركان الإسلام؛ لينصره على نفسه، ويردعه عن فعله المحرم([97])([98]).
4 – يخرج الزكاة من مال: الصغير، واليتيم، والمجنون وليهم؛ لأنه حق تدخله النيابة، فقام الولي فيه مقام المولَّى عليه: كنفقته، وغرامته؛ ولأن الزكاة واجبة في المال، ولم يشترط البلوغ والعقل في وجوب الزكاة في المال([99])([100]).
5 – والأفضل: أن يفرِّق زكاته بنفسه؛ ليتيقن وصولها إلى مستحقيها؛ وليحصل على أجر التعب؛ لأن تفريقها عبادة لله تعالى، وليجتهد في إيصالها إلى أهلها بيقين، قال عثمان t: ((هذا شهر زكاتهم، فمن كان عليه دين فليقضه، ثم يزكي بقية ماله))([101]).
وعن أبي سعيد المقبري قال: جئت عمر بن الخطاب بمائتي درهم، قلت: يا أمير المؤمنين هذا زكاة مالي، قال: وقد عتقت يا كيسان؟ قال: قلت: نعم، قال: ((اذهب بها فاقسمها))([102]).
وإذا اجتهد في الإخلاص لله تعالى وأخفاها ابتغاء مرضاته سبحانه أظله الله تعالى في ظله، يوم لا ظل إلا ظله؛ لحديث أبي هريرة t ، عن النبي r قال: ((سبعة يظلهم الله تعالى في ظله، يوم لا ظل إلا ظله...)) وذكر منهم ((... ورجل تصدّق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه))([103]).
فيحصل على هذا الثواب العظيم بتوزيعها بنفسه([104]).
6 – والأفضل أن يسأل الله تعالى أن يتقبَّل منه، كأن يقول: ((اللهم تقبل مني إنك أنت السميع العليم)) وغير ذلك من الدعاء المناسب([105]).
7 – يقول آخذ الزكاة ما ورد، كأن يقول: ((اللهم بارك فيه وفي ماله))([106])، وكان رسول الله r إذا أتاه قوم بصدقتهم قال: ((اللهم صلِّ عليهم)) فأتاه أبو أوفى بصدقته، فقال: ((اللهم صلِّ على آل أبي أوفى))([107]).
8 – ويشترط لإخراجها نية من مكلَّف، وله تقديمها بيسير، والأفضل قرنها بالدفع، فينوي الزكاة أو الصدقة الواجبة تقرباً لله تعالى، وكذلك إذا وكل نوى، وينوي الوكيل عمن وكله؛ لقوله r: ((إنما الأعمال بالنيات))
ساحة النقاش