<!--<!--<!--<!--<!--<!--

 

 

الدروس السلفية لليالي الرمضانية

تأليف

عمر بن عبد الله بن عاتق الحربي
بسم الله الرحمن الرحيم

( المقدمة )

إن الحمد لله, نحمده ونستعينه, ونستغفره, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا, ومن سيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له, ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم . أما بعد فهذه دروس لشهر رمضان بعنوان : الدروس السلفية لليالي الرمضانية , سائلا الله عز وجل أن ينفع بهذا الكتاب مؤلفه وقارئه والمستمع له , وقد انتهيت من تأليفه في 29 / 8 / 1424 هـ

                                  المؤلف: عمر بن عبد الله بن عاتق الحربي

الدرس الأول: في بيان حق الله على العبيد

إن الحمد لله , نحمده ونستعينه , ونستغفره , ونعوذ بالله من شرور أنفسنا , ومن سيئات أعمالنا , من يهده الله فلا مضل له , ومن يضلل فلا هادي له , وأشهد أن لا له إلا الله وحده لا شريك له , وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم .

{ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون } [ آل عمران / 103 ] 

{ يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تسألون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا } [ النساء / 1 ]

{ يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولا سديدا , يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم , ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما } [ الأحزاب / 70/ 71 ] وبعد

قال الله تعالى: { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } ] الذاريات / 56[ (إلا ليعبدون) إلا ليوحدوني, فأما المؤمن فيوحده في الشدة والرخاء, وأما الكافر فيوحده في الشدة والبلاء دون النعمة والرخاء بيانه قوله عز وجل: { فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين } ]العنكبوت – 65 [ ذكر هذا البغوي في تفسيره فدلت الآية على أن الله تعالى خلق الخلق لحكمة عظيمة , وهي  القيام بما أوجب عليهم من عبادته وحده بترك عبادة ما سواه , خلقهم الله من أجل أن يعبدوه وحده لا شريك له

واعلموا- رحمكم الله – أن أعظم ما أمر الله به التوحيد, وهو: إفراد الله بالعبادة.

قال شيخ الإسلام: العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة.

وقال أيضا: والعبادة اسم يجمع كمال الحب لله ونهايته, وكمال الذل لله ونهايته, فالحب الخلي عن ذل, والذل الخلي عن حب لا يكون عبادة, إنما العبادة ما يجمع كمال الأمرين.

قال: الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى:

وعبادة الرحمن غاية حبه        *       مع ذل عابده هما قُطبان

وعليهما فلك العبادة دائرة        *     ما دار حتى قامت القطبان

ومدارة بالأمر أمر رسوله        *    لا بالهوى والنفس والشيطان

فقيام دين الله بالإخلاص والـ     *       إحسان إنهما له أصلان

لم ينج من غضب الإله وناره    *    إلا الذي قامت به الأصلان

والناس بعد فمشرك بإلهه        *    أو ذو ابتداع أوله الوصفان

ومن الأدلة على أن أعظم ماأمر الله به التوحيد قول الله تعالى : { يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون } ] البقرة / 31 [ وقوله عز وجل : (( ولقد بعثنا في كل أُمة رسولا أنِ اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت )) ] النحل / 36[ والطاغوت كل ما عبد من دون الله .

وفي صحيح مسلم, من حديث ابن عباس – رضي الله عنهما – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذاً إلى اليمن قال: (( إنك تقدم على قوم ٍأهل كتاب . فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله عز وجل . الحديث )) 

 وأعظم ما نهى الله عنه الشرك , ومن الأدلة على هذا قول الله عز وجل { إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر مادون ذلك لمن يشاء}]النساء/48  [ فهذه الآية في حق غير التائبين , لا يُغفر لهم الشرك لأنه أعظم ذنب عصُي به الله , وما دون الشرك معلق بمشيئة الله تعالى إن شاء غفر وإن شاء عذب . ولأجل فضل التوحيد لا يخلد أحد من المسلمين في النار .

أيضا قال الله تعالى: {إنه من يُشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار } ] المائدة / 73[ وإذا حُرمت الجنة لزم أن يكون خالدا في النار أبدا لأن الآية في الشرك الأكبر .

وقال عزّ وجل : { ومن أضلُّ ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون } ] الأحقاف / 5[

أي لا أحد أضل من هذا المشرك الذي يدعو من دون الله , فدلت الآية على أن الشرك هو أعظم الضلال وأعظم الذنوب .

وقال عز وجل :{ حنفاء لله غير مشركين به ومن يشرك بالله فكأنما خرَّ من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق } ] سورة الحج / 31[ ففي هذه الآية ضرب الله عز وجل للمشرك مثلاً في ضلاله وهلاكه وبعده عن الهدى كمن سقط من السماء (( فتخطفه الطير )) أي تقطعه الطيور في الهواء (( أو تهوي به الريح في مكان سحيق )) ] مكان بعيد يهلك من هوى فيه . فدلت الآية على عظم ذنب الشرك .

ومن السنة ما ثبت في صحيح البخاري أن عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه – قال : سألت النبي صلى الله عليه وسلم أي الذنب أعظم عند الله ؟ قال : ( أن تجعل لله ندا وهو خلقك ) قلت : إن ذلك لعظيم , قلت : ثم أي ؟ قال : ( أن تقتل ولدك تخاف أن يطعم معك ) قلت : ثم أي ؟ قال : ( أن تزاني حليلة جارك ) . فدل الحديث على أن أعظم الذنوب عند الله الشرك , وأن الصحابة – رضي الله عنهم- قد استقر عندهم العلم بعظم ذنب الشرك , لقول ابن مسعود – رضي الله عنه - : (( إن ذلك لعظيم ))

وفي الصحيحين من حديث أبي بكرة – رضي الله عنه – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( ألا أُنبئكم بأكبر الكبائر ؟ ) قلنا بلى  يا رسول الله قال : ( الإشراك بالله وعقوق الوالدين – وكان متكئا فجلس فقال : - ألا وقول الزور. ألا وشهادة الزور ) فمازال يكررها حتى قلنا : ليته سكت .

واعلموا- رحمكم الله- أن التوحيد هو أول واجب على المكلفين ودليله قوله عز وجل: { إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني } الآية ] سورة طه / 13[ قال ابن كثير – رحمه الله – هذا أول واجب على المكلفين أن يعلموا أنه لا إله إلا الله , وقوله (( فاعبدني )) أي وحدني وقم بعبادتي من غير شريك .

ومعنى شهادة أن لا إله إلا الله : لا معبود بحق إلا الله , ولا بد في الشهادتين من العلم واليقين , والعمل بمدلولهما , ودليل هذا قوله تعالى : { فاعلم أنه لا إله إلا الله } ] محمد / 19[ وقوله تعالى : { إلا من شهد بالحق وهم يعلمون } ] الزخرف / 86[

والتوحيد هو الكلمة الطيبة قال تعالى : { ألم تر كيف ضرب الله كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء . تؤتي أُكلها كل حين بإذن ربها ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون } ] سورة إبراهيم / 34-35[ فعن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال : كلمة طيبة هي : شهادة أن لا إله إلا الله . كشجرة طيبة : وهو قلب المؤمن .

أصلها ثابت : قول : لا إله إلا الله في قلب المؤمن .

(( وفرعها في السماء )) يقول : يرفع بها عمل المؤمن إلى السماء .

والتوحيد هو الكلمة الباقية التي لا يزال في العرب من ذرية إبراهيم من يقولها. قال الله تعالى :{ وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إنني برآءٌ مما تعبدون . إلا الذي فطرني فإنه سيهدين. وجعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون } ] الزخرف / 38[

روي عن ابن عباس وعكرمة ومجاهد والضحاك وغيرهم في قوله عز وجل: { وجعلها كلمة باقية في عقبه } يعني لا إله إلا الله لا يزال في ذريته من يقولها .

والتوحيد هو القول الثابت الذي يثبت الله عليه الذين آمنوا في الحياة الدنيا وفي الآخرة .

ففي الصحيحين من حديث البراء بن عازب- رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( المسلم إذا سئل في القبر شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله , فذلك قوله { يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة } .

واعلموا- رحمكم الله – أن فضل التوحيد عظيم وأنه سبب لتكفير الذنوب , ومن أدلة هذا قول الله عز وجل : { الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم  أولئك لهم الأمن وهم مهتدون } ] الأنعام / 83[ ففي صحيح البخاري من حديث ابن مسعود – رضي الله عنه- قال : لما نزلت { الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم} قلنا : يا رسول الله , أينا لا يظلم ؟ قال : ( ليس كما تقولون , لم يلبسوا إيمانهم بظلم : بشرك . أو لم تسمعوا إلى قول لقمان لإبنه :{ يا بنيَّ لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم } ] لقمان / 13 [ قال الحسن : { أولئك لهم الأمن في الآخرة وهم مهتدون في الدنيا } .

ومن الأدلة أيضا على فضل التوحيد أن من حققه يدخل الجنة بغير حساب ولا عذاب , دليله ما ثبت في الصحيحين عن حصين بن عبد الرحمن قال : كنت عند سعيد بن جبير , فقال : أيكم رأى الكوكب الذي انقضَّ البارحة ؟ فقلتُ أنا , ثم قلت : أما أني لم أكن في صلاة , ولكني لدغت . قال : فما ذا صنعت ؟ قلت ارتقيت . قال : فما حملك على ذلك ؟ ! قلت: حديث حدثناه الشعبي, قال: وما حدثكم؟ قلت : حدثنا عن بُريدة بن الحُصيب أنه قال : ( لا رقية إلا من عين أو حمة ) قال : قد أحسن من انتهى إلى ما سمع . ولكن حدثنا ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( عرضت عليّ الأمم فرأيت النبيّ ومعه الّرهط , والنبيّ  ومعه الرجل والرجلان والنبيّ وليس معه أحد , إذ رفع سواد عظيم , فظننتُ أنهم أُمتي , فقيل لي : هذا موسى وقومه , فنظرت فإذا سواد عظيم , فقيل لي : هذه أُمتك ومعهم سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب ) ثم نهض فدخل منزله . فخاض الناس في أولئك , فقال : فلعلهم الذين صحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم , وقال بعضهم : فلعلهم الذين ولدوا في الإسلام ؛ فلم يشركوا بالله شيئا وذكروا أشياء, فخرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه فقال : ( هم الذين لا يسترقون ولا يكتوون , ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون ) فقام عُكّاشة بن مِحصَن فقال: ادعُ الله أن يجعلني منهم قال: ( أنت منهم ) ثم قام رجل آخر فقال : ادعُ الله أن يجعلني منهم فقال : ( سبقك بها عُكّاشة ) .

وهذا الحديث يتضمن فوائد منها :

1-  البعد عن مدح الإنسان نفسه بما ليس فيه .

2-  الرخصة في الرقية من العين والحُمة أي ( سم العقرب وشبهها )

3-  أن ترك الرقية والكي من تحقيق التوحيد.

4-  عدم الاغترار بالكثرة وعدم الزهد في القلة .

واعلموا- رحمكم الله – أنه لما كان الشرك الأكبر ينافي الوحيد ويوجب  لمن مات عليه دخول النار والخلود فيها والحرمان من الجنة , وأنها لا تحقيق السعادة إلا بالسلامة منه ينبغي لكل مؤمن أن يخاف منه أعظم الخوف وأن يسعى في الفرار منه ومن طرقه ووسائله وأسبابه ويسأل الله العافية منه كما يفعل الأنبياء والأصفياء وخيار الخلق , فهذا الخليل عليه السلام يقول : { واجنبني وبني أن نعبد الأصنام } ] إبراهيم / 35[ أي اجعلني وبني في جانب عن عبادة الأصنام وباعد بيننا وبينها . فإذا كان خليل الرحمن الذي كسر الأصنام بيده اشتد خوفه على نفسه وعلى بنيه من الشرك فغيره أولى بالخوف من الشرك .

قال إبراهيم التيمي: ومن يأمن البلاء بعد إبراهيم وقد خاف النبي الله صلى الله عليه وسلم على أُمته من الشرك وحذرهم من الوسائل التي توصل إليه .

فقد ثبت في الصحيحين من حديث عائشة – رضي الله عنها- قالت: لما نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم طفق يطرح خميصة له على وجهه, فإذا اغتم بها كشفها فقال : وهو كذلك ( لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) يُحذر مما صنعوا, ولولا ذلك أبرز قبره, غير أنه خَشي أن يتخذ مسجدا . ولمسلم, عن جندب ابن عبد الله – رضي الله عنه- قال : سمعتُ النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمسٍ وهو يقول : ( إني أبرأُ إلى الله أن يكون لي منكم خليل, فإن الله قد اتخذني خليلا, كما اتخذ إبراهيم خليلا ولو كنت متخذا من أُمتي خليلا , لاتخذت أبا بكر خليلا , ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم مساجد, ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك )  

اللهم وفقنا لتحقيق توحيدك, وجنبنا الإشراك بك , واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين . وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .                      

الدرس الثاني: في حقيقة الشرك الأصغر ووجوب اجتنابه

الحمد لله الذي خلقنا لعبادته وأمرنا بتوحيده وطاعته وأنزل بذلك كتبه وأرسل به رسله مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إله الأولين والآخرين وقيوم السموات والأرضين الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد .

وأشهد أنَّ محمدا عبده ورسوله وخيرته من خلقه الذي أرسله الله رحمة للعالمين , أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون أرسله شاهدا ومبشرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا فبلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح للأمة وجاهد في الله حق جهاده حتى دخل الناس في دين الله أفواجا وحتى أتاه اليقين من ربه, وقد ترك أُمته على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين .

إخواني الشرك نوعان أكبر وهو أن يجعل لله شريكا في عبادته يدعوه أو يرجوه أو يحبه كمحبة الله أو يصرف له نوعا من أنواع العبادة, فهذا المشرك الذي حرم الله عليه الجنة ومأواه النار . وقد قدمنا عليه في الدرس الأول.

النوع الثاني : الشرك الأصغر وهو (( كل وسيلة وذريعة يتطرق منها إلى الشرك الأكبر من الإرادات , والأقوال والأفعال التي لم تبلغ رتبة العبادة ))  

وقيل: (( كل ما نهى عنه الشرع مما هو ذريعة إلى الشرك الأكبر ووسيلة إلى الوقوع فيه, وجاء في النصوص تسميته شركاً )) قال تعالى:{ قل إنما أنا بشرٌ مثلكم يوحى إليّ أنما إلاهكم إله واحد فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا} [ الكهف /110]

يقول الله تعالى مخاطبا رسوله صلى الله عليه وسلم قل لهؤلاء المكذبين المشركين برسالتك إنما أنا بشر مثلكم ليس لي من الربوبية ولا من الإلاهية شيء بل ذلك كله لله وحده لا شريك له أوحاه إليّ وإنما أخبركم أنما إلاهكم الذي أدعوكم إلى عبادته إله واحدا فمن كان يرجو لقاء ربه ورؤيته يوم القيامة وجزاءه الصالح فليعمل عملا صالحا, وهو ما كان لله خالصا موافقا لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يُشرك بعبادة ربه أحداً لا يرائي بعمله أحدا .

والآية دلت أن السعادة والخير والفلاح في لقاء الله تبارك وتعالى, وأن لقاء الله يحصل بالعمل الصالح الخالص من الرياء والسمعة.

وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه مرفوعا . ( قال الله تعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملا أشرك معي فيه غيري تركته وشركه )

ولابن ماجة:( فأنا منه بريء وهو للذي أشرك ) ومعنى الحديث:(( أنا غني عن المشاركة وغيرها فمن عمل شيئا لي ولغيري لم أقبله بل أتركه لذلك الغير .

فدل الحديث : أن عمل المرائي باطل لا ثواب فيه بل يأثم به .  

وقد ثبت في مسند الإمام أحمد بسندٍ حسن عن أبي سعيد مرفوعا : (( ألا أخبركم بما هو أخوف عليكم عندي من المسيح الدجال ؟ قالوا بلى . قال : الشرك الخفي يقوم الرجل فيصلي فيزين صلاته لما يرى من نظر رجل إليه )

معنى الحديث : (( إني أخاف عليكم من الرياء أكبر مما أخاف عليكم من فتنة المسيح الدجال )) لأن التخلص من الرياء صعب جدا , ولذلك قال بعض السلف ما جاهدت نفسي على شيء مجاهدتها على الإخلاص .

وفي صحيح البخاري من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أسعد الناس بشفاعتي من قال لا إله إلا الله خالصا من قلبه ) فدل الحديث أنه لا يكفي مجرد اللفظ بها بل لابد من إخلاص وأعمال صالحة يتعبد بها الإنسان لله عز وجل .

وسمي الرياء بالشرك الخفي لأنه عمل القلب الذي لا يعلمه إلا الله , ولأن صاحبه يظهر أن عمله لله, ولأن صاحبه قد قصد به غيره أو أشرك فيه بتزيين صلاته لأجل المخلوق , وهذا شرك أصغر كما قال صلى الله عليه وسلم : ( أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر فسئل عنه فقال الرياء) رواه الإمام أحمد والطبراني والبيهقي.

ويُستفاد من هذا الحديث: شفقة النبي صلى الله عليه وسلم على أُمته ونصحه لهم وخوفه عليهم من الرياء المحبط للعمل الذي يقارنه.

والرياء: مشتق من الرؤية وهو ترك الإخلاص في العمل بملاحظة غير الله فيه, وقيل هو فعل الخير لإرادة الغير, والمراد به إظهار العبادة لقصد رؤية الناس لها فيحمد صاحبها.

والفرق بين الرياء والسمعة أن الرياء لما يُرى من العمل كالصلاة, والسمعة لما يسمع من القول كالقراءة وأنواع الذكر.

قال ابن رجب – رحمه الله – ما حاصله : أن العمل لغير الله أقسام : القسم الأول رياءٌ محض كحال المنافقين, كما قال الله تعالى : { وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءُون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا } [ النساء/ 143]

وهذا الرياء المحض لا يكاد يصدر من مؤمن وهذا العمل لا يشك مسلم أنه حابط وأن صاحبه يستحق المقت من الله والعقوبة.

القسم الثاني العمل لله , ويشاركه الرياء , فإن شاركه من أصله فهو مردود غير مقبول دليله الحديث القدسي قال الله تعالى: ( أنا أغنى الشركاء عن الشرك , من عمل عملا أشرك معي فيه غيري تركته وشركه ) رواه مسلم 

القسم الثالث : أن يكون أصل العمل لله , ثم يطرأُ عليه نية الرياء ولكن لا يسكن إليه بل يعرض عنه ويكرهه فإنه لا يؤثر شيئاً , دليله ما ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: : ( إن الله تجاوز عن أُمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم)

 

القسم الرابع : أن يكون أصل العمل لله , ثم يطرأ عليه نية الرياء ويسكن إليه ولا يعرض عنه ولا يكرهه فإن كانت العبادة لا ينبني آخرها على أولها, فأولها صحيح الذي لم يحصل فيه الرياء, والباطل ما قارنه الرياء .

وإذا كانت العبادة آخرها مبني على أولها ومرتبط به مثل الصلاة فتبطل جميع العبادة.

واعلموا- رحمكم الله- أن المسلم إذا عمل العمل الصالح خالصا لله ثم ألقى له الثناء الحسن في قلوب المؤمنين بذلك؛ ففرح المسلم بفضل الله ورحمته واستبشر بذلك لم يضره هذا وليس من الرياء , ويدل هذا ما صح عن أبي ذر- رضي الله عنه – عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن الرجل يعمل العمل من الخير يحمده الناس عليه, فقال: ( تلك عاجل بشرى المؤمن )

ويسير الرياء من الشرك الأصغر ولذا جاء الوعيد الشديد في حق المرائي فقد ثبت في الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( من راء راء الله به ومن سمّع سمّع الله به )

 وروي ابن أبي حاتم بسندٍ صحيح عن ابن عباس في تفسير قوله تعالى { فلا تجعلوا لله أنداداً وأنتم تعلمون } ] البقرة / 33 [ قال ابن عباس- رضي الله عنه- : الأنداد هو الشرك أخفى من دبيب النمل على صفاة سوداء , في ظلمة الليل , وهو أن يقول : والله وحياتك يافلانة , وحياتي . ويقول : لولا كلبة هذا لآ تانا اللصوص , ولولا البط في الدار لأتى اللصوص .: وقول الرجل لصاحبه : ما شاء الله وشئت وقول الرجل : لولا الله وفلان لا تجعل فيها فلان . فإن هذا كله به شرك .

والشرك الأصغر كالحلف بغير الله يكون شركا أكبر إذا اعتقد أن المحلوف به مساوٍ لله تعالى في التعظيم. ولا يشمل هذا الحلف بصفات الله؛ لأن الصفة تابعة للموصوف , فيجوز أن تقول وعزّة الله لأفعلنّ كذا .

ومن الأدلة على تحريم الحلف بغير الله وأنه شرك ما رواه الإمام أحمد- رحمه الله – بسنده عن سعد بن عبيدة قال كنت جالسا عند عبد الله بن عمر , فجئت سعيد بن المسيّب وتركت عنده رجلاً من كندة فجاء الكندي مروّعاً فقلت : ما وراءك ؟ قال : جاء رجل إلى عبد الله بن عمر آنفاً فقال : أحلف بالكعبة , فقال عبد الله : احلف برب الكعبة فإن عمر كان يحلف بأبيه فقال له النبي صلى الله عليه وسلم :( لا تحلف بأبيك فإنه من حلف بغير الله فقد أشرك ))

ورواه بسندً متصلٍ صحيح من طريق سعد بن عبيدة : سمع ابن عمر رضي الله عنه رجلاً يقول: والكعبة فقال لا تحلف بغير الله فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (( من حلف بغير الله فقد كفر وأشرك ))

وفي مسند الإمام أحمد بسند صحيح من حديث عبد الله بن بريدة عن أبيه قال رسول الله صلى عليه وسلم : (ليس منا من حلف بالأمانة)

ومن أنواع الشرك الأصغر التطير وهو: التشاؤم بمرئي أو مسموع من الطيور أو الأيام ونحو ذلك.

ووجه كونه من الشرك الأصغر لأن المتطير اعتمد على هذا السبب الذي لم يجعله الله سببا, وهذا يضعف التوكل على الله.

لكن إذا اعتقد المتشائم المتطير أن هذا فاعل بنفسه دون الله فهو مشرك شركا أكبر لأنه جعل لله شريكا في الخلق والإيجاد.

ففي الصحيحين عن أنس بن مالك – رضي الله عنه – قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( لا عدوى ولا طيرة ويعجبني الفأل قالوا وما الفأل ؟ قال : الكلمة الطيبة )  وفي المسند عن ابن عباس – رضي الله عنه- يرفعه قال:( كان صلى الله عليه وسلم يتفاءل ولا يتطير , ويعجبه الاسم الحسن ) وعن ابن مسعود- رضي الله عنه – مرفوعا ( الطيرة شرك الطيرة شرك وما منا إلا ولكن الله يذهبه بالتوكل ) رواه الترمذي وجعل آخره مدرج من قول ابن مسعود , ولأبي داود بسند حسن عن عقبة بن عامر قال: ذكرت الطيرة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أحسنها الفأل ولا ترد مسلما فإذا رأى أحدكم ما يكره فليقل اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت ولا يدفع السيئات إلا أنت ولا حول ولا قوة إلا بك .

واعلموا – رحمكم الله – أن الفأل هو الكلمة الطيبة أي الكلام الحسن يسمعه الإنسان فيسره ويقوي رجاؤه وثقته بالله تعالى وهو محمود لأنه ظن حسن بالله.

ومثاله : أن يكون الإنسان مريضا فيسمع رجلا يقول يا سالم فيقع في قلبه أنه يبرأ.

واعلموا – رحمكم الله – أن هناك فروق بين الشرك الأكبر, والشرك الأصغر.

الفرق الأول: أن الشرك الأكبر يحبط جميع الأعمال, والأصغر يحبط العمل الذي قارنه.

الفرق الثاني: أن الأكبر يخلد صاحبه الذي مات عليه في النار, والأصغر لا يخلد صاحبه في النار.

الفرق الثالث: أن الشرك الأكبر ينقل عن الملة, والأصغر لا ينقل عن الملة.

نسأل الله أن يعصمنا من الشرك كبيره وصغيره , ونعوذ بالله أن نشرك به ونحن نعلم ونستغفره لما لا نعلم .     

وصلى الله على نبيّنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم أجمعين  

الدرس الثالث: في وجوب الاعتصام بالكتاب والسنة

الحمد الله رب العالمين والصلاة على نبينا محمد بن عبد الله عليه وعلى آله أفضل الصلاة وأزكى التسليم , ماترك خيراً إلا دل الأمة عليه ,ولا شرا إلا حذر منه أما بعد قال الله عزّ وجل: { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممتُ عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً } ] المائدة/ 3 [  لما نزلت هذه الآية وذلك يوم الحج الأكبر بكى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال له النبي صلى الله عليه وسلم ( ما يبكيك ؟ قال : أبكاني أنا كنا في زيادة من ديننا فأما إذا أكمل فإنه لم يكمل شيء إلا نقص ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم ( صدقت ) ويشهد لهذا المعنى الحديث الثابت ( إن الإسلام بدأ غريباً ، وسيعود غريباً ، فطوبا  للغرباء ) قاله ابن كثير رحمه الله 0

وقد استدل أهل السنة والجماعة بقوله عز وجل : ( اليوم أكملت لكم دينكم} [ المائدة/ 3 ] على زيادة الإيمان ونقصانه ، قال البخاري – رحمه الله – وقال الله عز وجل: { اليوم أكملت لكم دينكم } فإذا تُرك شيئاً من الكمال فهو ناقص0وقال الله عز وجل : { قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم } [ آل عمران /30 ] قال الحسن : ادعى قوم أنهم يحبون الله فانزل الله هذه الآية محنةً لهم 0

وهذه الآية فيها دليل على أن من أدعى ولاية الله ومحبته ولم يتبع سنه رسوله صلى الله عليه وسلم فليس من أولياء الله بل من أولياء الشيطان 0وفيها علامة ودليل محبة الله عز وجل أتباع سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، وفيها أثبات المحبه من الجانبين فمحبه الله لأنبيائه ورسله وعباده الصالحين صفه زائدة على رحمته وإحسانه 0

وقال عز وجل : { وإني لغفار لمن تاب وءامن وعمل صالحاً ثم أهتدى} [ طه /83]

قال: سعيد بن جبير في تفسير قوله تعالى (( ثم أهتدى )) أي استقام على السنة والجماعة وروى نحوه عن مجاهد والضحاك وغير واحد من السلف 0

وقال عز وجل: { وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون } [ الأنعام/ 53 }

ففي الآية الوصية باتباع سنة الرسول صلى الله عليه وسلم لأن من أطاع الرسول فقد أطاع الله عز وجل ، فوحد لفظ الصراط وسبيله وجمع السبل المخالفة له 0

وهذا لأن الطريق الموصل إلى الله واحد وهو ما بعث به رسوله وأنزل به كتبه 0

وقد ثبت عن ابن مسعود – رضي الله عنه – في حديث حسن بطرقه أنه قال ( خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطاً وقال هذا سبيل الله ثم خط خطوطاً عن يمينه وعن يساره وقال : هذه سبل على كل سبيل شيطان يدعو إليه ثم قرأ قوله تعالى : { وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه 0000 ألأيه } )

وقال عز وجل: { وعلى الله قصد السبيل ومنها جآئرٌٌ ولو شاء لهداكم أجمعين } [ النحل / 9 ]

والسبيل القاصد في الآية هو المستقيم المعتدل يرجع إلى الله ويوصل إليه.

وفي تفسير ابن أبي حاتم عن ابن عباس في تفسير قوله عز وجل (( وعلى الله قصد السبيل )) يقول: على الله أن يبين الهدى والضلالة (( ومنها جائر )) قال السبل المتفرقة 0

وقد أوصى النبي صلى الله عليه وسلم بإتباع سنته وسنة الخلفاء الراشدين من بعده ، فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم من حديث العرباض بن سارية – رضي الله عنه – قال : ( وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة ذرفت منها العيون ووجلت منها القلوب ، فقلنا يا رسول الله إن هذه لموعظة مودع فما تعهد إلينا ؟ قال : قد تركتم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها ، لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك ، من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيراً  ، فعليكم بما عرفتم من سنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين ، عضوا عليها بالنواجذ ، وعليكم بالطاعة وإن عبداً حبشياً فإنما المؤمن كالجمل الأنف حيث  ما أُنقيد انقاد  ) ففي هذا الحديث الصحيح أوصى رسول الله صلى عليه وسلم باتباع سنة الخلفاء الراشدين وهم الخلفاء الأربعة بالإجماع : أبو بكر , وعمر وعثمان , وعلي – رضي الله عنهم – كما في حديث سفينة – رضي الله عنه – قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم- : ( خلافة النبوة ثلاثون سنة ًثم يؤتي الله الملك من يشاء ) رواه أبو داود بسندٍ صحيح . قال العلماء: مدة خلافة أبي بكر سنتان وثلاثة أشهر وعشرة أيام , ومدة خلافة عمر – رضي الله عنه- عشر سنين وستة أشهر وثمانية أيام , ومدة خلافة عثمان أحد عشر سنة وأحد عشر شهرا وتسعة أيام , ومدة خلافة علي – رضي الله عنه – أربع سنين وتسعة أشهر وسبعة أيام , فالمجموع ثلاثون سنة .

وصح عنه- صلى الله عليه وسلم- من حديث العرباض بن سارية – رضي الله عنه – في رواية الترمذي أنه قال : ( وإياكم ومحدثات الأمور, فإن كل بدعة ضلالة ) فقوله صلى الله عليه وسلم من جوامع الكلم لا يخرج عنه شيء , فدل الحديث على أن جميع البدع في الدين مذمومة وهو أصل من أُصول الدين , ومثله ما صح عن النبي – صلى الله عليه وسلم- أنه قال: ( من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد ) وفي رواية صحيحة ( من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد ) فكل من أحدث شيئا ونسبه إلى الدين ولم يكن له أصل من الدين يرجع إليه فهو ضلالة والدين بريء منه , وسواء في ذلك مسائل الاعتقادات أو الأعمال أو الأقوال الظاهرة والباطنة, وتحذير الرسول – صلى الله عليه وسلم-  من البدع يدل على وجوب اجتنابها ففي صحيح مسلم وغيره عن جابر بن عبد الله – رضي الله عنهما- قال كان رسول الله– صلى الله عليه وسلم-  إذا خطب احمرت عيناه , وعلا صوته واشتد غضبه – كأنه منذر جيش – يقول : صبحكم مسّاكم , ويقول : ( أما بعد : فإن خير الأمور كتاب الله , وخير الهدي هدي محمد , وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة ) وحذر رسول الله – صلى الله عليه وسلم- من أهل البدع من هذه الأمة كما في الصحيحين واللفظ لمسلم قال– صلى الله عليه وسلم- : ( فإذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمّى الله فاحذروهم ) والذين يتبعون المتشابه هم أهل البدع ولهذا يسمون أهل الشبهات . وروى مسلم في مقدمة صحيحه عن أبي هريرة – رضي الله عنه- قال : قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم- :( سيكون في آخر أمتي أُناس يحدثونكم بما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم فإياكم وإياهم)

وفيه أيضا من حديث ابن مسعود : قال رسول الله-  صلى الله عليه وسلم- : ( ما بعث الله من نبي إلا كان له من أُمته حواريون وأنصار , يستنون بسنته ويتبعون هديه , ثم يخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون , ويفعلون ما لا يؤمرون فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل ) وأمر صلى الله عليه وسلم باعتزال أهل البدع كما في حديث حذيفة المتفق عليه , وفيه قال صلى الله عليه وسلم : ( فاعتزل تلك الفِرق كلها ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدرك الموت وأنت على ذلك) والفرق المذكورة في هذا الحديث هي الفرق الاثنتان والسبعون الهالكة مع أنها من الأمة ولم تخرج عن دائرة الإسلام . وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم باعتزالها كلها.

وقد أخبر صلى الله عليه وسلم في حديث افتراق الأمة أن الفِرق المخالفة لسنته ستكون في أمته حيث صح عنه أنه قال صلى الله عليه وسلم: (( افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة وتفرقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة, وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلهم في النار إلا واحدة .) وفي رواية قالوا: من هي يا رسول الله ؟ قال : (( ما أنا عليه وأصحابي ) وصح في مسند أحمد من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – قال : قيل للنبي - صلى الله عليه وسلم- يا رسول الله ؛ أي الناس خير ؟ قال : ( أنا ومن معي ) قال : فقيل له : ثم من يارسول الله ؟ قال : ( الذي على الأثر ) قيل له : ثم من يا رسول الله ؟ قال : ( فرفضهم ) .

فالأصل الحذر واعتزال الفرق المخالفة للسنة الهالكة دل على هذا ما سبق ذكره من النصوص الخاصة في معاملة أهل البدع من هذه الأمة .

وهذا ما كان عليه الصحابة – رضي الله عنهم – ومن اتبعهم بإحسان ممن بعدهم وإليك بعض الآثار عنهم . فقد صح عن الخليفة الراشد عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – أنه أمر بهجر صبيغ بن عسل لمّا خشي أنه من الخوارج قال أبو عثمان النهدي: فلو جاء ونحن مائة تفرقنا ) .

وروى الدار مي في سننه عن ابن عمر – رضي الله عنهما – أنه جاء رجل فقال : إن فلانا يقرأ عليك السلام , فقال ابن عمر : بلغني أنه قد أحدث , فإن كان قد أحدث فلا تقرأ عليه السلام .

وقال ابن عباس - رضي الله عنهما- لا تجالس أهل الأهواء فإن مجالستهم ممرضة للقلوب .

وكتب عمر بن عبد العزيز – رحمه الله – رسالة إلى عدي بن أرطأة يقول فيها : أما بعد: فإني أحمد الله إليك الذي لا إله إلا هو .

أما بعد : فإني أوصيك بتقوى الله وطاعته في أمره واتباع سنة نبيه صلى الله عليه وسلم وترك ما أحدث المحدثون , فعليك بلزوم السنة , فإن السنة إنما سنها من عرف ما في خلافها من الخطأ والزلل والحمق والتعمق , فارض لنفسك ما رضي به القوم لأنفسهم , فإنهم عن علم وقفوا , وببصر نافذ  فكفوا . وعن أبي قلابة قال : لا تجالسوا أهل الأهواء ولا تجادلوهم , فإني لا آمن أن يغمسوكم في ضلالتهم أو يلبسوا عليكم ما تعرفون .

وقال إبراهيم النخعي : لا تجالسوا أهل الأهواء فإن مجالستهم تذهب بنور الإيمان من القلوب , وتسلب محاسن الوجوه وتورث البغضة في قلوب المؤمنين .

وعن عمر بن قيس الملائي قال : لا تجالس صاحب زيغ فيزيغ قلبك .

وقال مجاهد : لا تجالس أهل الأهواء فإن لهم عرّة كعرّة الجرب .

وقال إسماعيل بن عبيد الله : لا تجالس ذا بدعة فيمرض قلبك , ولا تجالس مفتونا فإنه ملقن حجته.

وقال الإمام أحمد بن حنبل : أهل البدع ما ينبغي لأحد أن يجالسهم , ولا يخالطهم , ولا يأنس بهم .

وقال مفضل بن مهلهل : لو كان صاحب البدعة إذا جلست إليه يحدثك ببدعته حذرته وفررت منه , ولكنه يحدثك بأحاديث السنة في بدء مجلسه ثم يدخل عليك ببدعته فلعلها تلزم قلبك فمتى تخرج من قلبك .

وعن هشام قال : كان الحسن ومحمد بن سيرين يقولان: لا تجالسوا أصحاب الأهواء ولا تجادلوهم ولا تسمعوا منهم .

وسأل رجل بكر بن عياش – رحمه الله – قال : من السني ؟ قال : الذي إذا ذكرت الأهواء لم يغضب لشيء منها .

وعن عقبة بن علقمة قال : كنت عند أرطأة بن المنذر فقال : بعض أهل المجلس : ما تقولون في الرجل يجالس أهل السنة ويخالطهم , فإذا ذكر أهل البدع قال : دعونا من ذكرهم لا تذكروهم قال : يقول أرطأة : هو منهم لا يلبس عليكم أمره قال : فأنكرت ذلك من قول أرطأة قال : فقدمت على الأوزاعي , وكان كشّافا لهذه الأشياء إذا بلغته فقال : صدق أرطأة والقول ما قال , هذا ينهى عن ذكرهم , ومتى يحذروا إذا لم يشد بذكرهم .

 ولما قدم سفيان الثوري البصرة , جعل ينظر إلى أمر الربيع – يعني ابن صبيح – وقدره عند الناس , سأل سفيان أي شيء مذهبه ؟

قالوا ما مذهبه إلا السنة , قال من بطانته ؟ قالوا أهل القدر . قال: هو قدري .  

وقال الأوزاعي – رحمه الله –: من ستر علينا بدعته لم تَخْفَ علينا أُلفته.

وقال محمد بن عبيد الغلابي : يتكاتم أهل الأهواء كل شيء إلا التآلف والصحبة .

وقال قتادة : إنا والله ما رأينا الرجل يُصاحب من الناس إلا مثله وشكله , فصاحب الصالحين من عباد الله لعلكم أن تكونوا معهم أو مثلهم .  

 

نسأل الله أن يجعلنا من المتمسكين بسنة نبيه وأن يجنبنا البدع وأهل البدع هذا والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الدرس الرابع: حق الوالدين على أولادهم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد :

قال الله عز وجل: { واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحسانا } [ النساء / 36  ] وقال تعالى :{ وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين احساناإما يبلغن عندك الكبرأحدهما أوكلاهما فلا تقل لهما أُف ٍولاتنهرهما وقل لهما قولاً كريما , واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا } ] الإسراء / 23 – 24[  وقال تعالى : ( ووصينا الإنسان بوالديه حُسنا ) ] العنكبوت / 8 [ كل هذه الآيات وغيرها  تدل على عظم حق الوالدين وهما الأب والأم . وبر الوالدين من أفضل الأعمال , بل هو الحق الثاني بعد حق الله ورسوله صلى الله عليه وسلم . ففي الصحيحين عن ابن مسعود - رضي الله عنه – قال سألت النبي صلى الله عليه وسلم : أي العمل أحب إلى الله تعالى ؟ قال : (( الصلاة على وقتها , قلت ثمّ أي ؟ قال: (( بر الوالدين )) قلت ثم أي ؟ قال (( الجهاد في سبيل الله )) فجعل النبي صلى الله عليه وسلم البر بالوالدين مقدم على الجهاد في سبيل الله وفي هذا دليل على فضل بر الوالدين , ويكون البر بهما بالقول والفعل والمال بقدر الاستطاعة والمبالغة في خدمتهما واستعمال الأدب معهما فلا يرفع الولد صوته على صوتهما , ويصبر على ما يكرهه مما يصدر عنهما وفي الصحيحين عن عبدالله بن عمرو قال : جاء رجل يستأذن النبي صلى الله عليه وسلم في الجهاد , فقال له النبي صلى الله عليه وسلم أحيٌّ والداك ؟ قال : نعم , قال ففيهما فجاهد .

وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال لرجل ٍ يستأذنه بالجهاد : (( ألك والده قال نعم قال الزمها فإن عند رجليها الجنة ))  وفي صحيح مسلم أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يبايعه على الهجرة وترك أبويه يبكيان فقال : ((ارجع إليهما وأضحكهما كما أبكيتهما )) وفي الصحيحين عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال : جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يارسول الله من أحق الناس بحسن صحابتي ؟ قال : (( أمك )) قال : ثم من ؟ قال : (( أمك )) قال : ثم من ؟ قال : (( أمك )) قال: ثم من ؟ قال :(( أبوك )) .

وصح عنه صلى الله عليه وسلم من حديث أبي الدرداء قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (( إن الوالده أوسط أبواب الجنة فإن شئت فأمسك , وإن شئت فدع))  وصح عنه صلى الله وسلم من حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده – رضي الله عنه -  قال : يارسول الله من أبر ؟ قال (( أمك )) قلت : من أبر ؟ قال : (( أمك )) قلت : من أبر ؟ قال : (( أباك ثم الأقرب فالأقرب )) .

وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (( رغم أنفه , رغم أنفه , رغم أنفه)) قالوا : يا رسول الله من ؟ قال : ((  من أدرك والديه عند الكبر أوأحدهما فدخل النار )) رواه مسلم .

وعن أبي بردة أنه شهد ابن عمر – رضي الله عنه - ورجل يماني يطوف بالبيت يحمل اليماني أمه وراء ظهره ويقول :

        إني لها بعيرها المذلل   ***   إن أُذعرت ركابها لم أُذعر

قال : ياابن عمر أتُراني جزيتُها ؟ قال : لا ولا بزفرة واحدة .

رواه البخاري في الأدب المفرد وهو صحيح .

وضد البر بهما عقوق الوالدين , وهو من كبائر الذنوب فعن أبي بكرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ثلاثا ؟ً قالوا: بلى يا رسول الله قال: (( الإشراك بالله وعقوق الوالدين, وجلس وكان متكئاً ألا وقول الزور )) ومازال يكررها حتى قلت: ليته سكت.

وفي صحيح مسلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( لعن الله من لعن والديه ))

الدرس الخامس: الحديث عن الركن الثاني بعد الشهادتين

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

وبعد : الصلاة عبادة معلومة مفتتحة بالتكبير مختتمة بالتسليم وهي آكد أركان الإسلام بعد الشهادتين , لحديث عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : (( بني الإسلام على خمس : (( شهادة أن لا إله إلا الله , وأن محمدا عبده ورسوله , وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة , وحج البيت , وصوم رمضان )) رواه البخاري ومسلم . وهي صلة بين العبد وربه ؛ لأن العبد يقوم بين يدي الله عز وجل يناجيه يقول : { الحمد لله رب العالمين } فيقول الله عز وجل : (( حمدني عبدي )) , {الرحمن الرحيم } فيقول الله عز وجل : ((أثنى عليّ عبدي )) , { مالك يوم الدين�

nassimbishra

اصبر على كيد الحسود فإن صبرك قاتله

  • Currently 31/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
11 تصويتات / 340 مشاهدة
نشرت فى 1 أغسطس 2011 بواسطة nassimbishra

ساحة النقاش

نسيم الظواهرى بشارة

nassimbishra
موقع تعليمى إسلامى ، نهدف منه أن نساعد أبناءنا الطلاب فى كافة المراحل التعليمية ، وكذلك زملائى الأعزاء من المعلمين والمعلمات ، وموقع إسلامى لتقديم ما يساعد إخواننا الخطباء بالخطب المنبرية ، والثقافة الإسلامية العامة للمسلمين ، ونسال الله سبحانه وتعالى الإخلاص فى القول والعمل ، ونسألكم الدعاء »

تسجيل الدخول

ابحث

عدد زيارات الموقع

1,062,043

ملحمة التحرير