<!--<!--<!--

 

 

إتحاف أهل الإيمان بدروس شهر رمضان

 

الشيخ صالح بن فوزان الفوزان

 

المقدمـــة

الحمد لله الذي شرع لعباده صيام شهر رمضان وجعله أحد أركان الإسلام، والصلاة والسلام على نبينا محمد أفضل من صلى وصام وعلى آله وأصحابه البررة الكرام، وبعد:

فهذه دروس تتضمن التذكير بفضائل هذا الشهر المبارك والحث على الجد والاجتهاد فيه، واغتنام أيامه ولياليه مع الإشارة إلى بعض الأحكام الفقهية المتعلقة بالصيام والقيام، قصدت بكتابتها تذكير نفسي وإخواني سائلا الله أن ينفع بها من كتبها ومن قرأها ومن سمعها من المسلمين وأن يغفر لي ما وقع فيها خطأ أو تقصيرا... وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.

الدرس الأول: في بيان متى فُرض صوم شهر رمضان على الأمة؟

الحمد لله ذي الفضل والإنعام، شرع الصيام لتطهير النفوس من الآثام، والصلاة والسلام على نبينا محمد، خير من صلى وصام، وداوم على الخير واستقام، وعلى آله وأصحابه ومن اقتدى به على الدوام، أما بعد:

قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون} [البقرة 183].

والآيات بعدها، فقد ذكر الله سبحانه في هذه الآيات الكريمة أنه كتب الصيام على هذه الأمة كما كتب على من قبلها من الأمم، وكتب بمعنى فرض فالصيام مفروض على هذه الأمة وعلى الأمم قبلها.

قال بعض العلماء في تفسير هذه الآية: عبادة الصيام مكتوبة على الأنبياء وعلى أممهم من آدم إلى آخر الدهر.

وقد ذكر الله ذلك لأن الشيء الشاق إذا عم سهل فعله على النفوس وكانت طمأنينتها به أكثر.

فالصيام إذا فريضة على جميع الأمم، وإن اختلفت كيفيته ووقته، قال سعيد بن جبير: كان صوم من قبلنا من العتمة إلى الليلة القابلة، كما كان في ابتداء الاسلام، وقال الحسن: كان صوم رمضان واجبا على اليهود، لكنهم تركوه وصاموا يوما في السنة زعموا أنه يوم غرق فرعون وكذبوا في ذلك، فإن ذلك اليوم يوم عاشوراء، وكان الصوم أيضا واجبا على النصارى لكنهم بعد أن صاموا زمانا طويلا صادفوا فيه الحر الشديد فكان يشق عليهم في أسفارهم ومعايشهم، فاجتمع رأي علمائهم ورؤسائهم على أن يجعلوا صيامهم في فصل من السنة بين الشتاء والصيف فجعلوه في الربيع، وحولوه إلى وقت لا يتغير، ثم قالوا عند التحويل: زيدوا فيه عشرة أيام كفارة لما صنعوا، فصار أربعين.

وقوله تعالى {لعلكم تتقون}: أي بسبب الصوم، فالصوم يسبب التقوى لما فيه من قهر النفس وكسر الشهوات، وقوله تعالى {فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين} قيل هي أيام من غير رمضان وكانت ثلاثة أيام، وقيل هي أيام رمضان، لأنه بينها في الآية التي بعدها بقوله {شهر رمضان}.

قالوا: وكانوا في أول الإسلام مخيرين بين الصوم والفدية لقوله تعالى {وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين فمن تطوع خيرا فهو خير له وأن تصوموا خير لكم} [البقرة 184] ثم نسخ التخيير بإيجاب الصوم عينا بقوله {فمن شهد منكم الشهر فليصمه} [البقرة 185]، وحكمة ذلك التدرج في التشريع والرفق بالأمة لأنهم لما لم يألفوا الصوم كان تعيينه عليهم ابتداء فيه مشقة، فخيروا بينه وبين الفدية أولا، ثم لما قوي يقينهم واطمأنت نفوسهم وألفوا الصوم وجب عليهم الصوم وحده، ولهذا نظائر في شرائع الإسلام الشاقة، فهي تشرع بالتدريج، لكن الصحيح أن الآية منسوخة في حق القادر على الصيام، وأما في حق العاجز عن الصيام لكبر أو مرض لا يرجى برؤه فالآية لم تنسخ في حقهم، فلهم أن يفطروا ويطعموا عن كل يوم مسكينا، وليس عليهم قضاء.

أما غيرهم فالواجب عليهم الصوم، فمن أفطر لمرض عارض أو سفر فإنه يجب عليه القضاء لقوله تعالى {فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر} [البقرة 185] وقد فرض صيام شهر رمضان في السنة الثانية من الهجرة وصام رسول الله صلى الله عليه وسلم تسعة رمضانات وصار صوم رمضان حتما وركنا من أركان الإسلام من جحد وجوبه كفر، ومن أفطر من غير عذر وهو مقر بوجوبه فقد فعل ذنبا عظيما يجب تعزيره وردعه وعليه التوبة إلى الله، وقضاء ما أفطر.

هذا وبالله التوفيق وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.

الدرس الثاني: في بيان ما يثبت به دخول شهر رمضان المبارك

الحمد لله الذي جعل الأهلة مواقيت للناس، والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه ومن تبعهم بإحسان، أما بعد:

قال الله تعالى: {فمن شهد منكم الشهر فليصمه} [البقرة 185] فقد أوجب الله سبحانه في هذه الآية على عباده صوم شهر رمضان كله من أوله إلى آخره، وأوله يعرف بأحد أمرين:

الأمر الأول:

رؤية هلاله لما رواه الشيخان وغيرهما عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا رأيتم الهلال فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا فإن غم عليكم فاقدروا له" [أخرجه البخاري رقم 1900، ومسلم رقم 1080/8].

وروى الإمام أحمد والنسائي عن ابن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى تروه" [أخرجه البخاري رقم 1906، ومسلم رقم 1080/3، واللفظ لهما وفيه عندهما زيادة وهي الجملة الأخيرة في الحديث السابق وهي قوله "فإن غم عليكم فاقدروا له" كما في البخاري "فإن أغمى عليكم فاقدروا له" وهي عند مسلم]، وروى الطبراني عن طلق بن علي رضي الله عنه: "أن الله جعل هذه الأهلة مواقيت فإذا رأيتموه فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا" [أخرجه الطبراني في معجمه الكبير 8/397 رقم 8237].

وروى الحاكم عن ابن عمر رضي الله عنهما: "جعل الله الأهلة مواقيت للناس فصوما لرؤيته وأفطروا لرؤيته" [أخرجه الحاكم في المستدرك 1/423 وأحمد في المسند 4/ 23 والدارقطني في سننه 2/163 وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي].

ففي هذه الأحاديث الشريفة تعليق وجوب صوم رمضان برؤية هلاله، والنهي عن الصوم بدون رؤية الهلال، وأن الله جعل الأهلة مواقيت للناس بها يعرفون أوقات عبادتهم ومعاملاتهم، كما قال تعالى: {يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج} [البقرة 189] وهذا من رحمة الله بعباده وتيسيره لهم، حيث علق وجوب الصيام بأمر واضح وعلامة بارزة يرونها بأعينهم، وليس من شرط ذلك أن يرى الهلال كل الناس بل إذا رآه بعضهم ولو كان شخصا واحدا لزم الناس كلهم الصيام.

قال ابن عباس: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني رأيت الهلال، يعني هلال رمضان، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أتشهد أن لا إله إلا الله" قال: نعم، قال: "يا بلال أذن في الناس أن يصوموا غدا" رواه أبو داود.

وروى أيضا عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "تراءى الناس الهلال فأخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم، إني رأيته فصام وأمر الناس بصيامه" [أخرجه أبو داود رقم 2342].

الأمر الثاني:

مما يثبت به دخول شهر رمضان إذا لم يُر الهلال إكمال عدة شعبان ثلاثين يوما، قال عليه الصلاة والسلام: "فإن غم عليكم فاقدروا له" متفق عليه، ومعنى "غم عليكم" أي إذا غطى الهلال شيء حال دون رؤيته ليلة الثلاثين من شعبان ـ من غيم أو قتر، فقدروا عدد شهر شعبان تاما بأن تكملوه ثلاثين يوما، كما يدل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر: "فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين" متفق عليه، ومعنى هذا تحريم صوم يوم الشك وقد قال عمار بن ياسر رضي الله عنه: "من صام اليوم الذي يشك فيه فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم" [أخرجه أبو داود رقم 2334 والترمذي 686 والنسائي 2190 وابن ماجه 1645 وقال أبو عيسى الترمذي: حسن صحيح].

 

فالواجب على المسلم اتباع ما جاء عن الله ورسوله في صيامه وفي عبادته كلها، وقد حدد الله ورسوله معرفة دخول شهر رمضان بإحدى علامتين ظاهرتين يعرفهما العامي والمتعلم: رؤية الهلال أو إكمال عدة شعبان ثلاثين يوما، فمن جاء بشيء يزعم أنه يجب به الصوم غير ما بينه الشارع فقد عصى الله ورسوله [وزاد على ما شرعه الله ورسوله وابتدع في الدين ماليس منه "وكل بدعة ضلالة"] كالذي يقول إنه يجب العمل بالحساب الفلكي في دخول شهر رمضان، هذا مع أن الحساب عرضة للخطأ وهو أمر خفي لا يعرفه كل أحد.

 

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "إني رأيت الناس في شهر صومهم وفي غيره أيضا منهم من يصغي إلى ما يقوله بعض الجهال أهل الحساب من أن الهلال يرى أو لا يرى، ويبني على ذلك إما في باطنه وإما في باطنه وظاهره حتى بلغني أن من القضاة من كان يرد شهادة العدد من العدول لقول الحاسب الجاهل الكاذب أنه يرى أو لا يرى فيكون ممن كذّب بالحق لما جاءه" إلى أن قال: "فإنا نعلم بالاضطرار من دين الاسلام أن العمل في رؤية هلال الصوم أو الحج أو العدة أو الايلاء أو غير ذلك من الأحكام المعلقة بالهلال بخبر الحاسب أنه يرى أو لا يرى لا يجوز، والنصوص المستفيضة عن النبي صلى الله عليه وسلم بذلك كثيرة، وقد أجمع المسلمون عليه ولا يعرف فيه خلاف قديم أصلا ولا خلاف حديث" انتهى [فتاوى شيخ الاسلام 25 / 131، 132].

وفي هذا مشقة على الأمة وحرج، وقد قال الله تعالى: {وما جعل عليكم في الدين من حرج} [الحج 78] فالواجب على المسلمين الاقتصار على ما شرعه الله ورسوله، كما يجب على المسلمين الاقتصار على ما شرعه الله في غير شأن الهلال، والتعاون على البر والتقوى، والله ولي التوفيق.

الدرس الثالث: في فضائل شهر رمضان وما ينبغي أن يستقبل به

الحمد لله أهل علينا شهر الصيام، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه، كانوا يفرحون بحلول شهر الصيام والقيام، أما بعد:

فإن الله سبحانه وتعالى اختص شهر رمضان من بين الشهور بفضائل عديدة، وميزه بميزات كثيرة، قال تعالى: {شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر} [البقرة 185].

ففي هذه الآية الكريمة ذكر الله لشهر رمضان ميزتين عظيمتين:

الميزة الأولى: إنزال القرآن فيه، لأجل هداية الناس من الظلمات إلى النور وتبصيرهم بالحق من الباطل بهذا الكتاب العظيم، المتضمن لما فيه صلاح البشرية وفلاحها، وسعادتها في الدنيا والآخرة.

الميزة الثانية: إيجاب صيامه على الأمة المحمدية حيث أمر الله بذلك في قوله: {فمن شهد منكم الشهر فليصمه} [البقرة 185].

وصيام رمضان هو أحد أركان الإسلام، وفرض من فروض الله معلوم من الدين بالضرورة وإجماع المسلمين، من أنكره فقد كفر، فمن كان حاضرا صحيحا وجب عليه صوم الشهر أداء، كما قال الله تعالى: {فمن شهد منكم الشهر فليصمه} [البقرة 185] فتبين أنه لا مناص من صيام الشهر، إما أداء وإما قضاء، إلا في حق الهرم الكبير، والمريض المزمن ـ اللذين لا يستطيعان الصيام قضاء ولا أداء فلهما حكم آخر سيأتي بيانه إن شاء الله.

ومن فضائل هذا الشهر ما بينه النبي صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الصحيحة كما جاء في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا جاء رمضان فُتحت أبواب الجنة وغُلّقت أبواب النار وصُفدت الشياطين" [أخرجه البخاري 1898، 1899، ومسلم 1079].

فدل هذا الحديث على مزايا عظيمة لهذا الشهر المبارك:

الأولى: أنه تفتح فيه أبواب الجنة، وذلك لكثرة الأعمال الصالحة التي تشرع فيه، والتي تسبب دخول الجنة، كما قال تعالى: {ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون} [النحل 32].

الثانية: إغلاق أبواب النار في هذا الشهر، وذلك لقلة المعاصي التي تسبب دخولها، كما قال تعالى: {فأما من طغى * وآثر الحياة الدنيا * فإن الجحيم هي المأوى} [النازعات 37 ـ 39 ] وقال تعالى: {ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبدا} [الجن: 23].

الثالثة: أنه تصفد فيه الشياطين، أي تغل وتوثق، فلا تستطيع إغواء المسلمين وإغراءهم بالمعاصي، وصرفهم عن العمل الصالح، كما كانت تفعل في غير هذا الشهر، ومنعها في هذا الشهر المبارك من مزاولة هذا العمل الخبيث إنما هو رحمة بالمسلمين لتتاح لهم الفرصة لفعل الخيرات وتكفير السيئات.

ومن فضائل هذا الشهر المبارك أنه تضاعف فيه الحسنات، فروي أن النافلة تعدل فيه أجر الفريضة، والفريضة تعدل فيه أجر سبعين فريضة، ومن فطر فيه صائما كان مغفرة لذنوبه وعتق رقبته من النار، وكان له مثل أجر ذلك الصائم من غير أن ينقص من أجره شيء، وكل هذه خيرات وبركات ونفحات تحل على المسلمين بحلول هذا الشهر المبارك، فينبغي للمسلم أن يستقبل هذا الشهر بالفرح والغبطة والسرور ويحمد الله على بلوغه ويسأله الإعانة على صيامه وتقديم الأعمال الصالحة فيه، إنه شهر عظيم، وموسم كريم، ووافد مبارك على الأمة الإسلامية، نسأل الله أن يمنحنا من بركاته ونفحاته.. إنه سميع مجيب، والحمد لله رب العالمين.

الدرس الرابع: بيان ما ينبغي أن تشغل به أوقات رمضان المبارك

الحمد لله على فضله وإحسانه، تفضل علينا ببلوغ شهر رمضان، ومكننا فيه من الأعمال الصالحة التي تقربنا إليه، والصلاة والسلام على نبينا محمد كان أول سابق إلى الخيرات، وعلى آله وأصحابه الذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه، أولئك هم المفلحون.. أما بعد:

فأوصيكم ونفسي في هذا الشهر المبارك بتقوى الله، وفي غيره من الشهور، ولكن هذا الشهر له مزية خصه الله بها، فهو موسم الخيرات، وقد روي أنه صلى الله عليه وسلم كان يدعو الله ببلوغ رمضان، فكان يقول إذا دخل شهر رجب: "اللهم بارك لنا في رجب وشعبان وبلغنا رمضان" [ أخرجه البيهقي في شعب الايمان 7/398 رقم 3534، والبزار في مسنده 1/294ـ295 رقم 616 ـ كشف الأستار، وأبو نعيم في الحلية 6/269، وابن عساكر كما في كنز العمال رقم 18049 وضعفه الألباني في ضعيف الجامع رقم 4395 وكذا ضعفه محقق الشعب].

وروي أنه صلى الله عليه وسلم كان يبشر أصحابه بقدومه، ويبين لهم مزاياه، فيقول: "أيها الناس قد أظلكم شهر عظيم مبارك" [فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتاكم رمضان شهر مبارك، فرض الله عز وجل عليكم صيامه، تفتح فيه أبواب السماء وتغلق فيه أبواب الجحيم، وتغل فيه مردة الشياطين، لله فيه ليلة خير من ألف شهر، من حرم خيرها فقد حرم"  أخرجه أحمد 2/230، 425 وعبد بن حميد في المنتخب رقم 1429 والنسائي 4 / 129]..

ويحث أصحابه على الاجتهاد فيه بالأعمال الصالحة من فرائض ونوافل، من صلوات وصدقات، وبذل معروف وإحسان، وصبر على طاعة الله، وعمارة نهاره بالصيام، وليله بالقيام، وساعاته بتلاوة القرآن وذكر الله عز وجل، فلا تضيعوه بالغفلة والإعراض كحال الأشقياء الذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم، فلا يستفيدون من مرور مواسم الخير ولا يعرفون لها حرمة، ولا يقدرون لها قيمة، كثير من الناس لا يعرفون هذا الشهر إلا أنه شهر لتنويع المآكل والمشارب، فيبالغون في إعطاء نفوسهم ما تشتهي، ويكثرون من شراء الكماليات من الأطعمة والأشربة، ومعلوم أن الإكثار من المآكل والمشارب يكسل عن الطاعة، والمطلوب من المسلم أن يقلل من الطعام والشراب حتى ينشط للطاعة، وبعض من الناس لا يعرف شهر رمضان إلا أنه شهر النوم في النهار والسهر في الليل على ما لا فائدة فيه أو ما فيه مضرة، فيسهر معظم ليله أو كله ثم ينام النهار حتى عن الصلوات المفروضة فلا يصلي مع الجماعة ولا في أوقات الصلاة، وفئة من الناس تجلس على مائدة الإفطار تترك صلاة المغرب مع الجماعة، هذه الفئات من الناس لا تعرف لشهر رمضان قيمة، ولا تتورع عن انتهاك حرمته بالسهر الحرام، وترك الواجبات، وفعل المحرمات، وإلى جانب هؤلاء جماعة لا يعرفون شهر رمضان إلا أنه موسم للتجارة، وعرض السلع وطلب الدنيا العاجلة، فينشطون على البيع والشراء فيلازمون الأسواق ويهجرون المساجد، وإن ذهبوا إلى المساجد فهم على عجل ومضض لا يستقرون فيها، لأن قرة أعينهم في الأسواق، وصنف آخر من الناس لا يعرف شهر رمضان إلا أنه وقت للتسول في المساجد والشوارع فيمضي معظم أوقاته بين ذهاب وإياب وتجوال هنا وهناك وانتقال من بلد إلى بلد لجمع المال عن طريق السؤال، وإظهار نفسه بمظهر المحتاج وهو غني، وبمظهر المصاب في جسمه وهو سليم، يجحد نعمة الله عليه بالغنى والصحة، ويأخذ المال بغير حقه، ويضيع وقته الغالي فيما هو مضرة عليه فما بقي لرمضان من مزية عند هذه الفئات.

عباد الله لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يجتهد في هذا الشهر أكثر مما يجتهد في غيره، وإن كان عليه الصلاة والسلام مجدا في العبادة في جميع أوقاته فكان يتفرغ في هذا الشهر من كثير من المشاغل التي هي في الحقيقة عبادة، لكنه يتفرغ من العمل الفاضل لما هو أفضل منه، وكان السلف الصالح يقتدون به في ذلك فيخصون هذا الشهر بمزيد اهتمام ويتفرغون فيه للأعمال الصالحة، ويعمرون ليله بالتهجد ونهاره بالصيام والذكر وتلاوة القرآن، ويعمرون المساجد بذلك، فلنقارن بين حالنا وحالهم وما هو مبلغ شعورنا بهذا الشهر، ولنعلم أنه كما تضاعف فيه الحسنات فإنها تغلظ السيئات فيه وتعظم عقوبتها، فلنتق الله سبحانه ونعظم حرماته {ومن يعظم حرمات الله فهو خير له عند ربه} [الحج 30].

وفق الله الجميع لصالح القول والعمل، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.

الدرس الخامس: في بيان بداية الصيام اليومي ونهايته

الحمد لله رب العالمين حدد للعبادات مواقيت زمانية ومكانية تؤدى فيها، وقد بينها لعباده أتم بيان، والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه الذين تمسكوا بسنته واهتدوا بهديه.. أما بعد:

فقد قال الله تعالى: {أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم هن لباس لكم وأنتم لباس لهن علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل} [البقرة 187].

فقد حدد الله سبحانه في هذه الآية الكريمة بداية الصوم اليومي ونهايته بحدود واضحة يعرفها كل أحد، فحد بدايته بطلوع الفجر الثاني، وحد نهايته بغروب الشمس، كما حدد بداية صوم الشهر بحد واضح يعرفه كل أحد، وهو رؤية الهلال، أو إكمال عدة شعبان ثلاثين يوما، وهكذا ديننا دين اليسر والسهولة {وما عليكم في الدين من حرج} [الحج 78] فلله الحمد والمنة، وهذا تخفيف من الله على عباده عما كان عليه الحال من قبل تمديد الصيام فترة أطول، فقد روى البخاري عن البراء قال:

كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم إذا كان الرجل صائما فحضر الإفطار فنام قبل أن يفطر لم يأكل ليلته ولا يومه حتى يمسي، وأن قيس بن صرمة الأنصاري كان صائما، وفي رواية كات يعمل في النخيل بالنهار وكان صائما، فلما حضر الإفطار أتى امرأته فقال لها: أعندك طعام، قالت له: لا ولكن أنطلق فأطلب لك، وكان يومه يعمل، فغلبته عيناه فجاءته امرأته فلما رأته قالت: خيبة لك أنمت؟ فلما انتصف النهار غشي عليه فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فنزلت هذه الآية: {أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم} [البقرة 187] ففرحوا فرحا شديدا، ونزلت: {وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر} [البقرة 187] [أخرجه البخاري رقم 1915].

وفي البخاري أيضا عن البراء قال: لما نزل صوم رمضان كانوا لا يقربون النساء رمضان كله، وكان رجال يختانون أنفسهم، فأنزل الله تعالى: {علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب الله عليكم وعفا عنكم} [البقرة 187]، [أخرجه البخاري رقم 4508].

يقال خان واختان بمعنى، أي تخونون أنفسكم بالمباشرة في ليالي الصوم، فتاب عليكم أي قبل توبتكم مما حصل، وعفا عنكم: فلم يؤاخذكم وسهل عليم ويسر لكم فأباح لكم النساء والطعام والشراب من غروب الشمس إلى طلوع الفجر الثاني، وعند ذلك يبدأ الصائم بالامتناع عن هذه الأشياء وغيرها مما لا يجوز للصائم إلى غروب الشمس، لقوله تعالى: {ثم أتموا الصيام إلى الليل} [البقرة 187] و{إلى} غاية إذا كان ما بعدها ليس من جنس ما قبلها فإنه لا يدخل فيه، والليل ليس من جنس النهار فالصوم ينتهي عند بداية الليل بغروب الشمس كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا أقبل الليل من ههنا وأدبر الليل من ههنا وغربت الشمس فقد أفطر الصائم" [أخرجه البخاري رقم 1954 ومسلم رقم 1100].

وبعض الناس يخالفون الوجه الشرعي في السحور والإفطار فطائفة من الناس أو كثير منهم يسهرون الليل، فإذا كان آخر الليل وأرادوا النوم تسحروا قبل الفجر، ثم ناموا وتركوا صلاة الفجر في وقتها مع الجماعة، فيرتكبون عدة أخطاء:

أولا: أنهم صاموا قبل وقت الصيام.

ثانيا: يتركون صلاة الفجر مع الجماعة.

ثالثا: يؤخرون الصلاة عن وقتها فلا يصلونها إلا بعدما يستيقظون ولو عند الظهر، والمبتدعة يؤخرون الإفطار عن غروب الشمس ولا يفطرون إلا عند اشتباك النجوم.

وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة.

نسأل الله أن يرزقنا التمسك بالسنة ومجانبة البدعة وأهلها، وصلى الله على محمد.

الدرس السادس: في بيان حكم النية في الصيام

الحمد لله المطلع على الضمائر والخفيات، والصلاة والسلام على نبينا القائل: "إنما الأعمال بالنيات"، وعلى آله وأصحابه ذوي المناقب والكرامات.. أما بعد:

اعلموا أن النية في الصوم لا بد منها، وهي شرط لصحته، كما أنها شرط لصحة كل العبادات لقوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى" وذلك بأن يعتقد عند بداية الصوم أنه يصوم من رمضان أو من قضائه أو أنه يصوم نذرا أو كفارة.

ووقت النية لهذا الصوم الواجب بأنواعه من الليل سواء كان من أوله أو وسطه أو آخره، لما روى الدارقطني بإسناده عن عمرة عن عائشة مرفوعا: "من لم يبيت الصيام قبل طلوع الفجر فلا صيام له" [أخرجه الدارقطني في سننه 2/ 172 والبيهقي في سننه الكبرى 4/202 وقال: إسناده كلهم ثقات].

وعن ابن عمر عن حفصة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من لم يبيت الصيام قبل الفجر فلا صيام له" وفي لفظ "ومن لم يجمع" أي: يعزم "الصيام من الليل فلا صيام له" [أخرجه أحمد في المسند 6 / 287 وأبو داود رقم 2454 والترمذي رقم 730] ولأن جميع النهار يجب فيه الصوم فإذا فات جزء من النهار لم توجد فيه النية لم يصح صوم جميع اليوم لأن النية لا تنعطف على الماضي.

والنية في جميع العبادات محلها القلب ولا يجوز التلفظ بها، لأن ذلك لم يرد عن النبي صلى الله عليه ولا عن أصحابه أنهم كانوا يقولون: نويت أن أصوم، نويت أن أصلي وغير ذلك، فالتلفظ بها بدعة محدثة، ويكفي في النية الأكل والشرب بنية الصوم.

قال الشيخ تقي الدين ابن تيمية رحمه الله: "هو حين يتعشى يتعشى عشاء من يريد الصوم ولهذا يفرق بين عشاء ليلة العيد وعشاء ليالي رمضان"، وقال أيضا: "كل من علم أن غدا من رمضان وهو يريد صومه فقد نوى وهو فعل عامة المسلمين" انتهى.

وأما صوم النفل فإنه يصح بنية من النهار بشرط أن لا يوجد مناف للصوم فيما بين طلوع الفجر ونيته من أكل وغيره، لقول عائشة رضي الله عنها "دخل عليَّ النبي صلى الله عليه ذات يوم فقال "هل عندكم من شيء؟" فقلنا: لا، قال "فإني إذاً صائم" رواه الجماعة إلا البخاري، [أخرجه مسلم رقم 1154].

فدل طلبه للأكل على أنه لم يكن نوى الصيام قبل ذلك، ودل قوله "فإني إذا صائم" على ابتداء النية من النهار، فدل على صحة نية صوم النفل من النهار فيكون ذلك مخصصا لحديث: "من لم يبيت الصيام قبل طلوع الفجر فلا صيام له" وما ورد بمعناه بأن ذلك خاص بالفرض دون النفل، وذلك بشرط أن لا يفعل قبل النية ما يفطره اقتصارا على مقتضى الدليل.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وأما النفل فيجزئ بنية من النهار كما دل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: "إني إذاً صائم"، والتطوع أوسع من الفرض، كما أن الصلاة المكتوبة يجب فيها من الأركان كالقيام والاستقرار على الأرض [بخلاف النفل فإنه يصح على الراحلة ومن الماشي] ما لا يجب في التطوع توسيعا من الله على عباده طرق التطوع، فإن أنواع التطوعات دائما أوسع من أنواع المفروضات وهذا أوسط الأقوال" انتهى.

وصحة نية التطوع من النهار مروية عن جماعة من الصحابة منهم معاذ وابن مسعود وحذيفة، وفعله أبو طلحة وأبو هريرة وابن عباس وغيرهم.. والله أعلم.

والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه.

الدرس السابع: في بيان من يجب عليه صوم رمضان

الحمد لله رب العالمين شرع فيسر، والصلاة والسلام على نبينا محمد بشّر وأنذر، وعلى آله وأصحابه السادة الغرر، أما بعد:

اعلموا وفقني الله وإياكم أن صيام رمضان من أعظم فرائض الإسلام، قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام} [البقرة183] إلى قوله {فمن شهد منكم الشهر فليصمه} [البقرة 185]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت من استطاع إليه سبيلا" متفق عليه [أخرجه البخاري رقم 8 ومسلم رقم 16].

فالآية الكريمة تدل على أن الصيام فرض، والحديث يدل على أنه أحد أركان الإسلام.

وقد أجمع المسلمون على وجوب صيام رمضان إجماعا قطعيا، فمن جحد وجوبه فهو مرتد عن دين الإسلام، يستتاب فإن تاب وإلا قتل، ويجب صوم رمضان على كل مسلم ومن أسلم في أثناء الشهر صام ما بقي منه فقط، ولا يلزمه قضاء ما مضى من أول الشهر، ويجب الصوم على البالغ أما الصغير المميز فلا يجب عليه الصيام ويصح منه تطوعا، وينبغي لولي أمره أمرُه به إذا كان يطيقه ليعتاده وينشأ عليه، ولا يجب الصوم على مجنون حتى يفيق، لقوله صلى الله عليه وسلم: "رُفع القلم عن ثلاثة" [أخرجه أبو داود رقم 4398 وابن ماجة رقم 2041 والنسائي رقم 3432 وأحمد 6/ 100، والحاكم في المستدرك 2/ 59، وقال صحيح على شرط مسلم ووافقه الذهبي ] وذكر منهم: "المجنون حتى يفيق".

فالصوم إذا يجب على المسلم البالغ فإن كان صحيحا مقيما وجب عليه أداءً، وإن كان مريضا وجب عليه قضاء، وكذا الحائض والنفساء يجب عليهما الصيام قضاء، وإن كان صحيحا مسافرا خُير بين الصيام أداء أو يُفطر ويصوم قضاءً، ومن صار في أثناء النهار أهلا لوجوب الصيام كما لو أسلم الكافر أو بلغ الصبي أو طهرت الحائض أوالنفساء، أو شفي المريض أو قدم المسافر أو أفاق المجنون، أو قامت البينة على دخول الشهر في أثناء النهار، فإن كلا من هؤلاء يلزمه الإمساك بقية اليوم، ويقضونه لأنه يوم من رمضان لم يأتوا فيه بصوم صحيح تام فلزمهم قضاؤه، وإنما أمروا بالإمساك في بقية اليوم احتراما للوقت.

واعلموا أنه يجب على المسلم أن يهتم بدينه وما يصححه، ولا سيما أركان الإسلام التي بني عليها، ومنها الصيام، هذه العبادة العظيمة تتكرر في حياة المسلم مرة واحدة كل عام، لأن هذه الأركان الخمسة للإسلام منها ما يلزم العبد في كل لحظة من حياته لا يتخلى عنه أبدا، وهو الشهادتان: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ومنها ما يتكرر في حياة المسلم كل يوم وليلة خمس مرات وهو الصلوات الخمس، ومنها ما يتكرر على المسلم كل سنة وهو الزكاة والصيام، ومنها ما يلزم المسلم مرة واحدة في عمره وهو الحج [إذا استطاع إليه سبيلا] وإذاً فالمسلم مرتبط بهذه الأركان ارتباطا وثيقا، وتكررها عليه يوميا وسنويا حسب أهميتها وبحيث يستطيع أداءها ولا تشق عليه، ثم هذه الأركان العظيمة منها ما هو بدني محض كالشهادتين والصلاة والصيام ومنها ما هو مالي محض وهو الزكاة ومنها ما هو بدني ومالي كالحج، ولا بد في جميعها من توفر النية الخاصة لله لقوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى" [أخرجه البخاري رقم 1 ومسلم رقم 1907].

وأن تؤدى على الوجه المشروع المطابق لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم كما في الحديث: "من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد" [ أخرجه البخاري تعليقا في كتاب البيوع، باب النجش، ومن قال: لا يجوز ذلك البيع، ومسلم رقم 1718، وأحمد 6/ 146]، فواجب على المسلم أن يهتم بأركان الإسلام فيأتي بكل ركن منها في وقته المحدد خالصا لله صوابا على سنة رسول الله.

وختاما أسأل الله جل وعلا أن يجعل صيامنا وسائر أعمالنا خالصة مقبولة، وأن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته، وصلى الله على نبينا محمد.

الدرس الثامن: في بيان من يعذر بترك الصيام في شهر رمضان؟ وما يجب عليه؟

الحمد لله رب العالمين، شرع فيسّر {وما جعل عليكم في الدين من حرج} [الحج 78] والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه خير القرون، ومن تبعهم بإحسان، أما بعد:

فإننا نبين الذين يجوز لهم الإفطار في شهر رمضان وما يجب عليهم، قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون * أياما معدودات فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر، وعلى الذين} [البقرة 185] في هاتين الآيتين الكريمتين وجوب الصيام على كل مسلم عاقل، خال من الموانع، أدرك شهر رمضان، فيلزمه الصيام أداء في شهر رمضان أو قضاءً إن لم يتمكن من الصيام أداءً لعذر من الأعذار الشرعية، وأصحاب هذه الأعذار الذين يرخص لهم في الإفطار هم:

1 ـ المريض الذي يشق عليه الصيام فيستحب له أن يفطر أخذا بالرخصة، وذلك إذا كان الصوم يضره أو يؤخر برؤه أو يضاعف عليه المرض.

2 ـ المسافر الذي حل عليه شهر رمضان وهو في سفر أو أنشأ سفرا في أثناء الشهر تبلغ مسافته ثمانين كيلو متراً فأكثر، وهي المسافة التي كان يقطعها الناس على الأقدام وسير الأحمال في مدة يومين قاصدين، فهذا المسافر يستحب له أن يفطر سواء شق عليه الصيام أو لم يشق، أخذا بالرخصة، وسواء كان سفره طارئاً أو مستمرا كسائق سيارة الأجرة الذي يكون غالب وقته في سفر بين البلدان، فهذا يفطر في سفره ويصوم في وقت إقامته، وإذا قدم المسافر إلى بلده أثناء النهار وجب عليه الإمساك بقية اليوم ويقضيه كما سبق، وإن نوى المسافر في أثناء سفره إقامة تزيد على أربعة أيام فإنه يلزمه الصوم وإتمام الصلاة كغيره من المقيمين، لانقطاع أحكام السفر في حقه، سواء كانت إقامته لدراسة أو لتجارة أو غير ذلك، وإن نوى إقامة أربعة أيام فأقل، أو أقام لقضاء حاجة لا يدري متى تنقضي فله الإفطار لعدم انقطاع السفر في حقه.

3 ـ الحائض والنفساء، يحرم عليهما الصوم مدة الحيض والنفاس، لما في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كنا نؤمر بقضاء الصوم" [لما سألتها امرأة فقالت: ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة؟ فقالت عائشة: "كنا نؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة " أخرجه البخاري رقم 321، ومسلم رقم 335/69]، ويحرم على الحائض أن تصوم في وقت الحيض بالإجماع.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ثبت بالسنة وإجماع المسلمين أن الحيض ينافي الصوم، فلا يحل مع الحيض أو النفاس.

ومن فعلته منهن حاله لم يصح منها، قال: وهو وفق القياس، فإن الشرع جاء بالعدل في كل شيء، فصيامها وقت خروج الدم يوجب نقصان بدنها وضعفها، وخروج صومها عن الاعتدال، فأمرت أن تصوم في غير أوقات الحيض فيكون صومها ذلك صوما معتدلا، لا يخرج فيه الدم الذي يقوي البدن الذي هو مادته بخلاف المستحاضة، ومن ذرعه القيء مما ليس له وقت يمكن الاحتراز منه فلم يجعل منافيا للصوم.

4 ـ والمريض مرضا مزمنا لا يرجى برؤه ويعجز معه عن الصيام عجزا مستمرا، فهذا يفطر ويطعم عن كل يوم مسكينا بمقدار نصف صاع من البر وغيره وليس عليه قضاء.

5 ـ والكبير والهرم الذي لا يستطيع الصوم فهذا يفطر ويطعم عن كل يوم مسكينا ولا قضاء عليه [إذا كان عقله باقيا أما إذا لم يكن عنده عقل ولا فكر فلا شيء عليه].

6 ـ الحامل والمرضع إذا خافتا على نفسيهما أو على ولديهما من ضرر الصيام، فإن كلا منهما تفطر وتقضي قدر الأيام التي أفطرتها، وإن كان إفطارها خوفا على ولدها فقط أضافت مع القضاء إطعام مسكين عن كل يوم، والدليل على إفطار المريض المزمن والكبير الهرم والحامل والمرضع قوله تعالى: {وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين} [البقرة184] كما فسرها ابن عباس رضي الله عنهما بذلك، والله أعلم.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

الدرس التاسع: في بيان فضائل الصيام

الحمد لله على نعمه الباطنة والظاهرة، شرع لعباده ما يصلحهم ويسعدهم في الدنيا والآخرة، والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه نجوم الهدى الزاهرة، ومن اتبع هديه وتمسك بسنته الطاهرة، أما بعد:

أيها المسلمون.. نذكركم بفضيلة هذا الشهر المبارك ونسأل الله أن يوفقنا لاغتنام أوقاته بالعمل الصالح وأن يتقبل منا، ويغفر لنا خطايانا إنه سميع مجيب.

فقد روى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كل عمل ابن آدم له الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، قال الله تعالى: إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به، ترك شهوته وطعامه وشرابه من أجلي، للصائم فرحتان: فرحة عند فطره وفرحة عند لقاء ربه، ولخلوف فم الصائم عند الله أطيب من ريح المسك" [أخرجه البخاري رقم 1894، 1904 ومسلم رقم 1151] فهذا الحديث الشريف يدل على جملة فضائل ومزايا للصيام من بين سائر الأعمال منها:

أن مضاعفته تختلف عن مضاعفة الأعمال الأخرى، فمضاعفة الصيام لا تنحصر بعدد، بينما الأعمال الأخرى تضاعف الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف.

ومنها أن الإخلاص في الصيام أكثر منه في غيره من الأعمال لقوله: "ترك شهوته وطعامه وشرابه من أجلي".

ومنها أن الله اختص الصيام لنفسه من بين سائر الأعمال، وهو الذي يتولى جزاء الصائم لقوله: "الصوم لي وأنا أجزي به".

ومنها: حصول الفرح للصائم في الدنيا والآخرة، فرح عند فطره بما أباح الله له، وفرح الآخرة بما أعد الله له من الثواب العظيم، وهذا من الفرح المحمود لأنه فرح بطاعة الله كما قال تعالى: {قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا} [يونس 85].

ومنها: ما يتركه الصيام من آثار محبوبة عند الله وهي تغير رائحة فم الصائم بسبب الصيام، وهي آثار نشأت عن الطاعة فصارت محبوبة عند الله تعالى "ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك".

ومن فضائل الصيام: أن الله اختص الصائمين بباب من أبواب الجنة لا يدخل منه غيرهم إكراما لهم كما في الصحيحين عن سهل بن سعد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن في الجنة بابا يقال له الريان يدخل منه الصائمون يوم القيامة، لا يدخل منه أحد غيرهم، يقال أين الصائمون؟ فيقومون فيدخلون فإذا دخلوا أغلق فلم يدخل منه أحد" [أخرجه البخاري 1896 ومسلم 1152].

ومن فضائل الصيام: أنه يقي صاحبه مما يؤذيه من الآثام ويحميه من الشهوات الضارة، ومن عذاب النار، كما ورد في الأحاديث أن الصيام جُنَّة ـ بضم الجيم والنون المشددة المفتوحة ـ أي ستر حصين من هذه الأخطار.

ومن فضائل الصيام: أن دعاء الصائم مستجاب فقد أخرج ابن ماجة والحاكم عن ابن عمر أنه صلى الله عليه وسلم قال: "إن للصائم عند فطره دعوة لا ترد" [أخرجه ابن ماجة رقم 1753 والحاكم في المستدرك 1/422]، وقد قال الله تعالى في أثناء آيات الصيام: {وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان} [البقرة 186] ليرغب الصائم بكثرة الدعاء.

ومن فضائله: أنه يجعل كل أعمال الصائم عبادة كما روى أبو داود الطيالسي والبيهقي عن ابن عمر مرفوعا: "صمت الصائم تسبيح ونومه عبادة ودعاؤه مستجاب وعمله مضاعف" [أخرجه الديلمي في مسند الفردوس 3576 والهندي في كنز العمال وعزاه إلى أبي زكريا بن منده في أماليه رقم 23602].

 

ومن فضائل الصيام: أنه جزء من الصبر، فقد أخرج الترمذي وابن ماجه أنه صلى الله عليه وسلم قال: "الصيام نصف الصبر" [أخرجه أحمد 4/ 260، والبهقي في شعب الايمان 7 / 177 رقم 3297، وابن ماجة رقم 1745] وقد أخبر الله سبحانه وتعالى أن الصابرين يوفون أجورهم بغير حساب.

 

ومن فضائل الصوم وفوائده الطبية أنه يسبب صحة البدن كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: "صوموا تصحوا" رواه السني وأبو نعيم [ذكره الهندي في كنز العمال رقم 32605 وعزاه إلى ابن السني وأبي نعيم وقال الحافظ العراقي في تخريج الإحياء 3 / 75، رواه الطبراني في الأوسط وأبو نعيم في الطب النبوي من خديث أبي هريرة بسند ضعيف، وقال الصاغاني موضوع]، وذلك لأن الصوم يحفظ الأعضاء الظاهرة والباطنة، ويحمي من تخليط المطاعم الجالب للأمراض، هذا وللصيام فوائد كثيرة لا يمكننا استيفاؤها، ولكن الغرض التنبيه على بعضها، وفي هذا القدر كفاية إن شاء الله.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه، والحمد لله رب العالمين.

الدرس العاشر: في بيان فوائد الصيام

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد خاتم النبيين، وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:

فإن الصيام من أنفع العبادات وأعظمها آثارا في تطهير النفوس وتهذيب الأخلاق، وله فوائد عظيمة، من أعظمها:

أنه سبب لزرع تقوى الله في القلوب وكف الجوارح عن المحرمات، قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون} [البقرة 183] فبين سبحانه في هذه الآية أنه شرع الصيام لعباده ليوفر لهم التقوى، والتقوى كلمة جامعة لكل خصال الخير، وقد علق الله بالتقوى خيرات كثيرة وثمرات عديدة، وكرر ذكرها في كتابه لأهميتها، وقد فسرها أهل العلم بأنها: فعل أوامر الله، وترك مناهيه، رجاء لثوابه وخوفا من عقابه، وقوله تعالى: {لعلكم تتقون} قال الإمام القرطبي رحمه الله: (لعل) ترجٍ في حقهم، و(تتقون) تتركون المعاصي، فإنه كلما قل الأكل ضعفت الشهوة، وكلما ضعفت الشهوة قلت المعاصي، وقيل: هو على العموم، لأن الصيام هو كما قال عليه الصلاة والسلام: "الصيام جُنة ووجاء" [أخرجه احمد 2/257، 402 (4/22) والنسائي رقم 2227، 2229 وابن ماجة رقم 1639 والطبراني في الكبير(8/157 ـ 158 رقم 7608)]، وسبب تقوى لأنه يميت الشهوات. انتهى بمعناه.

 

ومن فوائد الصيام: أنه يعود الإنسان الصبر والتحمل والجَلَدَ، لأنه يحمله على ترك مألوفه ومفارقة شهواته عن طواعية واختيار، وهو يعطي قوة للعاصي الذي ألف المعاصي على تركها والابتعاد عنها، فهو يربيه تربية عملية على الصبر عنها ونسيانها حتى يتركها نهائيا، فمثلا المدخن الذي سيطرت عليه عادة التدخين وصعب عليه تركها يستطيع بواسطة الصيام ترك هذه العادة السيئة والمادة الخبيثة بكل سهولة وكذلك سائر المعاصي.

ومن فوائد الصيام: أنه يمكّن الإنسان من التغلب على نفسه الأمارة بالسوء، فإنها كانت في وقت الإفطار تغالب صاحبها وتنزع إلى تناول الشهوات المحرمة، فلما جاء الصيام تمكن الإنسان من إمساك زمام نفسه وقيادتها إلى الحق.

ومن فوائد الصيام: أنه يسهل على الصائم فعل الطاعات، وذلك ظاهر من تسابق الصائمين إلى فعل الطاعات التي ربما كانوا يتكاسلون عنها وتثقل عليهم في غير وقت الصيام.

ومن فوائد الصيام: أنه يرقق القلب ويلينه لذكر الله ـ عز وجل ـ ويقطع عنه الشواغل.

ومن فوائد الصيام: أنه ربما يحدث في قلب العبد محبة للطاعات وبغضا للمعاصي بصفة مستمرة، فيكون منطلقا إلى تصحيح مفاهيم الإنسان وسلوكه في الحياة.

والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.

الدرس الحادي عشر: في بيان آداب الصيام

الحمد لله وحده والصلاة والسلام على نبينا محمد الذي لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه، أما بعد:

اعلموا أن من آداب الصيام المهمة أن يصوم المسلم في الوقت المحدد للصوم شرعا، فلا يتقدم عليه ولا يتأخر عنه، فلا يصوم قبل ثبوت بداية الشهر ولا يصوم بعد نهايته على أنه منه، قال صلى الله عليه وسلم: "إذا رأيتم الهلال فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا" متفق عليه [أخرجه البخاري رقم 1900، ومسلم رقم 1080/8]، وقال عليه الصلاة والسلام: "لا تصوموا حتى تروا الهلال، ولا تفطروا حتى تروه" رواه أحمد والنسائي [أخرجه البخاري رقم 1906، ومسلم رقم 1080/3 ].

ففي الحديث الأول الأمر بالصيام عند رؤيته في البداية والإفطار عند رؤيته في النهاية، ومعنى ذلك أن محل الصيام ما بين الهلالين فقط.

وفي الحديث الثاني: النهي عن الصيام قبل رؤية الهلال، والنهي عن الإفطار قبل رؤيته، وقد جاء النهي الصريح عن تقدم الشهر بصيام على نية أنه منه، لأن ذلك زيادة على ما شرعه الله عز وجل، فقد روى الترمذي والنسائي وابن ماجة وابن حبان عن ابن عباس رضي الله عنهما: "لا تصوموا قبل رمضان" [أخرجه الترمذي رقم 687 وقال: حديث ابن عباس حديث حسن صحيح ]، وروى أبو داود عنه: "لا تقدموا الشهر بصيام يوم ولا يومين" [أخرجه أحمد 1/158، 226، والدارمي رقم 1690، والترمذي رقم 688وابن خزيمة رقم 1912].

ولهذا ورد النهي عن صوم يوم الشك، وقال عمار: "من صام اليوم الذي يشك فيه فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم" رواه أبو داود والترمذي وصححه، وقال: والعمل عليه عند أكثر أهل العلم [أخرجه أبو داود رقم 2334، والترمذي رقم 686، والنسائي رقم 2190، وابن ماجة رقم 1645، وقال الترمذي: حسن صحيح].

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "لأن الأصل والظاهر عدم الهلال فصومه تقدم لرمضان بيوم، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عنه.

وأصول الشريعة أدل على هذا القول منها على غيره، فإن المشكوك في وجوبه لا يجب فعله ولا يستحب، بل يستحب ترك فعله احتياطا، فلم تحرم أصول الشريعة الاحتياط، ولم توجبه بمجرد الشك" انتهى.

ومن هذا نعلم بطلان دعوة الذين يدعون إلى أن نعتمد على الحساب الفلكي في صومنا وإفطارنا، لأنهم بذلك يدعوننا إلى أن نصوم ونفطر قبل رؤية الهلال فنتقدم رمضان بيوم أو يومين ونصوم يوم الشك إلى غير ذلك من المحاذير.

ومن آداب الصيام تأخير السحور إ�

nassimbishra

اصبر على كيد الحسود فإن صبرك قاتله

  • Currently 30/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
10 تصويتات / 243 مشاهدة
نشرت فى 31 يوليو 2011 بواسطة nassimbishra

ساحة النقاش

نسيم الظواهرى بشارة

nassimbishra
موقع تعليمى إسلامى ، نهدف منه أن نساعد أبناءنا الطلاب فى كافة المراحل التعليمية ، وكذلك زملائى الأعزاء من المعلمين والمعلمات ، وموقع إسلامى لتقديم ما يساعد إخواننا الخطباء بالخطب المنبرية ، والثقافة الإسلامية العامة للمسلمين ، ونسال الله سبحانه وتعالى الإخلاص فى القول والعمل ، ونسألكم الدعاء »

تسجيل الدخول

ابحث

عدد زيارات الموقع

1,062,260

ملحمة التحرير