<!--[if !mso]> <style> v\:* {behavior:url(#default#VML);} o\:* {behavior:url(#default#VML);} w\:* {behavior:url(#default#VML);} .shape {behavior:url(#default#VML);} </style> <![endif]--><!--<!--[if gte mso 10]> <style> /* Style Definitions */ table.MsoNormalTable {mso-style-name:"جدول عادي"; mso-tstyle-rowband-size:0; mso-tstyle-colband-size:0; mso-style-noshow:yes; mso-style-parent:""; mso-padding-alt:0in 5.4pt 0in 5.4pt; mso-para-margin:0in; mso-para-margin-bottom:.0001pt; mso-pagination:widow-orphan; font-size:10.0pt; font-family:"Times New Roman";} </style> <![endif]-->
الأزمة المالية العالمية
الخطبة الأولى
عباد الله: "الموت أو الهلاك" هذه هي الصيحة التي أطلقها محافظ البنك المركزي الأمريكي معبرًا عن عمق الأزمة التي ضربت الاقتصاد الأمريكي قاطرة الاقتصاد العالمي .. وتركته مترنحًا بعد أن كان جامحًا جشعًا لا يلوى على شيء .
أيها المسلمون، لقد جربت بعض الدول النظام المالي الشيوعي الذي صادر حق الفرد في التملك وجعل الدولة كشركة يعمل أفرادها فيها مقابل ملء بطونهم، وستر أجسادهم، وتوفير الضروري من مقومات حياتهم، وليس لهم حق فيما زاد على ذلك، فساوى هذا الفكر المنحرف بين العامل والعاطل وبين الجاد والكسول، ففشل وسقطت الدول التي كانت تتبنى الفكر الشيوعي, وانقسم بعضها إلى دويلات. واليوم ثبت فشل النظام الرأسمالي الذي تبنته مجموعة من الدول الغربية حيث أطلق للأفراد حرية التملك وتنمية المال بأي وجه مما سمح للأقوياء أن يسحقوا الضعفاء، وللأغنياء أن يبيدوا الفقراء بمسوغات السوق الحرة والتجارة الحرة،
عباد الله: لقد تنكب هؤلاء وأولئك طريق الحق, وخالفوا تعاليم الخالق، حيث تفننوا في تشريع قوانين أرضية تحترم رأس المال ولا تحترم الآدمي ذاته؛ ولهذا جوزوا للشركات الزراعية مثلا أن يتلفوا محاصيلهم وأن يلقوها في المزابل ويدفنوها تحت التراب ليحافظوا على حركة العرض والطلب ولو تضور الفقراء جوعًا! بل ووضعوا تشريعات تنحني للغني على حساب المسكين وذي العيلة, وتسبح بحمد رجل الأعمال ولو وُضع الفقير بسببها تحت الأشغال الشاقة!
عباد الله: ليست مفاجأة لنا ـ نحن المسلمون ـ أن يترنح اقتصاد يقوم على مبدأ الحرية المطلقة, ويتغذى على الربا, ويستند على السندات والديون, ويقامر حتى الثمالة! ولكنها مفاجأة للعالم المتحضر الذي لا يؤمن إلا بالقيم الرأسمالية, ولا يمتثل إلا لأفكارها, ولا يحترم إلا أبجدياتها وأدبياتها، كما أنها مفاجأة وإحراج لكل من نحا نحوهم أو دار في فلكهم أو سبح بحمدهم؛
أيها المسلمون: إن أسباب الانهيارات المالية الحاصلة في العالم لا يمكن حصرها فقط في الصعوبات التي تعرضت لها بنوك العقارات الأمريكية، نتيجة لهبوط الأسعار في سوق العقارات الأمريكية فحسب، وإنما هناك أسباب كامنة أخرى لا يمكن غض النظر عنها أو تناسيها، ومنها: أن الربا ومعاملاته الجائرة سبب رئيس لهذا الفساد الاقتصادي المهدد بالسقوط، وهذه حقيقة كشفها القرآن قبل أكثر من ألف عام حين أعلن الله تعالى حربه على المصرين على التعامل بالربا، وأنى لقوة – مهما كانت – أن تصمد لحرب الله، والله يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } { فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ... } [ سُورَةُ البَقَرَةِ : 278 - 279] ، ويؤكد الذي لا ينطق عن الهوى في سنته، أن عاقبة الربا إلى قل وإن توهم المرابون خلاف ذلك، روى الحاكم بسند صحيح عن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إن الربا وإن كثر، فإن عاقبته تصير إلى قل ".
عباد الله : ومن أسباب هذه الأزمة ظلم أولئك القوم للمسلمين وغير المسلمين، الظلم ما أشد عاقبته وما أسوأ نهايته وما أقبح خاتمته! فكم ظلمت تلك الدولة الكافرة المستكبرة، وكم طغت وبغت، وكم اغترت وقالت: إنها أشد الناس قوة، أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً [فصلت: 15].
لطالما ناصروا الدولةَ اليهودية في ظلمها وبطشها، أمدوهم بالسلاح الذي يقتلون به الأبرياء، ووقفوا معهم في المحافل الدولية مناصرة ومدافعة عنهم وعن ظلمهم وبغيهم وعدوانهم، ولا يخفى ماذا فعلوه ويفعلونه في العراق وأفغانستان وغيرها من دول المسلمين، وصدق الله العظيم: وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ [إبراهيم: 42]، وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود: 102]، وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ [المدثر: 31].
أيها المسلمون: هكذا تكون العاقبة للظالمينلا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ [آل عمران: 196، 197]. قال الشيخ السعدي رحمه الله: "هذه الآية المقصود منها التسلية عما يحصل للذين كفروا من متاع الدنيا وتنعمهم فيها وتقلبهم في البلاد بأنواع التجارات والمكاسب واللذات وأنواع العز والغلبة في بعض الأوقات، فإن هذا كله متاع قليل، ليس له ثبوت ولا بقاء، بل يتمتعون به قليلا ويعذبون عليه طويلا، هذه أعلى حالة تكون للكافر".
أيها المسلمون: وثالث الأسباب لهذه الأزمة المالية تلك الحرب الضروس التي شنها الغرب على المؤسسات الخيرية الإسلامية مما تسبب فى إغلاق العديد منها وتوقف أعمالها وحرمان الآلاف من الجائعين والمحتاجين من الطعام والكساء من مساعداتها وإعاناتها.
لقد تسلطوا على لقيمات الفقراء في البلاد الفقيرة فأخرجوها من أفواه اليتامى ، والمساكين ، وجردوهم من كلِّ صدقة تأتيهم من الدول الإسلامية ، تحت كذبة ( الحرب على الإرهاب ) ،
سعوا لتجمـيد كل مال ينفق في سبيل الله تعالى ، فجمَّد الله تعالى أموالهم ، ودأبوا على إغلاق الجمعيات الخيرية الإسلامية ، وملاحقة المتصدِّقين ، فأغلق الله تعالى عليهم أبواب الـرزق ، وقاموا ببطـرهم ، وأشـرهم ، يصدون عن سبيل الله تعالى ، فصدَّ الله تعالى عنهم سبـل الخيـر.{ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ } [ سُورَةُ الأَنْفَالِ : 36 ].
عباد الله: سبحان من جعل القوة سبباً لضعف الأقوياء، وسبحان من جعل الضعف قوة للضعفاء، لقد ظن أكثر الناس قبل سنوات قلائل أن الغرب لا قوة تغلبهم وقد رأوا أساطيلهم تغطي البحار، وطائراتهم العملاقة تحلق في السماء، وأيقنوا أن لا شيء يهز اقتصادهم وقد بلغت صناعاتهم ما بلغت، وخيرات باطن الأرض تتدفق عليهم من كل مكان، وأعلنوا أن القرن قرنهم، وأن العالم كًله مسخر لهم، وأن الدول تحت أيديهم وتصرفهم {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللهِ فَأَتَاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا} [ سُورَةُ الْحَشْرِ : 2 ] ، وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } [ سُورَةُ يُونُسَ : 24 ] .
أيها المسلمون: لو جاء أولئك القوم البلاء من قارعة سماوية، أو عاصفة بحرية ، أو ريح عاتية، لقال الناس: عذاب كعذاب الأمم المكذبة قبلهم.
ولو ضربوا بفعل البشر لقيل إنهم أخذوا على حين غرة، وانتقامهم سيكون شديداً أليماً، أو هي خدعة سياسية يبتزون العالم بها، ويسوغون تدخلاتهم في الدول، ولكن البلاء جاءهم من نظريتهم الرأسمالية التي حاربوا عليها الاشتراكية سبعين سنة، وطوعوا العالم كله لها ومن أجل تحقيق أهدافها، وهاهم اليوم يرونها الآن تسير إلى طريق الانهيار، بلا علم منهم بأسباب ذلك ولا آثاره الحقيقة ولا نتائجه الأكيدة.{ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا } [ سُورَةُ الفَتْحِ : 7 ] ، { وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَمَا هِيَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْبَشَرِ } [سُورَةُ الْمُدَّثِّرِ : 31 ] .
عباد الله: منذ سنوات والشهادات تتوالى من عقلاء الغرب ورجالات الاقتصاد تنبه إلى خطورة الأوضاع التي يقود إليها النظام الرأسمالي، وضرورة البحث عن خيارات بديلة تصب في مجملها في خانة البديل الإسلامي.
فالغرب الآن يتجه نحو الاقتصاد الإسلامي، كمحاولة للخروج من أزمته المالية الطاحنة، وفي ذلك يقول أحد رؤساء التحرير في الصحافة الفرنسية : لقد آن الأوان لأن يعتمد على الشريعة الإسلامية في المجال المالي والاقتصادي، لوضع حد لهذه الأزمة التي تهز أسواق العالم من جراء التلاعب بقواعد التعامل، والإفراط في المضاربات الوهمية غير المشروعة.
وفي استجابة على ما يبدو لهذه النداءات، أصدرت الهيئة الفرنسية العليا للرقابة المالية وهي أعلى هيئة رسمية تعنى بمراقبة نشاطات البنوك قراراً يسمح للمؤسسات والمتعاملين في الأسواق المالية بالتعامل مع نظام الصكوك الإسلامي في السوق المنظمة الفرنسية.
أيها المسلمون: وفي ظل هذه الأزمة المالية الخانقة يأتي السؤال الذي يفرض نفسه وهو:هل سينجح العرب والمسلمون في استغلال هذه الأزمة لصالح تطوير النظام الاقتصادي الإسلامي الحقيقي في بلادهم ليتمكنوا من إعادة أموال الاستثمار إلى بلادهم بدلا من بلاد الغرب؟! وهل ستتوب الدول التي تقوم اقتصادياتها على الربا والغرر والقمار والحرية المطلقة الظالمة من ذلك وتستفيد مما حصل وتتعظ قبل أن ينالها ما نال أكبر اقتصاد في العالم؟
إذا كنت في نعمة فارعها * فإن الذنوب تزيل النعم
وحطها بطاعة رب العباد * فرب العباد سريع النقم
وإياك والظلم مهما استطعت * فظلم العباد شديد الوخم
وسافر بقلبك بين الورى * لتبصر آثار من قد ظلم
فتلك مساكنهم بعدهم * شهود عليهم , ولا تتهم
صلوا بالجحيم وفات النعيم * وكان الذي نالهم كالحلم
الخطبة الثانية
عباد الله: حقيقة ثابتة وقاعدة مقررة في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، لا محيد عنها ولا مفر منها ألا وهي : أن الذنوب والمعاصي هي سر هذه البلايا المتتالية، وسبب الكوارث المتعاقبة، ومنشأ الأدواء المستعصية التي تعصف بالعالم كل يوم، وتتخطف الناس من حولنا ومن بيننا.
أيها المسلمون: اقرؤا كتاب ربكم وسنة نبيكم، قلبوا صفحات التأريخ وتدبروها وتأملوا كم أهلكت المعاصي من أمم ماضية، وكم دمرت من شعوب كانت قائمة .
إنه ما ظهرت المعاصي في أمة من الأمم ولا انتشر الفساد في دولة من الدول إلا جاءها وعيد الله الذي لا يخلف ، وتحققت فيها سنته التي لا تتخلف " .
{ وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ } ، { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ }[ سُورَةُ هُودٍ: 102- 103 ]
يقول ابن تيمية رحمه الله تعالى: ومن المعلوم بما أرانا الله من آياته في الآفاق وفي أنفسنا، وبما شهد به كتابه أن المعاصي سبب المصائب، وأن الطاعة سبب النعمة.
عباد الله: عجباُ لحال الناس في هذه الحياة، يعصون الله تعالى بالليل والنهار، ويعرضون عنه، وينسون فضله وإحسانه، ويكفرون نعمه عليهم، ثم إذا جازاهم على بعض أعمالهم بالقليل إذا هم يتسخطون ويقنطون من رحمة الله وفضله وإحسانه، وإن من الأمن من مكر الله إقامة العبد على الذنوب والمعاصي، وهو يتمنى على الله المغفرة والسلامة.
أيها المسلمون: إننا حين نذكر بما أصاب الغرب أو غيره من الأزمة المالية إنما نسوق ذلك للعبرة والعظة والتذكير بمصير الأمم عندما تحارب الله وتقصي شرعه، وتفشو فيها المنكرات بلا حسيب ولا رقيب.
فاتقوا الله عباد الله وانظروا إلى تخطف الناس من حولكم، وإلى الكوارث والمحن التي تصيب الدول القريبة منكم، واعلموا أنكم لستم بأفضل منهم إلا بمقدار تمسككم بشرع الله ومحافظتكم على دينه والبعد عن معصيته. { وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } { أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ } { أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ } { أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ } { أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ } [ سُورَةُ الأَعْرَافِ : 100 ]
ساحة النقاش