<!--<!--[if gte mso 10]> <style> /* Style Definitions */ table.MsoNormalTable {mso-style-name:"جدول عادي"; mso-tstyle-rowband-size:0; mso-tstyle-colband-size:0; mso-style-noshow:yes; mso-style-parent:""; mso-padding-alt:0in 5.4pt 0in 5.4pt; mso-para-margin:0in; mso-para-margin-bottom:.0001pt; mso-pagination:widow-orphan; font-size:10.0pt; font-family:"Times New Roman";} </style> <![endif]-->

نشأ رسول الله  r في مكة، وترعرع فيها، واستنبئ على رأس الأربعين من سنه، وغبر ثلاث عشرة سنة يدعو إلى الله قبل أن يهاجر إلى المدينة.

لقي  r ومعه أصحابه الكرام رضوان الله عليهم من المشركين أذى كثيرا، كُذبوا وأُهينوا ونُبذوا، وانصفق عنهم عامة الناس، وهم المستضعفون لا عدد لهم ولا عدة.

لا عدد لهم ولا عدة، بالميزان المادي الصرف، أما بميزان الإيمان واليقين، فعددهم أكثر وعدتهم أكبر. والله أكبر.

كلمات أذكر بها في هذه المناسبة الغالية؛ مناسبة الهجرة النبوية. والهجرة ليست حدثا عابرا، ولكنها نقلة شعورية؛ فردية وجماعية.

ليست فقط هجر مكة، ولكنها هجر الشك والشرك والفتن والأدران. وليست فقط هجرة إلى المدينة، ولكنها هجرة إلى اليقين والتوحيد والإيمان؛هجرة إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.

كلمات سامية، وتسمو الكلمات بقائلها، كما تسمو بسياقها ودلالاتها. كلمات من قلب الهجرة عن الهجرة.

"لا تحزن إن الله معنا"

اشتد حزن سيدنا أبي بكر رضي الله عنه عندما رأى القافة (الذين يقفون الأثر) قد انتهوا إلى باب الغار الذي يقيمان فيه؛ هو و رسول الله  r ، في انتظار مناسبة الظرف، لتتمة هجرتهما إلى المدينة.

اشتد حزنه رضي الله عنه لما رآه من حال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد اعتراه النصب، ودميت قدماه الشريفتان. روت كتب السيرة أنه رضي الله عنه قال: "نظرت إلى قدمي رسول الله  r في الغار وقد تقطرتا دما فاستبكيت، وعلمت أنه عليه السلام لم يكن تعود الحفاء والجفوة".

ما أعظمها من رقة لا تليق إلا بصاحب قد أدرك حقيقة مصحوبه. قال رضي الله عنه: "إن قتلت فإنما أنا رجل واحد وإن قتلت أنت هلكت الأمة" عندها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تحزن إن الله معنا" وقال "ما ظنك باثنين الله ثالثهما".

ثبات وتثبيت ويقين مسلكه الصحبة، ومعية الله ثمن ذلك التصديق، وجزاء تلك المحبة، التي لم تكن ادعاء، ولكن كانت حقيقة ماثلة، قدم الصديق رضي الله عنه دليلها في أكثر من مناسبة. فها هو رضي الله عنه يدخل قبل رسول الله  r إلى الغار, ويتلمس هل فيه من حية أو سبع، يقي رسول الله  r منهما بنفسه.

"لا تحزن إن الله معنا" حزن على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس خوف على النفس أو المال أو الولد. ما أعظمه من إيمان وتصديق أوصل صاحبه لتلك المرتبة الرفيعة؛ معية الله.

يقول الله عز وجل: "إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل لله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم" التوبة40.

"إذ يقول لصاحبه" تنبيه وإرشاد لمفتاح لا محيذ عنه لكل من أراد أن يتحقق بكمال الإيمان وكمال التصديق، حتى يفوز بمعية الله وسكينته ونصر من عنده وتمكين؛ إنه مفتاح الصحبة.

نال سيدنا أبو بكر ما ناله بصحبة رسول الله  r ومحبته "إذ يقول لصاحبه" "لصاحبه"..

"إن الله عز وجل قد جعل لكم إخوانا ودارا تأمنون بها"

هذا ما قاله رسول الله  r لأصحابه الكرام عندما أذن لهم بالخروج من مكة إلى المدينة.

الأخوة في الله امتزاج روح بروح، وتعلق قلب بقلب، تنسي من تنسم بعبيرها، وسار في رياضها، كل أصناف الأذى والوحشة.

أخوة جعلها الله، يقول الله عز وجل: " و ألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم، ولكن الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم" الأنفال64. أخوة في الله، وما كان لله دام واتصل، وما كان لغير الله انقطع وانفصل.

هي هجرة إلى مجتمع الأخوة إذن؛ مجتمع الحب في الله والبذل والإيثار. يقول الله عز وجل في حق الأنصار رضوان الله عليهم: "والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أتو ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون" الحشر/9.

الأخوة لا الفرقة، المحبة لا الصراع، البذل لا الشح، الإيثار لا الأنانية؛ هي الأسس التي بني عليها مجتمع الأمن والإيمان. "الدار والإيمان" "دارا تأمنون بها".

أمن في الدنيا، للتدرج على مراتب العبودية، تحقيقا لأمن الآخرة وأمانها "فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف" قريش3-5.

"ربح صهيب ، ربح صهيب"

ورد في سيرة بن هشام أن صهيبا حين أراد الهجرة قال له كفار قريش: أتيتنا صعلوكا حقيرا، فكثر مالك عندنا، وبلغت الذي بلغت، ثم تريد أن تذهب بمالك ونفسك، والله لا يكون ذلك، فقال لهم صهيب: آرأيتم إن جعلت لكم مالي أتخلون سبيلي؟ قالوا: نعم. قال فإني جعلت لكم مالي، قال فبلغ ذلك رسول الله  r فقال: "ربح صهيب، ربح صهيب".

ربح لأنه قدم برهان صدقه. وأي برهان هو أوضح وأجلى من تنازل المرء عن ماله الذي أفنى عمره في جمعه.

إنها هجرة حب المال إلى مآل الحب؛ حب الله ورسوله والمؤمنين.

"هل أنت إلا أصبع دميت *** وفي سبيل الله ما لقيت"

قال ابن هشام: ".. أن رسول الله  r قال وهو بالمدينة: "من لي بعياش بن أبي ربيعة، وهشام بن العاصي؟" فقال الوليد بن الوليد بن المغيرة: أنا لك يا رسول الله بهما، فخرج إلى مكة، فقدمها مستخفيا. فلقي امرأة تحمل طعاما. فقال لها: أين تريدين يا أمة الله؟ قالت أريد هذين المحبوسين –تعنيهما- فتبعها حتى عرف موضعهما، وكان محبوسين في بيت لا سقف له فلما أمسى تسور عليهما .. ثم حملهما على بعيره وساق بهما، فعثر فدميت أصبعه فقال:

"هل أنت إلا أصبع دميت *** وفي سبيل الله ما لقيت"

معاناة شديدة للصحابيين الجليلين، وتعذيب وأذى من قبل قومهما، لصدها عن الهجرة إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. وحرص من المصحوب الأعظم، عليه أفضل الصلاة والسلام، واستجابة سريعة لندائه.وهبة لإنقاذ الأخوين، دون اكتراث بما يمكن أن يكون من أذى. إنه هجر التردد والخوف والاستكانة.

والمهاجر إلى الله ورسوله، كل عمله لله، "قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين"الأنعام163، وما تصيبه من مصيبة صغيرة أو كبيرة إلا يحتسبها عند الله عز وجل.فاللهم اجعلنا من المهاجرين إليك وإلى رسولك الكريم.

منازل المهاجرين بالمدينة

قال ابن إسحاق : ونزل عمر بن الخطاب حين قدم المدينة، ومن لحق به من أهله وقومه وأخوه زيد بن الخطاب، وعمرو وعبد الله ابنا سراقة بن المعتمر وخنيس بن حذافة السهمي - وكان صهره على ابنته حفصة بنت عمر فخلف عليها رسول الله  r بعده - وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل، وواقد بن عبد الله التميمي، حليف لهم وخولي بن أبي خولي ومالك بن أبي خولي حليفان لهم.

قال ابن هشام : أبو خولي من بني عجل بن لجيم بن صعب بن علي بن بكر بن وائل.

قال ابن إسحاق : وبنو البكير أربعة هم إياس بن البكير، وعاقل بن البكير، وعامر بن البكير، وخالد بن البكير وحلفاؤهم من بني سعد بن ليث على رفاعة بن عبد المنذر بن زنبر، في بني عمرو بن عوف بقباء وقد كان منزل عياش بن أبي ربيعة معه عليه حين قدما المدينة .

ثم تتابع المهاجرون، فنزل طلحة بن عبيد الله بن عثمان، وصهيب بن سنان على خبيب بن إساف أخي بلحارث بن الخزرج بالسنح.

قال ابن هشام : ويقال يساف فيما أخبرني عنه ابن إسحاق. ويقال بل نزل طلحة بن عبيد الله على أسعد بن زرارة أخي بني النجار.

قال ابن هشام : وذكر لي عن أبي عثمان النهدي أنه قال: بلغني أن صهيبا حين أراد الهجرة قال له كفار قريش : أتيتنا صعلوكا حقيرا، فكثر مالك عندنا، وبلغت الذي بلغت، ثم تريد أن تخرج بمالك ونفسك، والله لا يكون ذلك، فقال لهم صهيب أرأيتم إن جعلت لكم مالي أتخلون سبيلي ؟ قالوا : نعم. قال فإني جعلت لكم مالي. قال فبلغ ذلك رسول الله  r فقال " ربح صهيب ربح صهيب ".

نزول طلحة وصهيب على خبيب بن إساف

فصل وذكر نزول طلحة وصهيب على خبيب بن إساف ويقال فيه يساف بياء مفتوحة في غير رواية الكتاب وهو إساف بن عنبة ولم يكن حين نزول المهاجرين عليه مسلما في قول الواقدي بل تأخر إسلامه حتى خرج رسول الله -  r - إلى بدر قال خبيب فخرجت معه أنا ورجل من قومي، وقلنا له نكره أن يشهد قومنا مشهدا لا نشهده معهم فقال أسلمتما ؟ فقلنا : لا، فقال ارجعا، فإنا لا نستعين بمشرك.

وخبيب هو الذي خلف على بنت خارجة بعد أبي بكر الصديق واسمها : حبيبة وهي التي يقول فيها أبو بكر عند وفاته ذو بطن بنت خارجة أراها جارية وهي بنت خارجة بن أبي زهير والجارية أم كلثوم بنت أبي بكر مات خبيب في خلافة عثمان وهو جد خبيب بن عبد الرحمن الذي يروي عنه مالك في موطئه.

منزل حمزة وزيد وأبي مرثد وابنه وأنسة وأبي كبشة

قال ابن إسحاق : ونزل حمزة بن عبد المطلب، وزيد بن حارثة، وأبو مرثد كناز بن حصن.

قال ابن هشام : ويقال ابن حصين - وابنه مرثد الغنويان حليفا حمزة بن عبد المطلب، وأنسة وأبو كبشة، موليا رسول الله  r على كلثوم بن هدم أخي بني عمرو بن عوف بقباء ويقال بل نزلوا على سعد بن خيثمة ; ويقال بل نزل حمزة بن عبد المطلب على أسعد بن زرارة أخي بني النجار. كل ذلك يقال ونزل عبيدة بن الحارث بن المطلب، وأخوه الطفيل بن الحارث، والحصين بن الحارث ومسطح بن أثاثة بن عباد بن المطلب وسويبط بن سعد بن حريملة أخو بني عبد الدار وطليب بن عمير أخو بني عبد بن قصي، وخباب مولى عتبة بن غزوان، على عبد الله بن سلمة، أخي بلعجلان بقباء.

ونزل عبد الرحمن بن عوف في رجال من المهاجرين على سعد بن الربيع أخي بلحارث بن الخزرج، في دار بلحارث بن الخزرج.

ونزل الزبير بن العوام، وأبو سبرة بن أبي رهم بن عبد العزى، على منذر بن محمد بن عقبة بن أحيحة بن الجلاح بالعصبة دار بني جحجبى.

ونزل مصعب بن عمير بن هاشم، أخو بني عبد الدار على سعد بن معاذ بن النعمام أخي بني عبد الأشهل في دار بني عبد الأشهل.

ونزل أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة، وسالم مولى أبي حذيفة.

قال ابن هشام : سالم مولى أبي حذيفة سائبة لثبيتة [ أو نبيتة ] بنت يعار بن زيد بن عبيد بن زيد بن مالك بن عوف بن عمرو بن عوف بن مالك بن الأوس، سيبته فانقطع إلى أبي حذيفة بن عتبة بن ربيعة فتبناه فقيل سالم مولى أبي حذيفة ويقال كانت ثبيتة بنت يعار تحت أبي حذيفة بن عتبة فأعتقت سالما سائبة. فقيل سالم مولى أبي حذيفة.

قال ابن إسحاق : ونزل عتبة بن غزوان بن جابر على عباد بن بشر بن وقش أخي بني عبد الأشهل في دار عبد الأشهل.

ونزل عثمان بن عفان على أوس بن ثابت بن المنذر أخي حسان بن ثابت في دار بني النجار، فلذلك كان حسان يحب عثمان ويبكيه حين قتل.

وكان يقال نزل الأعزاب من المهاجرين على سعد بن خيثمة، وذلك أنه كان عزبا، فالله أعلم أي ذلك كان.

أبو كبشة

وذكر أنسة وأبا كبشة في الذين نزلوا على كلثوم بن الهدم، فأما أنسة مولى رسول الله -  r فهو من مولدي السراة، ويكنى : أبا مسروح، وقيل أبا مشرح شهد بدرا، والمشاهد كلها مع رسول الله -  r - ومات في خلافة أبي بكر، وأبو كبشة اسمه سليم يقال إنه من فارس، ويقال من مولدي أرض دوس، شهد بدرا والمشاهد كلها مع رسول الله -  r - ومات في خلافة عمر في اليوم الذي ولد فيه عروة بن الزبير، وأما الذي كانت كفار قريش تذكره وتنسب النبي عليه السلام إليه وتقول قال ابن أبي كبشة وفعل ابن أبي كبشة، فقيل فيه أقوال قيل إنها كنية أبيه لأمه وهب بن عبد مناف، وقيل كنية أبيه من الرضاعة الحارث بن عبد العزى، وقيل إن سلمى أخت عبد المطلب كان يكنى أبوها أبا كبشة، وهو عمرو بن لبيد وأشهر من هذه الأقوال كلها عند الناس أنهم شبهوه برجل كان يعبد الشعرى وحده دون العرب، فنسبوه إليه لخروجه عن دين قومه. وذكر الدارقطني اسم أبي كبشة هذا في المؤتلف والمختلف فقال اسمه وجز بن غالب وهو خزاعي، وهو من بني غبشان.

وذكر نزولهم بقباء وهو مسكن بني عمرو بن عوف وهو على فرسخ من المدينة ، وهو يمد ويقصر ويؤنث ويذكر ويصرف ولا يصرف وأنشد أبو حاتم في صرفه

ولأبغينكم قبا [ و] عوارضا *** ولأقبلن الخيل لابة ضرغد

وكذلك أنشده قاسم بن ثابت في الدلائل قبا بضم القاف و[ فتح ] الباء وهو عند أهل العربية تصحيف منهما جميعا، وإنما هو كما أنشده سيبويه :

قنا وعوارضا، لأن قنا جبل عند عوارض يقال له ولجبل آخر معه قنوان وبينهما وبين قباء مسافات وبلاد فلا يصح أن يقرن قباء الذي عند المدينة مع عوارض وقنوين وكذا قال البكري في معجم ما استعجم وأنشد [ لمعقل بن ضرار بن سنان الملقب بالشماخ ].

كأنها لما بدا عوارض *** والليل بين قنوين رابض

وقباء: مأخوذ من القبو وهو الضم والجمع قاله أبو حنيفة وقال القوابي : هن اللواتي يجمعن العصفر واحدتهن قابية. قال وأهل العربية يسمون الضمة من الحركات قبوا، وأما قولهم لا والذي أخرج قوبا من قابية يعنون الفرخ من البيضة فمن قال فيه

قابية بتقديم الباء فهو القبو الذي يقدم ومن قال فيه قابية فهو من لفظ القوب لأنها تتقوب عنه أي تتقشر قال الكميت يصف النساء :

لهن وللمشيب ومن علاه *** من الأمثال قابية وقوب

وفي حديث عمر فكانت قابية قوب عامها، يعني : العمرة في أشهر الحج وقد ذكر أن قباء اسم بئر عرفت القرية بها.

سالم مولى أبي حذيفة

فصل وذكر سالما مولى أبي حذيفة الذي كان أبو حذيفة قد تبناه كما تبنى رسول الله -  r - زيدا، وكان سائبة أي لا ولاء عليه لأحد وذكر المرأة التي أعتقته سائبة وهي ثبيتة بنت يعار وقد قيل في اسمها بثينة ذكره أبو عمر وذكر عن الزهري أنه كان يقول فيها : بنت تعار وقال ابن شيبة في المعارف اسمها سلمى [ وقال ابن حبان : يقال لها : ليلمة ] ويقال في اسمها أيضا : عمرة وقد أبطل التسبيب في العتق كثير من العلماء وجعلوا الولاء لكل من أعتق أخذا بحديث النبي  r في ذلك وحملا له على العموم ولما روي أيضا عن ابن مسعود أنه قال (لا سائبة في الإسلام) ورأى مالك ميراث السائبة لجماعة المسلمين ولم ير ولاءه لمن سيبه فكان للتسييب والعتق عنده حكمان مختلفان وسالم هذا هو الذي أمر رسول الله  r سهلة بنت سهيل أن ترضعه ليحرم عليها، فأرضعته وهو ذو لحية. فإن قيل كيف جاز له أن ينظر إلى ثديها، فقد روي في ذلك أنها حلبت له في مسعط وشرب اللبن ذكر ذلك محمد بن حبيب.

موقفنا من الغير

ليكن معلوما أن الناس عندنا _ نحن العاملين في حقل الدعوة _ إما غير مسلم ، وإما مسلم

فأما غير المسلم : فيقام فيه الإنصاف في حدود الشرع ، وقد بيناه بوضوح في الدرس السابق .

وأما المسلم :

أ _ فإما أنه يحمل الوجهة الإسلامية الصحيحة ، وينعم بالفهم السليم ، وينخرط في صف الحركة والدعوة إلى الله بقوله وعمله .

وهذا الصنف : هو المكسب الحقيقي للدعوة ، والدعامة القوية للحركة .

ب _ وإما أنه يحمل الوجهة الإسلامية ، ولكن على غير الفهم الصحيح الشامل للدين

وهذا الصنف : يجب التعاون معه ، بقدر ما فيه من خير وصلاح ، مع التأكيد عليه في بيان المنهج الصحيح ، والفهم الشامل ، الواجب الإتباع ، دون تجريح للغير من الأشخاص أو الأفكار .

ج _ وإما أنه لا يحمل الوجهة الإسلامية بالمرة ، ويحمل غيرها ، وقد يكون معاديا للوجهة الإسلامية ، أو غير معاد .

وهذا الصنف : يحتاج معاملة خاصة ، يشوبها الحذر ، ويدفع إليها الأمل .

وإذا كان الصنف الثاني ، يشجعنا بوضعه على أن نتعامل معه ، أملا في توضيح الصورة ، ونوال النتيجة الطيبة لهم وللدعوة : فإنه لا ينبغي أن يترك الصنف الثالث نهائيا ، حيث إن كل أعداء الدعوة والمناوؤن لها ، ليس محكوما عليهم أزلا بدوام عدائهم لها ولأصحابها ، فسبحان مقلب القلوب .

ولذلك : علينا ونحن نتعامل مع هؤلاء أن يكون في حساباتنا وتوقعاتنا ، أن الله تعالى قد يصرف قلوبهم ، ويحول اتجاههم لمناصرة الدعوة بدلا من العداء لها ، أو على الأقل التعاطف مع أصحابها بدل التحامل عليهم .

وهذا يقتضينا : أن لا نقطع الأمل في رحمة الله ، وأن لا نسد الطريق أمام من تلمس قيادة الحركة الإسلامية الأمل فيهم أو الخير لديهم من هؤلاء .

وليس ذلك ببعيد على فضل الله تعالى فهؤلاء سحرة فرعون ، الذين كانوا من أعدي أعداء موسى عليه الصلاة والسلام

كانوا كفارا في صدر اليوم ، وهم الذين قال لهم فرعون ، استعداء ( إن هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما ويذهبا بطريقتكم المثلى * فاجمعوا كيدكم ثم ائتوا صفا وقد أفلح اليوم من استعلى ) وقد استجابوا للعداء ، و ( قالوا يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون أول من ألقى ) .

هم هم الذين صاروا في وسط اليوم مسلمين ، و ( قالوا آمنا برب هارون وموسى ) وصمدوا أمام التهديد والوعيد _ حينما قال لهم فرعون ( فلأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم في جذوع النخل ولتعلمن آينا أشد عذابا وأبقى ) _ ولم يكونوا في صمودهم صامتين أو خائفين ، بل كانوا شجعانا فدائيين ( قالوا لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والذي فطرنا فاقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا ) .

هم هم الذين أصبحوا في آخر اليوم _ لا تابعين لموسى ودعوته فقط _ بل تحولوا إلى دعاة معه لهذا الدين الذي كانوا يكفرون به في صدر يوم الزينة هذا ، اسمعهم وهم يدعون إلى الله تعالى ، حيث يقولون ( إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر والله خير وأبقى * إنه من يأت مجرما فإن له جهنم لا يموت فيها ولا يحيى * ومن يأته مؤمنا قد عمل الصالحات فأولئك لهم الدرجات العلي * جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء من تزكى ) "83 "

سبحان مقلب القلوب . . ! !

هو خالقها ، ومالكها ، ومقلبها . . ! !

وفي الحديث : " عن أنس قال : كان رسول الله  r ، يكثر أن يقول : يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك ، فقلت : يا رسول الله ! آمنا بك ، وبما جئت به ، فهل تخاف علينا ؟ قال : نعم . . إن القلوب بين إصبعين من أصابع الله يقلبها كيف يشاء " "84 "

ولذلك : لا يستطيع أحد أن يحكم بدوام فساد أحد أو صلاحه ؛ لأن ذلك في علم الله فقط .

وما دام الأمر كذلك : فلا داعي لأن نفقد الأمل _ في الإفادة للدعوة أو بالدعوة _ من أي أحد ، كل ما علينا : أن نعمل ما علينا بإتقان وإخلاص لما هو مطلوب منا ، وأن ندع النتائج ومدى الاستجابة ، وتصريف القلوب لله تعالى .

وهذا ما فعله النبي  r _ في هذا الدرس العظيم من دروس الهجرة _ مع سراقة بن مالك .

وقصته مشهورة في كتب السنة وكتب السيرة .

ومعلوم فيها ملاحقته ولحوقه برسول الله  r طمعا في الجائزة ، التي رصدتها قريش لمن يقتل مجمدا  r ، قبل أن يصل إلى غايته .

وفيها : " . . . فدنوت منهما ، حتى إني لأسمع قراءة رسول الله  r ، وهو لا يلتفت ، وأبو بكر يكثر الالتفات ، ثم ركضت الفرس ، فوقعت بمنخريها ، فأخرجت قداحي من كنانتي ، فضربت بها : أضره أم لا أضره ؟ فخرج لا تضره ، فأبت نفسي حتى أتبعه ، فأتيت ذلك الموضع ، فوقعت الفرس ، فاستخرجت يديه مرة أخرى ، فضربت بالقداح _ أي مرة ثانية _ أضره أم لا ؟ فخرج لا تضره ، فأبت نفسي ، حتى إذا كنت منه بذلك الموضع : خشيت أن يصيبني ما أصابني بأذيته ، فقلت إني أرى سيكون لك شأن فقف أكلمك ، فوقف النبي  r ، فسأله أن يكتب له أمانا ، فكتب له أمانا "

وفي رواية البخاري : " فناديتهم بالأمان ، فوقفوا ، فركبت فرسي ، حتى جئتهم ، ووقع في نفسي حين لقيت ما لقيت من الحبس عنهم : أن سيظهر أمر رسول الله  r ، فقلت له : إن قومك قد جعلوا فيك الدية ، وأخبرتهم أخبار ما يريد الناس بهم ، وعرضت عليهم الزاد والمتاع ، فلم يرزآني ولم يسألاني ، إلا أن قال : أخف عنا ، فسألته أن يكتب لي كتاب أمان ، فأمر عامر بن فهيرة فكتب لي في رقعة من أدم ، ثم مضى رسول الله  r .

ورجع سراقة ، فجد في الطلب ، فجعل يقول : قد استبرأت لكم الخبر ، قد كفيتم ما ها هنا "

" وكان أول النهار : جاهدا عليهما ، وآخره : حارسا لهما " "14 "

وفي رواية ثالثة : فالتفت أبو بكر ، فإذا هو بفارس قد لحقهم ، فقال : يا رسول الله ، هذا فارس قد لحق بنا ، فالتفت نبي الله  r ، فقال : اللهم اصرعه ؛ فصرعه الفرس ، ثم قامت تحمحم ، فقال : يا نبي الله مرني بما شئت ، فقال : قف مكانك ، لا تتركن أحدا يلحق بنا .

قال : فكان أول النهار جاهدا على نبي الله  r ، وكان آخر النهار مسلحة له " "14 "

إن سراقة قد تغير ، وغير خطته .

وما ذلك : إلا لأنه اقتنع أن هذا الرجل  r صادق في دعوته ، مؤيد من أجلها ، منصور بسببها .

ولذلك : رضي أن يذود عن رسول الله  r آخر النهار _ بعد أن كان يطارده في أوله _ وصار يصرف الناس عن ملاحقته في هذا الطريق الذي يسير فيه .

واللافت للنظر : أن النبي  r لم يقتله ، وكان يستطيع للعجز الذي أصاب سراقة وفرسه _ بل لم ينهره أو يعنفه ، أو يكذبه في صدق تحوله ، أو يرفض الإفادة منه وبه : إنما كان الأمر عكس ذلك تماما ، حيث اطمأن إليه ، وطلب منه أن يخف عنهما ، وذلك : بإتمام خطته في البحث عنهما من باب التعمية والتضليل على الكفار

والملاحظ : أنه إذا كان سحرة فرعون قد أسلموا في يومهم وأفادت منهم وبهم الدعوة : فإن سراقة لم يسلم في يومه _ بل ظل على شركه _ ومع ذلك أفادت منه وبه الدعوة .

وهذا الدرس العظيم من دروس الهجرة : يقتضينا أن نقف عنده بعض الشيء لنعي هذه الأمور : "59 "

أولا : بإمكان الحركة الإسلامية _ إفادة من هذا الدرس _ أن تأخذ من صفوف أعدائها من تتوافر القناعة عنده بانتصارها ، ليتعامل معها ، ويناصرها ، بشرط :

أ _ توافر القدرة على تحديد الصديق من العدو في صفوف الكفار ، والقدرة على تحديد من يرجى منه النفع في صفوف الأعداء .

ب _ أن يكون تقدير الأمر _ في ذلك _ للقيادة ، من خلال تعاملها ، أو فهمها لهذا أو ذاك ، أو من خلال من ترشحه القيادة للقيام بهذه المهمة .

إن المنطق الظاهري يقتضي قتل سراقة بن مالك لأنه قد يدل عليهما ، خاصة وأنه لم يسلم بعد ، ولكن تقدير رسول الله  r لشخصه : أنه صادق الولاء لهما ، وأنه تخلى عن عدائه لهذه الحركة ، أمام هذه المعجزات .

ثانيا : لا ينبغي أن يكون الحكم على الرجل أو الفئة من الناس من خلال الماضي القريب أو البعيد في عدائهم للإسلام .

فمناط الأمر : هو الثقة بتغير هذا الرجل ، أو هذه الفئة ، مهما كان ماضيه في الحرب ضد الإسلام .

ولأن هذا الحكم للقيادة : فلها _ من خلال تعاملها ، آو فهمها مع هؤلاء الناس _ الاجتهاد الأوفى في هذا الموضوع .

وإذا كان لرسول الله  r هذا الحكم بموجب الوحي ؛ ولذا لا يخطئ ، لأنه لا ينطق عن الهوى : فليس أمام قيادة الحركة الإسلامية سوى الاجتهاد في هذا الأمر .

ولذا : قد تخطئ القيادة في هذا الأمر وقد تصيب .

فإذا أصابت : فبها ونعمت .

وإذا أخطأت _ مثلا _ فلا غضاضة في ذلك ، ولا داعي لأن تقيم القاعدة الدنيا عليها لهذا الخطأ ، وحسبها أنها اجتهدت قدر طاقتها لصالح الدعوة .

إذ ينبغي أن يكون واضحا : أن الحركة الإسلامية في مسيرتها لإقامة دولة الإسلام ، قد تضطر إلى أن تتحالف مع عدو قريب ، وتتعاون معه ، بل تطلب منه جزءا من المناصرة جليلا أو يسيرا ، إذا اطمأنت إليه ، دون تفويت شئ من الدين ، أو ترخص في وسيلة : غير مشروعة .

وميزان هذا الاطمئنان : هو مدى ثقة هذا العدو بقوة الحركة الإسلامية .

ولذلك : فما على القيادة إلا أن تبذل الجهد في التأكد من هذه الثقة ، ولا شئ عليها بعد ذلك ، أصابت التقدير أو أخطأته .

ثالثا : إن سلوك الأعداء ، ومواقفهم من الحركة الإسلامية يجعل لدى الحركة حرية التعامل معهم من خلال المواقف ، بحيث يكون الأمر في النهاية لصالح الإسلام ودولته .

فهذا رسول الله  r : أعطى الأمان لسراقة بناء على : فهمه له ، وتقديره لموقفه ، وثقته في تغيره ، وقد أعلن سراقة مناصرته وولاءه ، ونفذ ما أعلنه والتزم به بناء على هذا الأمان .

ولذا : فالقيادة تستطيع أن تهادن وتؤمن وتستفيد بمن تشاء وممن تشاء ، بناء على تقديرها لهؤلاء الناس ، دون قيد لها ، أو حجر عليها .

وكم نتمنى للقاعدة الإسلامية الصلبة أن تكون عونا لقيادتها على هذا التحرك _ إفادة من هذا الدرس _ لا أن توجه لها سهام النقد والتجريح ، والاتهام في وعيها وحسن قيادتها على أقل الأحوال ، وقد يصل الاتهام إلى دينها في أغلب الأحوال

nassimbishra

اصبر على كيد الحسود فإن صبرك قاتله

  • Currently 30/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
10 تصويتات / 321 مشاهدة
نشرت فى 4 ديسمبر 2010 بواسطة nassimbishra

ساحة النقاش

نسيم الظواهرى بشارة

nassimbishra
موقع تعليمى إسلامى ، نهدف منه أن نساعد أبناءنا الطلاب فى كافة المراحل التعليمية ، وكذلك زملائى الأعزاء من المعلمين والمعلمات ، وموقع إسلامى لتقديم ما يساعد إخواننا الخطباء بالخطب المنبرية ، والثقافة الإسلامية العامة للمسلمين ، ونسال الله سبحانه وتعالى الإخلاص فى القول والعمل ، ونسألكم الدعاء »

تسجيل الدخول

ابحث

عدد زيارات الموقع

1,022,461

ملحمة التحرير