<!--<!--[if gte mso 10]> <style> /* Style Definitions */ table.MsoNormalTable {mso-style-name:"جدول عادي"; mso-tstyle-rowband-size:0; mso-tstyle-colband-size:0; mso-style-noshow:yes; mso-style-parent:""; mso-padding-alt:0in 5.4pt 0in 5.4pt; mso-para-margin:0in; mso-para-margin-bottom:.0001pt; mso-pagination:widow-orphan; font-size:10.0pt; font-family:"Times New Roman";} </style> <![endif]-->

بينما ينظر البعض إلى الهجرة كذكريات عطرة تتجدّد كل عام ، يرى الحكماء وأصحاب العقول الراجحة في هذا الحدث نصراً يُضاف إلى رصيد الجماعة المؤمنة ، وهروباً من حياة الظلم والاستعباد ، إلى الحياة الحرّة الكريمة ، وبداية مرحلةٍ جديدة من الصراع بين الإسلام والكفر ، والحق والباطل ، حتى صار تاريخاً للمسلمين يؤرّخون به أحداثهم .

وللوقوف على أهمّية الحدث ، واستشعار أبعاده ، يجدر بنا أن نعود إلى الوراء بضعة عشر قرناً من الزمان ، وتحديداً في العام الثالث عشر من البعثة ، حين نجحت جموع المؤمنين في الخروج من مكة ، واستطاعت أن تتغلّب على المصاعب والعقبات التي زرعتها قريشٌ للحيلولة دون وصولهم إلى أرض يثرب ، ليجدوا إخوانهم الأنصار قد استقبلوهم ببشاشة وجهٍ ورحابة صدر ، وفتحوا لهم قلوبهم قبل بيوتهم ، مما كان له أعظم الأثر في نفوسهم ، ولم يبق في مكّة سوى نفرٍ قليل من المؤمنين ما بين مستضعفٍ ومفتونٍ ومأسورٍ .

وهنا أحسّت قريشٌ بالمخاطر التي تنتظرهم ، وأدركت أنها لن تستطيع تدارك الموقف وإعادة الأمور إلى نصابها إلا بالوقوف بأيّ وسيلة دون إتمام هجرة النبي -  r -.

ونتيجةً لذلك ، كانت المؤامرات تدور في الخفاء للقضاء على النبي -  r - ، ففي يوم الخميس من شهر صفر اجتمع المشركون في دار الندوة وتشاوروا في الطريقة المُثلى لتحقيق مقصودهم ، فمن قائلٍ بضرورةِ قتله عليه الصلاة والسلام والتخلّص منه ، وآخر بحبسه وإحكام وثاقه ، وثالثٍ بنفيه وطرده ، حتى اتفقت الآراء على قتله ، ولكن بطريقة تَعْجَز بنو هاشم معها عن أخذ الثأر ، وذلك بأن تختار قريش صفوة فتيانها من جميع القبائل فيقوموا على النبي -  r - قومة رجلٍ واحد ويقتلوه ، ليتفرّق دمه بين القبائل ، وفي هذه الحالة لن تستطيع بنو هاشم أن تقاتل سائر الناس ، ولن يبقى أمامها سوى خيارٍ واحد هو قبول الدية ، وصدق الله عزوجل إذ يقول : { وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين } ( الأنفال : 30 ) .

ولم تكن قريش لتعلم أن الله سبحانه وتعالى أذن لنبيه بالهجرة إلى المدينة ، فبينما هم يبرمون خطّتهم ويحيكون مؤامرتهم كان النبي -  r - قد استعدّ للسفر ، وانطلق إلى بيت أبي بكر رضي الله عنه في وقت الظهيرة متخفّياً على غير عادته ، ليخبره بأمر الخروج

وخشي أبو بكر رضي الله عنه أن يُحرم شرف هذه الرحلة المباركة ، فاستأذن النبي -  r - في صحبته فأذن له ، فبكى رضي الله عنه من شدّة الفرح، وكان قد جهّز راحلتين استعداداً للهجرة ، فلما أعلمه النبي -  r -بقرب الرحيل قام من فوره واستأجر رجلاً مشركاً من بني الديل يُقال له عبد الله بن أُريقط ، ودفع إليه الراحلتين ليرعاهما ، واتفقا على اللقاء في غار ثورٍ بعد ثلاث ليالٍ ، في حين قامت عائشة وأختها أسماء رضي الله عنهما بتجهيز المتاع والمؤن ، ووضعا السفرة في وعاء ، وشقّت أسماء نطاقها نصفين لتربط السُفرة بنصفه وقربة الماء بالنصف الآخر ، فسمّيت من يومها بذات النطاقين .

وتسارعت الأحداث ، وحانت اللحظة المرتقبة ، وانطلق النبي -  r -متخفّياً إلى بيت أبي بكر رضي الله عنه ، وكان الميعاد بينهما ليلاً ، فخرجا من فتحةٍ خلفيةٍ في البيت ، وفي الوقت ذاته أمر النبي -  r - علي بن أبي طالب رضي الله عنه بأن يتخلّف عن السفر ليؤدي عنه ودائع الناس وأماناتهم ، وأن يلبس بردته ويبيت في فراشه تلك الليلة ؛ من أجل إيهام قريشٍ .

ونجح النبي -  r - وصاحبه في الفرار من بين أيديهم ، ولم يكشتفوا الأمر إلا عندما أصبح الصباح وخرج عليهم عليٌ رضي الله عنه وهو لابسٌ بردة النبي -  r -، فجُنّ جنونهم ، وأحاطوا به يسألونه عن النبي -  r - وهو يتظاهر بالدهشة وعدم معرفته بمكانه ، وانطلقت قريشٌ مسرعةً إلى بيت أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه ، لأنّهم يعلمون أنه صاحبه ورفيق دربه ، ولابد أن يصلوا من خلاله إلى معلومة تقودهم إلى وجهته ، إلا أنهم فوجئوا برحيله هو الآخر ، فساءلوا أسماء عن والدها ، فأبدت جهلها ، فغضب أبو جهل لعنه الله ولطمها لطمة أسقطت الحليّ من أذنها .

وبدأت محاولات المطاردة للنبي -  r -، فقاموا بمراقبة جميع منافذ مكّة مراقبة دقيقة ، وأعلنوا بين أفراد القبائل جائزة ثمينة لمن يأتي به حيّاً أو ميّتاً ، وأرسلوا كلّ من له خبرة بتتبّع الآثار ، وانطلقت جموعهم شمالاً علّهم يقفوا له على أثر .

وخالف النبي -  r - بذكائه وحنكته كل توقعاتهم ، فلم يتجه صوب المدينة مباشرة ، بل ذهب إلى جهة الجنوب حتى بلغ جبلاً وعراً يُقال له " جبل ثور " ، يوجد في أعلاه غار يصعب الوصول إليه ، ويمكنهم المكوث فيه إلى أن يهدأ الطلب .

وقادت الجهود قريشاً إلى غار ثورٍ ، وصعدوا إلى باب الغار ، وبات الخطر وشيكاً ، وبلغت أصواتهم سمع أبي بكر فقال رضي الله عنه : " يا رسول الله ، لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لأبصرنا " ، فأجابه الرسول -  r - إجابة الواثق المطمئنّ بموعود الله : ( يا أبا بكر ، ما ظنّك باثنين الله ثالثهما ؟ ) ، وصدق ظنّه بربه ، فإن قريشاً استبعدت وجود النبي -  r - في هذا المكان ، و انصرفت تجرّ أذيال الخيبة .

وأقام النبي -  r -في الغار ثلاث ليالٍ ، وكان عبدالله بن أبي بكر رضي الله عنهما يأتي كل يوم ليبلغهما أخبار قريش ، و عامر بن فهيرة يأتي بالأغنام ليشربا من لبنها ، ويخفي آثار عبدالله بن أبي بكر ، حتى جاء عبدالله بن أريقط في الموعد المنتظر ، ومعه رواحل السفر .

وفي ليلة الإثنين من شهر ربيع الأوّل انطلق الركب إلى المدينة متّخذاً طريق الساحل ، وظلوا يسيرون طيلة يومهم ، و أبو بكر رضي الله عنه يمشي مرّة أمام النبي -  r - ، ومرّة خلفه ، ومرّة عن يمينه ، ومرّة عن يساره ، خوفاً عليه من قريش ، حتى توسّطت الشمس كبد السماء ، فنزلوا عند صخرةٍ عظيمةٍ واستظلّوا بظلّها ، وبسط أبو بكر رضي الله عنه المكان للنبي -  r - وسوّاه بيده لينام ، وبينما هم كذلك إذ أقبل غلام يسوق غنمه قاصداً تلك الصخرة ، فلما اقترب قال له أبوبكر رضي الله عنه : لمن أنت يا غلام ؟ ، فقال : لرجل من أهل مكة ، فقال له : أفي غنمك لبن ؟ ، فقال : نعم ، فحلب للنبي -  r -في إناء ، فشرب منه حتى ارتوى .

وفي هذه الأثناء استطاع أحد المشركين أن يلمح النبي -  r - من بعيد ، فانطلق مسرعاً إلى سراقة بن مالك وقال له : يا سراقة ، إني قد رأيت أناساً بالساحل ، وإني لأظنّهم محمداً وأصحابه ، فعرف سراقة أنهم هُم ، ولكنّه أراد أن يُقنع الرجل بأنّه واهم حتى يفوز بالجائزة وحده ، ولبث سراقة في المجلس ساعة حتى لا يثير انتباه من معه ، ثم تسلّل من بينهم وأخذ فرسه ورمحه وانطلق مسرعاً ، فلما دنا منهم عثرت به فرسه حتى سقط ، فتشاءم من سقوطه ، وعاد مرة أخرى وامتطى فرسه وانطلق ، فسقط مرة ثانيةً وتعاظم شؤمه ، لكن رغبته في الفوز بالجائزة أنسته هواجسه ومخاوفه ، ولما اقترب من النبي -  r - غاصت قدما فرسه في الأرض إلى الركبتين ، وتصاعد الدخان من بينهما ، فعلم أنهم محفوظون بحفظ الله ، فطلب منهم الأمان وعاهدهم أن يخفي عنهم ، وكتب له النبي -  r - كتاب أمان ووعده بسواريْ كسرى ، وأوفى سراقة بوعده فكان لا يلقى أحداً يبحث عن النبي -  r -إلا أمره بالرجوع ، وكتم خبرهم حتى وصلوا إلى المدينة .

وفي طريقهم إلى المدينة نزل الرسول -  r -وصاحبه بخيمة أم معبد ، فسألاها إن كان عندها شيء من طعامٍ ونحوه ، فاعتذرت بعدم وجود شيء سوى شاة هزيلة لا تدرّ اللبن ، فأخذ النبي -  r -الشاة فمسح ضرعها بيده ودعا الله أن يبارك فيها ، ثم حلب في إناء ، وشرب منه الجميع ، وكانت هذه المعجزة سبباً في إسلامها هي وزوجها .

وانتهت هذه الرحلة بما فيها من مصاعب وأحداثٍ ، ليصل النبي -  r -إلى أرض المدينة ، يستقبله فيها أصحابه الذين سبقوه بالهجرة ، وإخوانه الذين أعدّوا العدة لضيافته في بلدهم ، وتلك وقفة أخرى .

ــــــــــــ


وصول رسول الله إلى المدينة

 

 

كان المسلمون في المدينة قد سمعوا بخروج النبي  r من مكة ، فكانوا يغدون كل غداة إلى ظاهر المدينة ينتظرونه ، حتى إذا اشتد الحر عليهم عادوا إلى بيوتهم ، حتى إذا كان اليوم الذي قدم فيه انتظروه حتى لم يبق ظل يستظلون به فعادوا ، وقدم الرسول  r وقد دخلوا بيوتهم ، فبصر به يهودي فناداهم ، فخرجوا فاستقبلوه ، وكانت فرحتهم به غامرة ، فقد حملوا أسلحتهم وتقدموا نحو ظاهر الحرة فاستقبلوه .

وقد نزل الرسول  r في قباء في بني عمرو بن عوف أربع عشرة ليلة وأسس مسجد قباء .

ولما عزم رسول الله صلى عليه وسلم أن يدخل المدينة أرسل إلى زعماء بني النجار فجاءوا متقلدين سيوفهم .

وقد سجلت رواية أن عدد الذين استقبلوه خمسمائة من الأنصار ، فأحاطوا بالرسول  r و بأبي بكر وهما راكبان ، ومضى الموكب داخل المدينة ، ( وقيل في المدينة : جاء نبي الله  r ) . وقد صعد الرجال والنساء فوق البيوت ، وتفرق الغلمان في الطرق ينادون : يا محمد يا رسول الله , يا رسول الله .

قال الصحابي البراء بن عازب - وهو شاهد عيان - : " ما رأيت أهل المدينة فرحوا بشيء فرحهم برسول الله  r "

أما تلك الروايات التي تفيد استقباله بنشيد ( طلع البدر علينا من ثنيات الوداع ) فلم ترد بها رواية صحيحة .

وأقبل رسول الله  r يسير حتى نزل جانب دار أبي أيوب الأنصاري فتساءل : أي بيوت أهلنا أقرب ؟ فقال أبو أيوب : أنا يا نبي الله ، هذه داري وهذا بابي . فنزل في داره .

وقد ورد في كتب السيرة أن زعماء الأنصار تطلعوا إلى استضافة الرسول  r ، فكلما مر بأحدهم دعاه للنزول عنده ، فكان يقول لهم : دعوا الناقة فإنها مأمورة فبركت على باب أبي أيوب ، وكان داره طابقين , قال أبو أيوب الأنصاري : " لما نزل عليّ رسول الله  r في بيتي نزل في السّفل وأنا و أم أيوب في العلو , فقلت له : يا نبي الله - بأبي أنت وأمي - إني لأكره وأعظم أن أكون فوقك ، وتكون تحتي ، فاظهر أنت في العلو ، وننزل نحن فنكون في السفل . فقال : يا أبا أيوب : إن أرفق بنا وبمن يغشانا أن نكون في سفل البيت . قال : فلقد انكسر حبّ لنا فيه ماء , فقمت أنا وأم أيوب بقطيفة لنا مالنا لحاف غيرها ننشف بها الماء تخوفاً أن يقطر على رسول الله  r منه شيء يؤذيه " .

وقد أفادت رواية ابن سعد أن مقامه  r بدار أبي أيوب سبعة أشهر .

وقد اقترعت الأنصار على سكنى المهاجرين ، وآثروهم على أنفسهم , فنالوا من الثناء العظيم الذي خلّد ذكرهم على مرّ الدهور وتتالي الأجيال ، إذ ذكر الله مأثرتهم في قرآن يتلوه الناس : { والذين تبوّأوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فألئك هم المفلحون} ( الحشر9) .

وقد أثنى رسول الله  r على الأنصار ثناء عظيماً فقال : ( لولا الهجرة لكنت امرءاً من الأنصار) و ( لو سلكت الأنصار وادياً أو شعباً لسلكت وادي الأنصار أو شعبهم)

وكان رسول الله  r يصلي حيث أدركته الصلاة ، ثم أمر ببناء المسجد في أرض كان فيها نخل لغلامين يتيمين من بني النجار .

وقد اشتراها رسول الله  r ، وقام المسلمون بتسويتها وقطع نخيلها وصفوا الحجارة في قبلة المسجد ، وما أعظم سرورهم وهم يعملون في بنائه ورسول الله  r يعمل معهم وهم يرتجزون :

اللهم إنه لا خير إلا خير الآخرة فانصر الأنصار والمهاجرة

وقد بناه أولاً بالجريد ثم بناه باللبن بعد الهجرة بأربع سنين ، وقد واجه المهاجرون من مكة صعوبة اختلاف المناخ ، فالمدينة بلدة زراعية ، تغطي أراضيها بساتين النخيل ، ونسبة الرطوبة في جوها أعلى من مكة ، وقد أصيب العديد من المهاجرين بالحمى منهم أبو بكر و بلال .

فأخبرت عائشة رضي الله عنها رسول الله  r فقال : ( اللهم حبّب إلينا المدينة كحبّنا مكة أو أشدّ ، وصححها ، وبارك لنا في صاعها ومدّها ، وانقل حمّاها فاجعلها بالجحفة) . وقال : (اللهم امض لأصحابي هجرتهم ، ولا تردهم على أعقابهم ) .

لقد تغلب المهاجرون على المشكلات العديدة ، واستقروا في الأرض الجديدة مغلبين مصالح العقيدة ومتطلبات الدعوة ، بل صارت الهجرة واجبة على كل مسلم لنصرة النبي عليه الصلاة والسلام ومواساته بالنفس ، حتى كان فتح مكة فأوقفت الهجرة لأن سبب الهجرة ومشروعيتها نصرة الدين وخوف الفتنة من الكافرين . والحكم يدور مع علته ، ومقتضاه أن من قدر على عبادة الله في أي موضع اتفق لم تجب عليه الهجرة منه ، وإلا وجبت . ومن ثم قال الماوردي : إذا قدر على إظهار الدين في بلد من بلاد الكفر ، فقد صارت البلد به دار إسلام ، فالإقامة فيها أفضل من الرحلة منها لما يترجى من دخول غيره في الإسلام .

وعندما دون التاريخ في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه اتخذت مناسبة الهجرة بداية التاريخ الإسلامي ، لكنهم أخروا ذلك من ربيع الأول الى المحرم لأن ابتداء العزم على الهجرة كان في المحرم ، إذ بيعة العقبة الثانية وقعت في أثناء ذي الحجة ، وهي مقدمة الهجرة . فكان أول هلال استهل بعد البيعة والعزم على الهجرة هلال المحرم ، فناسب أن يجعل مبتدأ التاريخ الإسلامي. والله الموفق والهادي الى سواء السبيل.

ــــــــــــ

 


دروس من الهجرة

 

الحَمْدُ لِلَّهِ نَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنا، مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هادِيَ لَهُ، وأشْهَدُ أنْ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ، وأشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ?يا أيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها، وَبَثَّ مِنْهُما رِجَالاً كَثِيراً وَنِساءً، واتَّقُوا اللَّهَ الذي تَساءَلُونَ بِهِ والأرْحامَ إنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً?[ النساء:1]. ?يا أيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وأَنْتُمْ مُسْلِمُون? [آل عمران:102]. ? يا أيُّهَا الَّذين آمَنوا اتَّقُوا اللَّه وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أعْمالَكُمْ، ويَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ، وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزَاً عَظِيماً? [الأحزاب:71].

أيها المؤمنون في توديع عام واستقبال عام تتزاحم الذكريات والعبر، وتتجلى في النفس اللوامة الحقائق والصور، حين تنظر إلى الماضي وتستشرف المستقبل.

أيها الناس: اتقوا الله تعالى وانظروا وتدبروا في هذه الأيام والليالي، فإنها مراحل تقطعونها إلى الدار الآخرة، وكل يوم يمر بكم، فإنه يبعدكم من الدنيا ويقربكم من الآخرة، فطوبى لعبد اغتنم فرصة العمر الذي يقربه من ربه وخالقه في فعل الطاعات والقربات واجتناب المعاصي والآثام.

طوبى لعبد اتعظ بما في الأيام والليالي من تقلبات الأمور والأحوال، طوبى لعبد استدل بتقلبها على أيام لله فيها من الحكم البالغة والأسرار واستدل بتلك الأحداث والأحوال على محدثها ومقلبها ومصرفها ? يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّأُوْلِي الْأَبْصَارِ?[النور:44].

أيها المسلمون: ألم تروا إلى هذه الشمس كيف تطلع كل يوم من مشرقها وتغيب في مغربها. وفي ذلك أعظم العظمة والاعتبار، فإن طلوعها ثم غيابها إيذان بأن هذه الدنيا ليست دار قرار ، وإنما هي ظهور ثم اختفاء وزوال ، ألم تروا إلى الشهور كيف تهل علينا يبدوا فيها الهلال صغيراً ثم ينموا رويداً رويداً، حتى إذا تكامل نموه، أخذ بالنقص والاضمحلال ، وهكذا عمر الإنسان سواء ، فاعتبروا يا أولي الأبصار: إذا تم شيء بدا نقصه .. ترقب زوالاً إذا قيل تم .

ألم تروا إلى هذه السنين والأعوام كيف تنتهي وتتجدد فإذا دخل عام جديد نظر الإنسان إلى آخره نظر البعيد، ثم تمر به الأيام سراعاً فينصرم العام كلمح البصر، فإذا هو في آخر العام، وهكذا عمر الإنسان يتطلع إلى آخره تطلع البعيد وينظر إلى الموت نظر الشاك المريب يؤمل الإنسان بطول العمر، ويتسلى بالأماني، فإذا بحبل الأمل قد انصرم وإذا بالموت قد هجم عليه ونزل وتحقق ما أخبر الله به ? وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ?[ق:19].

أيها المسلمون لقد ودعنا عاماً مضى وارتحل عنا بما فيه واستقبلنا عاماً جديداً فليحاسب كل منا نفسه ماذا قدم في العام الماضي؟ وبماذا سيستقبل العام الجديد؟ لنتدارك ما فات من الزلل والتقصير بالتوبة والاستغفار ولنعزم في بقية أعمارنا على الإيمان الصادق والعمل الصالح والإنابة إلى الله فإننا في زمن الإمكان، وقد أوصى النبي  r رجلاً بقوله: "اغتنم خمساً قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك"()

أيها المؤمنون يحتفل بعض الناس في بداية العام الهجري الجديد ويقيمون الخطب والمناسبات واكتفوا من سيرة النبي  r بالخفيف من المظاهر والرسوم ولا شك أن سيرة نبينا محمد  r بكل ما فيها من مواقف ووقائع جديرة بكل تدبر وتأمل يزيد في الإيمان ويزكي الخلق ويقوم السلوك.

إن الحب الصادق للرسول الحبيب محمد  r يستدعي عزماً صادقاً في الاستمساك بالأصول والحقائق التي جاء بها من عند الله والعض عليها بالنواجذ. إن الحب رخيصاً حين يكون زعماً وكلاماً ولكنه غال حين يكون عملاً وجهاداً وإقداماً ? قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ?[آل عمران:31 ].

أيها المؤمنون إن هجرة نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم معلم بارز في سيرته المباركة المليئة بالعظات والدروس والعبر.

وإن من الدروس العظيمة التي ينبغي أن يعيها المسلمون وهم يمرون بأخطر هجمة يهودية صليبية حيث يجندون العالم كله لاستئصال الإسلام والقضاء على المسلمين ومطاردتهم في كل أرض. هذا الدرس هو أن هذا الدين الذي أكرمنا الله به ورضيه لنا ديناً هو السياج الحامي لكل حق في الأنفس والأموال والأرض والحرية والكرامة، إذا حفظ الدين حفظت النفس وحفظ المال والثروات ، بصدق العقيدة تحفظ الأرض ويحفظ الأهل.

أيها المؤمنون: تهجر الأوطان ويضحى بالنفوس والمهج والثروات من أجل الحفاظ على الإيمان بالله ورسوله. إن درس الهجرة ليؤكد لنا بكل وضوح وجلاء أن التفريط في العقيدة مآله هلاك النفوس وخراب الديار. إذا فقد الدين فلن يغني من بعده وطن، ولا مال، ولا أرض. وإن من سنن الله الثابتة أن القوى المعنوية هي الحافظة للقوى المادية. العقيدة والأخلاق والتربية القويمة هي الوسائل الصحيحة للحصول على المكاسب العليا والحفاظ عليها. إن الهجرة في غايتها فرار بالدين وتلمس لطرق النصر وأمل في حصول الفرج وسعي إليه. إن ترك الديار والأوطان وهجرها والخروج منها فيه مشقة على النفس، إن ترك الدُّور والإخراج منها قريبة من القتل كما قال تعالى: ? وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ?[النساء: 66].

ولكن الله تعالى وعد المجاهدين في ذاته والمهاجرين في سبيله بالنصر والظفر في الدنيا والفوز والفلاح في الآخرة كما قال تعالى: ? وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى اللّهِ وَكَانَ اللّهُ غَفُوراً رَّحِيماً ?[النساء: 100].

وقال عن المرتد عن دينه الذين الذي لا يصمدون أمام المحن والفتن. ? لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرونَ ?[النحل: 109] وأثنى سبحانه وتعالى على الثابتين على دينهم والقابضين عليه على الرغم من كل أجواء الفتن والمحن فقال: ? ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُواْ مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ ثُمَّ جَاهَدُواْ وَصَبَرُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ?[النحل:110] وقال: ? وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ?[العنكبوت:69 ].

وإن من دروس هذه الهجرة المباركة كذلك التي ينبغي أن يعيها المسلمون جيداً هو أن الظلم والطغيان مهما اشتد وتناهى فإنه إلى انتهاء واندحار ، فلا يحل لمسلم يؤمن بالله واليوم الآخر أن يستسلم للباطل أو أن يدب اليأس والقنوط إلى نفسه. وإنما عليه أن يصبر ويصابر وأن يأخذ بالأسباب المتاحة أمامه معتمداً في ذلك كله على ربه وخالقه لاجئاً إليه متوكلاً عليه مفوضاً الأمور كلها إليه جل وعلا. فإن من توكل على الله كفاه، ومن لاذ به حماه، ومن استنصر به نصره ووقاه وإن خذله أهل الأرض أو كادوا به وفي هذه المعاني يقول الله عز وجل منوهاً بهجرة نبيه  r وبصاحبه وخليله أبو بكر: ? إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ?[التوبة:40 ].

أيها الناس : بادروا بالأعمال الصالحة قبل أن تشغلوا، فإن فتناً كقطع الليل المظلم تدع الحليم حيراناً، يصبح الرجل فيها مؤمناً ويمسي كافراً ، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً يبيع دينه بعرض من الدنيا ، لقد رأينا والله في زمننا من يبيع دينه وعرضه ووطنه وبلاده لليهود والنصارى بثمن بخس حقير قليل.

فعلى المسلم أن يتقي الله وأن يصبر ويثبت على دينه حتى يلقى الله.. واعلموا أن أمامكم أياماً فاضلة كان نبيكم  r يخصها بصيام ويحث على صيامها ، إنها عاشوراء ويوم قبله أو يوم بعده مخالفة لليهود، وفي هذا اليوم الأغر العاشر من محرم أهلك الله فيه طاغية من أعظم الطواغيت الذين ظهروا على مسرح الحياة إنه فرعون وجنده وأنجى الله بني إسرائيل من العذاب المهين الذي عاشوه ردحاً من الزمن ، وفي القرآن الكريم بسط لقصة موسى عليه السلام مع فرعون وملئه.. ثم كانت النهاية التي تنتظر كل جبار عنيد يستعلي في الأرض ويضطهد المستضعفين.

وحين أراد الله أن يهلك الطغاة الجبابرة من فرعون وقومه أمر نبيه موسى أن يخرج ببني إسرائيل ليلاً كما قال سبحانه: ? وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ إِنَّ هَؤُلَاء لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ فَأَخْرَجْنَاهُم مِّن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ فَلَمَّا تَرَاءى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ وَأَنجَيْنَا مُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَجْمَعِينَ ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ?[الشعراء:52-68] إنه يوم مشهود صامه نبي الله موسى ومن معه شكراً لله تعالى على هذه النعمة العظيمة نعمة إهلاك المجرمين ونصر المستضعفين، وصامه محمد  r وأمر بصيامه شكراً لله فصوموه أيها المؤمنون. وأنيبوا إلى ربكم وسلوه أن يهلك فراعنة العصر من اليهود والصليبيين والمنافقين المندسين في صفوف المسلمين الذين طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد، وكونوا أنتم مؤهلين للنصر والاستجابة بالاستقامة على أمر الله واجتناب الفواحش ما ظهر منها وما بطن.

واعلموا أن الأبواب كلها موصدة ولا نجاة للمسلمين اليوم إلا بالرجوع إلى الله وطرق بابه وصدق اللجوء إليه والضراعة والإخلاص هذا هو طريق الخلاص لا طريق غيره أبداً.

nassimbishra

اصبر على كيد الحسود فإن صبرك قاتله

  • Currently 30/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
10 تصويتات / 251 مشاهدة
نشرت فى 4 ديسمبر 2010 بواسطة nassimbishra

ساحة النقاش

نسيم الظواهرى بشارة

nassimbishra
موقع تعليمى إسلامى ، نهدف منه أن نساعد أبناءنا الطلاب فى كافة المراحل التعليمية ، وكذلك زملائى الأعزاء من المعلمين والمعلمات ، وموقع إسلامى لتقديم ما يساعد إخواننا الخطباء بالخطب المنبرية ، والثقافة الإسلامية العامة للمسلمين ، ونسال الله سبحانه وتعالى الإخلاص فى القول والعمل ، ونسألكم الدعاء »

تسجيل الدخول

ابحث

عدد زيارات الموقع

1,026,815

ملحمة التحرير