<!--<!--[if gte mso 10]> <style> /* Style Definitions */ table.MsoNormalTable {mso-style-name:"جدول عادي"; mso-tstyle-rowband-size:0; mso-tstyle-colband-size:0; mso-style-noshow:yes; mso-style-parent:""; mso-padding-alt:0in 5.4pt 0in 5.4pt; mso-para-margin:0in; mso-para-margin-bottom:.0001pt; mso-pagination:widow-orphan; font-size:10.0pt; font-family:"Times New Roman";} </style> <![endif]-->
لقد كانت هجرة الرسول -صلى الله عليه وسلم- من مكة إلى المدينة ثورة على الضعف والكبت، وانتفاضة على تحكم الباطل، وتضحية براحة الإنسان المستقر في بلده بين أهله وعشيرته، إلى حيث يقيم في مكان غريب عنه، لا يعلم حقيقة مصيره فيه، والهجرة كانت تضحية بكل ما يملكه المسلم من مالٍ، وما يتمتع به من جاه وسلطة، كل ذلك في سبيل الانتصار على شهوات النفس الأمّارة بالسوء، والجهر بالحق الذي عرفه وآمن به، وأحس بالسعادة الحقيقية لمعرفته فكانت الهجرة حجر الزواية لانتصار الدعوة الإسلامية.
لقد أصبحت هجرة النبي -صلى الله عليه وسلم- نجماً يتألق في سماء مجد الاسلام والمسلمين، وستظل درة في جبين تاريخ الإنسانية، لم تكن هجرة النبي - r هجرة استقرار وتنعُّم، بل كانت هجرة انطلاق وتحرر من قيود العبودية لشهوة النفس والجهل والشرك، هجرة إخاء وإيثار، آخى فيها رسولنا الكريم محمد -صلى الله عليه وسلم- بين المهاجرين والأنصار، وقد تم ذلك بصورة لم يعرف التاريخ مثيلاً لها، فقد تقاسم المهاجرون والأنصار كل شيء فيما بينهم، فكانوا مثالاً عظيماً للإخاء والسخاء والكرم، وهذا الأمر إنما يدل بشكل أو بآخر على مدى عظمة هذا الدين الحنيف الذي أخرج الناس من الظلمات إلى النور.
كانت هجرة النبي -صلى الله عليه وسلم-، هجرة إصلاح وتحرير، وفّق فيها بين الأوس والخزرج بعد أن كانت بينهم ثارات ودماء يستحيل تجاوزها. "واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً". ولكن الرسول العظيم استطاع من خلال تعاليم هذا الدين أن يجعل الأوس والخزرج أخوة في حب الله عز وجل، ولاننسى أن الله عز وجل يخاطب الرسول في قرآنه الكريم "وإنك لعلى خلق عظيم".
ويجب ألا تغيب عن بالنا هذه الهجرة بمعانيها العظيمة السامية وما فيها من عبر ومواقف، وعلينا أن نذكر كيف استطاع هذا النبي الأمي عليه الصلاة والسلام، أن ينشئ من شتات القبائل الضاربة في الصحراء والمتناحرة فيما بينها، أمة متحدة تدعو للحق والفضيلة... كل ذلك بأخلاق عظيمة ونفسية رقيقة متواضعة متسامحة ويتجلى ذلك في قوله تعالى في آل عمران: "ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاروهم في الأمر".
ولأن صحابة الرسول عليه الصلاة والسلام، أدركوا المعاني السامية لهجرة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، فقد جعلوها تاريخاً للأمة الاسلامية ففي السنة الثالثة من خلافة الفاروق عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، جمع صحابته من حوله وقال لهم: "إن الأموال قد كثرت وما قسمنا منها غير محدد بتاريخ ينضبط به، فكيف التوصل إلى ما يضبط ذلك؟ لقد رُفع إليّ صَكٌّ موعده شعبان فلا أدري أي شعبان هو؟ الذى مضى، أم الذي نحن فيه، أو الآتي؟ ضعوا للناس شيئاً يعرفون به".
فقام الصحابة بنقاشات فيما بينهم، فمنهم من قال: اكتبوا على تاريخ الروم، وقائل: اكتبوا على تاريخ الفرس، فأبى عمر إلا أن يجعل تاريخ الاسلام، إشارة إلى حادث إسلامي كبير. فأشار بعضهم بأن يجعلوه مولد الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأشار بعضهم إلى وفاته، وأشار علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن يكون موعد خروج النبي -صلى الله عليه وسلم- مهاجراً من مكة إلى المدينة مبدأ للتاريخ الإسلامي.
ومن هنا ندرك أهمية هذا الحدث العظيم في حياة المسلمين، فلتكن لنا هذه المناسبة، فرصة لاستذكار عبر دروس هذا الهجرة العظيمة وأن يجعل منها مناسبة لتنوير العقل بهدي النبوة العظيم من مكارم الأخلاق، وإلغاء الانانية، وتربية النفس على الإيثار، وتدارس تلك الأخلاق الانسانية التي تتجلى من حديث الرسول الكريم، يقول: "الخلق كلهم عيال الله، وأحب الخلق إلى الله أنفعهم لعياله" والحكمة النبوية القائلة "والراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء".
ولا ننسى أن أول عمل قام به النبي -صلى الله عليه وسلم- في المدينة هو بناء المسجد إيذاناً بمولد الدولة الفتية الجديدة القائمة على شرع الله فكانت الهجرة هي مولد الإسلام الحقيقي، حيث العناصر المتوفرة لإنشاء الدولة من شعب وأرض ودستور.
أما الشعب فيتكون من المهاجرين والأنصار، والأرض هي المدينة المنورة، والدستور هو القرآن الكريم الذي أصبح يمثل بشقيه المكي والمدني، موارد الشرع والدستور الإسلامي.
هذه العناصر مجتمعة أكسبت هذه الدولة شرعية في الوجود وبالتالي لابد من اعتراف الآخرين بها، وهذا ما فعله الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم-، عندما بعث برسائله إلى القبائل في جزيرة العرب ورؤساء الدول والملوك والقياصرة يدعوهم يها للإسلام، وبتلك الرسائل يكون الإسلام قد سبق الكثيرين ممن يعتبرون أنفسهم أصحاب الريادة في العلاقات الدولية.
فأهلاً وسهلاً بك يا عامنا الهجري الجديد، عدت إلينا كعادتك في كل سنة، لتذكرنا بهجرة النبي الكريم وأصحابه المؤمنين، وما كان لها من ثمرات يانعة، وبركات عظيمة على العرب، وعلى البشرية جمعاء.
ــــــــــــ
ساحة النقاش