<!--<!--[if gte mso 10]> <style> /* Style Definitions */ table.MsoNormalTable {mso-style-name:"جدول عادي"; mso-tstyle-rowband-size:0; mso-tstyle-colband-size:0; mso-style-noshow:yes; mso-style-parent:""; mso-padding-alt:0in 5.4pt 0in 5.4pt; mso-para-margin:0in; mso-para-margin-bottom:.0001pt; mso-pagination:widow-orphan; font-size:10.0pt; font-family:"Times New Roman";} </style> <![endif]-->
الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللهم لا نحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله، خير نبي أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيراً ونذيراً، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد صلاة وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.
أما بعد فيا عباد الله ها هي ذي فاتحة العام الهجري الجديد، تمر بالعالم الإسلامي يتيمة في أسرتها، غريبة في عالمها، لا تشعر بانقضاء ذلك العام الذي مضى، ودخول العام الجديد الذي أقبل، إلاّ قلة يسيرة ثم يسيرة من الناس، أما عامة أهل المجتمع والعالم الإسلامي ففي شغل شاغل عن الهجرة وعامها، وفي شغل شاغل عن بداية هذه السنة ونهايتها، وفي شغل شاغل عن عِبَرِ هذا العام وعظاته، يمر آخر هذا العام كما يقبل أوله، في مجتمعه في أسرته بين أهله يتيماً غريباً، بل أكثر من غريب، أين هي الاحتفالات والاهتمامات التي ما زلنا نتذكر أصداءها بمناسبات مشابهة مرت؟ أين هو الطنين والرنين؟ أين هي المشاعر الجياشة التي تهتاج في نفوس المسلمين لذكرى هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما جرّته معها من ذيول العِبَر والعِظات والدروس والانتصارات؟ لكن هذا هو حال عالمنا الإسلامي، وهذا هو حال الأسرة الإسلامية بخوض هذا العالم الذي يتماوج بالهرج والمرج كما تلاحظون، ومَعْلَمَة الهجرة ما هي أيها الإخوة؟ مَعْلَمَة الهجرة هي معلمة ولادة الدولة الإسلامية التي تجددت ببعثة رسول الله صلى الله عليه وسلّم، هجرة المصطفى عليه الصلاة والسلام، هي مَعْلَمَة تاريخ هذه الأمة، بهذه المعلمة نحصي التاريخ ونعده من ألف بائه إلى نهايته، هجرة رسول الله r هي الفيصل القاسم والحاسم، بين ماضٍ من الفقر المدقع وآتٍ من الغنى الذي لفت نظر العالم أجمع، معلمة الهجرة هي الفيصل الحاسم بين ماضٍ من الشتات والتفرق والتشرذم والتخاصم، وبين آتٍ من الوَحدة والتماسك التي غدت مضرب المثل، معلمة الهجرة هي الفاصل الحاسم بين ماضٍ من الضعف والمهانة وآتٍ من القوة والعزة التي كانت مضرب المثل في العالم، تلك هي معلمة الهجرة التي أكرم الله بها هذه الأمة من خلال شخص رسول الله ـ r ـ وهي المعلمة التي خلد بيان ـ عز وجل ـ حديثه عنها في قوله: {وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين} [الأنفال: 8/30] . فما هي نسبة العالم الإسلامي اليوم إلى هذه المعلمة التي أعزّتهم بعد ذل، ووحّدتهم بعد شتات، وأغنتهم بعد فقر، فانظر إلى العالم الإسلامي اليوم فتجده معرضاً عن هذا النسب، متجاهلاً لهذا الدرس، متجاهلاً بهذه القيمة كلها، أليس هذا هو واقع العالم الإسلامي اليوم؟ هل هنالك من مبالغة إن قلت: إن هذه المعلمة تمر بنا اليوم في نهاية عام مضى، ومقتبل عام جديد، تمر بنا يتيمة في أسرتها، غريبة في عالمها، ليس هنالك أي مبالغة لو أن هذه الأمة كانت أمينة على معاني الهجرة، يبقي غناها الذي ورَّثته إياها الهجرة النبوية الشريفة، ولبقيت عزتها التي ورَّثتها إياها الهجرة النبوية الشريفة، ولبقيت وحدتها التي ورَّثتها إياها الهجرة النبوية الشريفة، ولكن لما خلع العالم الإسلامي متجسداً في مظهر حكامه وأكثر أهله، لما خلعوا هذا الشرف وألقوه وراءهم ظهرياً، قال لهم الله: لقد أسلمتكم إلى ماتشاؤون، كانت العبرة التي يأخذها المسلمون من السلف الصالح من الهجرة عبرةٍ إيجابية، واليوم غدت العبرة التي نأخذها من الهجرة ـ وياللأسف ـ عبرة سلبية، بكل معنى الكلمة، سَلْ أكثر من تريد أن تسألهم من المسلمين اليوم عن اسم هذا الشهر الذي يمر بهم من الأشهر الهجرية، لن يستطيع أن يعطيك جواباً إلاّ بعد أن يعود فيتعلم ثم يخبر، بل لو سألتهم عن العام الهجري الذي يمرون به لن يعطيك جواباً، لأنه غريب عن عامه الهجري، معانق لذلك العام الأخر، أليس هذا هو الواقع المرئي؟ وأصغِ جيداً إلى أجهزة الإعلام في العالم الإسلامي كله، تَجِدْ كيف أن اسم العام الهجري يمر ذليلاً ولا يمكن أن يذل عند الله غريباً، ولا يمكن أن يكون غريباً في سماوات الله عز وجل يتيماً، ولا يمكن أن يكون يتيماً في ميزان الله عز وجل، لكنه يتيم اليوم بقرار من العالم الإسلامي الذي قضاه في حق نفسه، من هنا أيها الإخوة حاقت بنا المهانة التي نتأفف منها، ولو أننا فكرنا وقدرنا وتأملنا لوجدنا ـ يقيناً وبدون ريب ـ أن الغرب ليس هو الذي أبرم قضاءه الجائر في حقنا أن يذلنا ويهيننا ويقطع أوصالنا، ولكننا ـ نحن المسلمين ـ الذين أبرمنا هذا الحكم في حق أنفسنا، ثم إن الغرب جاء لينفذ ما قد قضيناه نحن، نحن الذين قضينا والغرب هو الذي ينفذ هذا هو الواقع، قال لنا عدونا في الغرب: دعوا حضارتكم الإسلامية، وتعالوا فاتبعوا الحضارة التي تملأ رحب العالم ألقاً، قلنا: نعم، لكم ما تطلبون، وهذا هو الحق، قال لنا الغرب الذي يعادينا ويحقد علينا وعلى كل شيء في تاريخنا: دعوكم من الإسلام الذي تقادم عهده، طوِّروه وبدِّلوه وغيِّروه، وتعالوا إلى النظم العجيبة العلمية والعلمانية التي تورثكم عزة ما بعدها عزة، قلنا: نعم، لكم ما تريدون حباً وكرامة، فعلنا ما يقول، قال لنا العدو الذي يفيض قلبه حقداً علينا وعلى تاريخنا وديننا: دعوكم من محور الدينِ الجامع هنالك محاور أخرى كثيرة متطورة تجمع الأمة وتقيم الوحدة، هناك محاور القوم، محاور وحدة اللغة ووحدة المصير، وما إلى ذلك، دعوكم من الدين الذي يثير عليكم الأقليات المختلفة، قلنا: حباً وكرامة، هذا هو الحق، سرنا وراءهم تماماً أذلاء خاضعين، كلما وُجِّه إلينا تعليم من تعليماتهم، رفعنا أيدي الاستسلام المهينة لهم، وقلنا: نعم، حباً وكرامة. فلماذا نستنكر إذا جاءت النتيجة الطبيعية لهذا كله؟ لماذا نستنكر إذا جاء هذا العدو بعد هذا كله، فقطع أوصالنا، ومزق كياناتنا، وسحقنا، وأقام المذابح للقضاء علينا، ولتطهير الجيوب الإسلامية في مجتمعاتنا؟ لماذا تنكرون النتيجة الطبيعية للمقدمات التي أنتم كنتم أبطالها، وأنتم الذين قررتموها، والمقدمات المنطقية لا بد أن ونتائجها المنطقية، أما هجرة المصطفى ـ r ـ فكانت ولا تزال تقول لنا من وراء حواجز القرون: تعالوا إلى النهج الذي أعز أسلافكم، وأنا الكفيل بأنه سيعزكم اليوم، تعالوا فالتزموا بما التزم به أولئك الذين أعرضوا عن الدنيا في سبيل الله، أعرضوا عن الوطن في سبيل العقيدة، أرأيتم كيف أن الهجرة أعادت إليهم الوطن عندما بقيت لهم العقيدة، تعالوا أفعلْ بكم هذا النصر ذاته، أحقق لكم هذا الأمر ذاته، أعرضتم. قالت لنا الهجرة ببليغ البيان: تعالوا فكونوا أمناء على معنى الهجرة كما كان أسلافكم، أمناء عليها تستغنون بعد فقر، يبقَ لكم ماضي غناكم، ويضيف الله ـ عز وجل ـ إليه غنىً جديداً، أرأيتم إلى أسلافكم الفقراء يوم نفضوا أيديهم من الدنيا كلها؟ من البساتين والعقارات والأموال المنقولة وغير المنقولة، في سبيل الهجرة، من أجل العقيدة، من أجل المبدأ، أرأيتم كيف أن الله أعاد إليهم الأموال، وأعاد إليهم أضعاف أضعاف أضعافها؟
ها أنا ذا إن كنتم أمناء على هجرة رسول الله ـ r ـ ومعانيها أضمن لكم الغنى بعد الفقر، أعيد إليكم مجدكم السابق، أعرضتم عن ذلك كله، أهابت بنا هجرة رسول الله وَيْحَكُمْ التفتوا إليَّ، هذا هو معين عزكم، هذا هو مصدر قوتكم، من هنا تستطيعون أن تدخلوا الرعب في قلوب أعدائكم، ونظرنا فلم نجد أذاناً تصغي إلى هذا الكلام بشكل من الأشكال، بل رأينا مَعْلَمَة الهجرة تخب فيما بيننا يتيمة في عالمها الإسلامي من شرقه إلى غربه، غريبة في هذا العالم من شماله إلى جنوبه، كلنا يلاحظ هذا المعنى أيها الأخوة، فهل بقي لنا لسان يعتب على الله؟ إذا كنا نسمع أو نرى ما الذي يحدث بإخوة لنا هنا أو هناك، ما ينبغي أن نكون متجاهلين لجرائمنا إلى هذا الحد، نجرم في حق أنفسنا ثم نعتب على الله، نحكم على أنفسنا بالانتحار، بالذل بالضيعة بالفرقة بالهوان، ثم نعتب على الله، لماذا سلط علينا هؤلاء الناس أو أولئك، قلت لكم أيها الإخوة: لا والله ليس هناك عدو يملك أن يقضي بحكم بحق العالم الإسلامي، لكن العالم الإسلامي هو الذي قضى بملء اختياره وحريته، بأن يحكم على نفسه بالانتحار المهين البطيء الذليل، ثم جاء العدو منفذ، نحن الذين حكمنا، وجاء العدو ينفذ ما قد حكمنا به، وخير الكلام ما قل ودل، ولا أجدني في هذا الموقف أمام هذه العبرة التي تمر بنا أو نمر بها، لا أجدني أستطيع أن أقول مزيداً على هذا الكلام .
ــــــــــــ
الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئ مزيده، ياربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، وصفيه وخليله، خير نبيٍ أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيراً ونذيراً، اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آل سيدنا محمد؛ صلاة وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم ـ أيها المسلمون ـ ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.
أما بعد، فيا عباد الله:
كلكم يعلم أن هجرة المصطفى r وأصحابه من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة، إنما كانت ابتلاءً وامتحاناً بين يدي النصر العظيم الذي قيضه الله سبحانه وتعالى لرسوله محمد r ولأصحابه البررة الكرام، وكلكم يعلم أن هذا الابتلاء القاسي إنما تمثل في الابتعاد عن الوطن وتركه، دون معرفة أيرجع أصحابه إليه أم لا، تمثل في ترك الأرض والمال والعقار، تمثل في ترك الزوجة في بعض الأحيان والأولاد والأسرة، قطع المسلمون أنفسهم عن حظوظهم كلها التي تعارضت مع اعتناقهم لدين الله سبحانه وتعالى وإخلاصهم له، ثم إنهم بعد أن قطعوا أنفسهم عن هذه الحظوظ كلها اتجهوا إلى تلك الأرض المعروفة بسوء مناخها، والمعروفة بوبائها، اتجهوا إلى يثرب وهم يعلمون أنهم إنما ينفذون في هذا أمر مولاهم وخالقهم سبحانه وتعالى، ولم يكونوا يتصورون أي جزاء يمكن أن ينالوه إن في الدنيا أو في الآخرة، كل ما في الأمر أن المصطفى r تلقى الأمر من ربه بأن يهاجر، فهاجروا معه، ونفضوا أيديهم في سبيل ذلك من المال والعقار والأهل والولد، واستقبلوا - كما قلت لكم - أرضاً معروفة بوبائها وسوء مناخها حتى إن المصطفى r دعا ربه قائلاً: ((اللهم حبب إلينا المدينة كما حببت إلينا مكة، وانقل وباؤها إلى مهيعة)).
ونظر المصطفى r إلى أصحابه وقد قطعوا أنفسهم من حظوظهم كلها فأشفق عليهم، رآهم جياعاً، رآهم عراة، رآهم تاركين لدنياهم معرضين عنها، فرفع يديه قائلاً: ((اللهم إنهم الغداة جياع فأطعمهم، اللهم إنهم عراة فاكسهم، اللهم إنهم فقراء فأغنهم))، ولست بصدد ذكر القصص التي كم وكم طرقت أسماعكم، ولكنا بذكر العبرة التي ينبغي أن نقطفها في عصرنا هذا من قصة الهجرة هذه، ما هي القوة التي بها نجحوا في ذلك الامتحان؟ ما هو الدافع الذي حملهم على أن ينفضوا أيديهم من كل ما كانوا يملكونه، وأن يتجهوا إلى المدينة المنورة وهم لا يملكون إلا ثقتهم بالله عز وجل وإيمانهم بضرورة الانقياد لحكمه؟ ما هو رأس مالهم الذي يسر لهم النجاح في ذلك الابتلاء؟ إنه الثقة بوعد الله؛ إنه الثقة بما ألزم الله عز وجل به ذاته العلية، سمعوا قوله عز وجل: {وَكانَ حَقّاً عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم: 30/47] سمعوا قول الله عز وجل: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [آل عمران: 3/160]، سمعوا قوله: {بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النّاصِرِينَ، سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِما أَشْرَكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً} [آل عمران: 3/150-151]، {لَنُهْلِكَنَّ الظّالِمِينَ، وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ} [إبراهيم: 14/13-14]، {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ} [القصص: 28/5] صكت هذه الوعود والعهود الربانية أسماعهم، وهيمنت على قلوبهم، وعلموا أنه كلام الله، وكلام الله عز وجل حق لا يلحقه خلف قط، هذا هو الذي شجعهم وهو الذي يسر لهم أن ينفضوا أيديهم من القليل الذي كانوا يملكونه من الوطن والأرض، والعقار والأهل، وكل ما يقف عثرة في طريق سعيهم وسلوكهم إلى الله سبحانه وتعالى، نجحوا في ذلك الابتلاء والامتحان بثقتهم بهذه الكلمات الربانية.
ومكان العبرة في هذا أيها الإخوة: أن هذا الذي يقوله الله عز وجل مكرراً مؤكداً، مكرراً مؤكداً، لم يكن خطاباً للرعيل الأول فقط، بل هو خطاب لعباد الله جميعاً، هو خطاب للمؤمنين في سائر العصور وفي سائر الأجيال {وَكانَ حَقّاً عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} لم يقل: نصر أصحاب رسول الله {وَكانَ حَقّاً عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ}. والخطاب إنما كان للمؤمنين كافة في كل العصور إذ قال: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ} وعندما قال: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا} [القصص: 28/5] إنما كان يعني البيان الإلهي المستضعفين من عباد الله المؤمنين به الواثقين بنصره في كل عصر وعندما قال: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ} [البقرة: 2/257] إنما كان البيان الإلهي ولا يزال يعني المؤمنين في كل عصر.
فما الفرق بين المؤمنين اليوم وبين أولئك المؤمنين من أصحاب رسول الله؟ أولئك الذين سمعوا هذه البيان المكررة والمؤكدة وثقوا بكلام الله وصدقوه ورأوا ما وعدهم الله به كأنهم يتقرونه عياناً، أما نحن فما أكثر ما نتلو هذه الآيات ونرددها، وما أكثر ما نسمعها في المناسبات المتنوعة المختلفة، لكن أين هم الذين هيمنت هذه العهود الربانية والمواثيق الإلهية على قلوبهم؟ أين هم الذين وثقوا بوعود الله وعهده الذي ألزم به ذاته العلية، كما وثق بها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ هذا هو فرق ما بيننا وبينهم، ومن ثم فهو هو فرق ما بين النتائج التي قطفها ذلك الرعيل الأول والنتائج المهينة المذلة التي نتقلب في حمأتها اليوم، أولئك وثقوا بعهد الباري سبحانه وتعالى، فتركوا الوطن، تركوا الدنيا، تركوا العشيرة، تركوا كل شيء، وعانقوا الوباء، عانقوا الأرض ذات المناخ السيئ، لأن عزائهم إنما هو قول الله عز وجل: {وَكانَ حَقّاً عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم: 30/47] نصرهم الله، أعادهم الله عز وجل أعزة كرماء إلى الوطن الذي نفضوا أيديهم منه، وأكرمهم بمزيد من الأوطان، بأضعاف أضعاف أضعاف الأموال الذي تركوها في سبيل الله سبحانه وتعالى، وصدق عليهم قوله عز وجل: {وَكانَ حَقّاً عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} وصدق عليهم قوله عز وجل: {بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النّاصِرِينَ، سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ} كل ذلك تحقق.
أما نحن، فها نحن نسمع هذه البيانات الربانية كما سمعوا، ونتأمل فيها بعقولنا كما تأملوا، ولكن أين هم الذين يحفلون بهذه البيانات الإلهية؟ أين هم الذين جعلوا عقولهم أوعية لليقين بهذه العهود التي ألزم الله عز وجل بها ذاته العلية، تأملوا وانظروا تجدون أن جل المسلمين اليوم محجوبون عن خطاب الله عز وجل يتعاملون مع أهوائهم، يتأملون مع غرائزهم، مع رغباتهم، يتعاملون مع دنياهم، أجل، ومن ثم فقد كانت النتائج في حياتنا على النقيض من نتائج أولئك الناس، أولئك أدخل الله عز وجل الرعب في قلوب الكافرين منهم، أما نحن اليوم فإنما يزيد الله سبحانه وتعالى قلوب الكافرين وأعداء هذا الدين منعة وقوة وطغياناً كلما أرادوا أن يتجهوا إلينا بعدوان، يريدون أن ينفذوا خططه، انظروا إلى النقيض أيها الإخوة، ورحم الله المثل القائل: ((المرء حيث يضع نفسه)). ضع نفسك في موضع الاعتزاز بالحق الذي ألزم الله به ذاته العلية، ضع نفسك في موضع اليقين بما وعدك الله عز وجل به، انظر كيف يدخل الله عز وجل الرعب منك في قلوب أعدائك وأعدائه، ولكن إن أنت أعرضت عن بيان الله عز وجل، وإن أنت نظرت إلى الدين نظرة تقليدية ولم تزد علاقتك به على علاقة الأمة بتراثها كما يقال اليوم، تراث، ليس أكثر من تراث، آل الدين الذي خلقنا لأجله، آلت العبودية التي هي هويتنا فوق هذه الأرض، آلت إلى تراث للآباء والأجداد، نرتبط به ضمن حدود المصالح، فإذا رأينا أن رغباتنا أهوائنا، مختلف أمزجتنا تعارضت، فما أيسر أن نعانق الحداثة والتجديد والتبديل والتغيير، ونعانق ما يدعونا إليه العدو الأرعن.
هذا واقعنا، ومن ثم فقد وكلنا الله عز وجل إلى أنفسنا، وكلنا الله عز وجل إلى هذا الوضع الذي تعاني منه نفوسنا، وإلا فمن أين جاءت هذه الغطرسة التي يتمتع بها العدو ضدنا؟ من أين جاء هذا الطغيان؟ قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، لا يمكن لأمة أن تذل وأن تهون إلا إذا قطعت ما بينها وبين الله عز وجل من صلات، ولا يمكن أن يسلط الله عز وجل عليها عدواً له وله إلا عندما تبتعد هذه الأمة عن العهد وتخون الأمانة وتلقي الخطاب الذي شرفها الله به وراءها ظهرياً، وهذا هو حالنا، هذا هو حالنا.
لا يقولن قائل: ها نحن نردد بيان الله صباح مساء، ها نحن نسمع القرآن من أفواه تطرب لها الآذان في مختلف الإذاعات والفضائيات، هذه أطر أيها الإخوة، انظروا إلى ما في داخل الأطر، ولا تنظروا إلى الإطار نفسه، الإطار مزركش وداخله مخجل، داخله مخجل نعم، هذا العدو الأرعن يسمعنا أن علينا أن نبدل ديننا، أن نبدل مناهج التربية في مجتمعاتنا، علينا أن نودع هذا الدين إلى غير رجعة، ويأتي من ينبطح في عالمنا العربي والإسلامي ويقول: إن بلسان الحال أو بلسان المقال: سمعاً وطاعة، سمعاً وطاعة، سنغير، سنبدل، أجل سنفعل ما تشاؤون. وأين هو الإله الذي يملك النواصي، الذي يملك القلوب، الذي قلوب العباد بين أصبعين من أصابعه، ويحكم أن بينكم وبين أن يطرد الله عدوكم من دياركم وبين أن يلحق به المهانة والذل شيئاً واحداً، هو أن تصدقوا مع الله كما صدق أصحاب رسول الله مع الله، هو أن تثقوا بهذه العهود المتكررة التي ألزم بها ذاته العلية: {وَكانَ حَقّاً عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} من يقول هذا الكلام الله: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ} [آل عمران: 3/160] من الذي يقول هذا الكلام الله: {بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النّاصِرِينَ، سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ} لكن إن آمنتم وإن وثقتم بكلام الله سبحانه وتعالى وجددتم العهد الصادق من الذي يقول: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ} الله سبحانه وتعالى. عندما نثق بهذا الكلام ونعاهد الله مجدداً كما عاهدنا، فإن الله عز وجل سيخلق في حياتنا خوارق النصر والتأييد، أما عندما نضع الخطط المتنوعة المختلفة التي تهدف إلى غاية واحدة، ألا وهو تمزيق هذا الدين، وتحويله إلى أمور ضبابية تصبح بعد حين أثراً بعد عين، كالتجديد، كالحداثة، كالعلمانية، كتبديل الخطاب الديني، كالتحويل، كالتبديل، هذه الكلمات التي تسمعونها خطط هي نتائج لخطط أجنبية أنا على يقين بها، المراد منها أن تخلع هذه الأمة رداء دينها، ومن ثم أن تخلع البقية الباقية من رداء حضارتها، من الذي يبقى لها؟ يبقى لها أن تتحول إلى أجراء، إلى عبيد يتقممون الحضارة الغربية الآسنة، التي ظهر ريحها وظهر أنها بلاء أطم يهلك الحرث والنسل، هذه هي العبرة التي ينبغي أن نأخذها من الهجرة، من هجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم.
ــــــــــــ
ساحة النقاش