لم اتردد كثيراً حين طلبت مني إدارة المجلة الموقرة أن أكتب مقالاً ليتم نشره في العدد الجديد ، ذلك أنه يوجد موضوع بات يفرض نفسه على تفكيري و سيطر على أولويات تناول عددا من الأفكار العلمية التي توارت مؤقتا لتحل بدلا منها قضية أزمة المهنة ووضعيتها في المجتمع المصري حالياً ، حيث أصبحت تؤثر تلك الوضعية على حال المؤسسات التى تمارس فيها و على منظماتها الأكاديمية و أيضاً على مستقبلها و فكرة تطورها أو حتى- ليأذن لي القارئ أن أقول- مجرد بقائها و منافستها لباقي المهن في السوق المصري.
التاريخ والمهنة :
1- و نبدأ من التاريخ،حيث يمكن أن نروي باختصار قصة نشأة المهنة في مصر من خلال ثلاث مراحل زمنية متعاقبة ، تبدأ أولاها ( بالمرحلة الأولى ) التي تزامنت مع بدء إنشاء أول مدرستين للخدمة الإجتماعية بالأسكندرية و القاهرة عامي 1936 و 1937 على التوالي و بدء الممارسة المهنية بوزارة التربية و التعليم (المعارف آنذاك) و استمرت هذه المرحلة -للأسف الشديد- سنوات قليلة ، لاتتعدى ما يقارب الخمسة عشر عاماً أو ما يزيد بقليل ، إذ حدث حراكا أيديولوجياً و سياسياً أثر على كافة مناحي الحياة في مصر نتيجة ثورة يوليو 1952، فقد شهدت تلك المرحلة الأولى ظهوراً طموحاً للمهنة نتيجة حركة الرواد الأوائل و التي تمثل أهمها في محاولة نقل ؛ آليات التعليم و الممارسة لمهنة إنسانية تعتمد على الديموقراطية والمرونة فى اتخاذ القرار وذات أسس علمية ؛ من المؤسسين الأوائل لها فى الولايات المتحدة الآمريكية وبعض دول أوروبا الغربية حيث تم وضع الأساس العلمي لتخصص مهني يساعد في حل المشكلات الفردية و الجماعية و المجتمعية في اتجاه تحقيق انتاجية متطورة للأفراد والمنظمات تساعد في نمو المجتمع و ارتقاؤه ، واعتمادا على حركة النقل و الترجمة الدقيقة آنذاك وضعت اللوائح العلمية لمناهج تعليم المهنة في مصر بمدرستي الخدمة الاجتماعية وتبعها انشاء المعهد العالى للخدمة الاجتماعية بالقاهرة الذى أصبح فيما بعد كلية الخدمة الاجتماعية بجامعة حلوان ، وتخرج بالفعل العديد من رواد المهنة في مصر ، إضافة إلى تأسيس الممارسة المهنية على منهج وفكرة الحرية في النموذج الليبرالي وعدم خضوع الممارسة للسيطرة الحكومية و محاولة تمكين الممارس من الإبداع و اتخاذ القرارات العملية لتحقيق الأهداف المهنية وفقاً لصالح العملاء و دعماً للتطور المهني فى اتجاة نمو وتقدم المجتمع . و نتيجة لذلك نرى في الكتابات العربية و الأجنبية على حد سواء عدد من النماذج المشرفة للممارسة المهنية فى مصر،والتى ظهر أهمها في مجال العمل الأهلى و ساهمت في إنشاء وزارة الشئون الإجتماعية مثل جهود ( الجمعية المصرية للدراسات الإجتماعية) و غير ذلك مما ورد في التراث الموثق مثل تجربة (المنايل و شطانوف) مما كان له بالغ الأثر الإيجابي المستمرعلى مسيرة المهنة في مصر حتى الآن .
2- وبقيام ثورة يوليو 1952 انتقل المجتمع المصري- فجأة- إلى عالم الأيديولوجية الإشتراكية التي تؤمن بسيطرة الدولة على كافة أنشطة الحياة الإقتصادية و السياسية و الإجتماعية ، وانعكس ذلك مباشرة على التعليم والممارسة لمختلف المهن ومنها الخدمة الاجتماعية ، و ظهرت القوانين المقيدة لحركة الإبداع و الإبتكار مثل قانون 32 لسنة 1964 الخاص بالمؤسسات و الجمعيات الخاصة و الذي اثر سلباً على حركة العمل الأهلي. وتأثرت الخدمة الإجتماعية بهذا التحول الأيديولوجي الجذري والمفاجئ ؛ حيث هى مهنة إصلاح وتعديل للسلوك الاجتماعى وتتأثر بالمناخ السياسى والاقتصادى السائد فى المجتمع و كانت مهنة وليدة و حديثة و تحتاج إلي بيئة ملائمة للنمو تتسم بتوفير المناخ الديمقراطي الذي يوفر الحرية في اتخاذ القرار واللا نمطية في أداء الخدمات و حرية العمل الأهلي غير الحكومي والاهتمام بالممارسة الخاصة المؤدية لتراكم الخبرات المهنية المتطورة، تلك الظروف التي اختفت- تقريباً- من الحياة السياسية والإجتماعية في مصر منذ قيام الثورة وإلى ما بعد حرب أكتوبر1973وحتى التسعينيات، مما يمكن اعتبار أن الخدمة الإجتماعية كمهنة و كنظام تعليمي صادفها حظ عاثر بسبب ذلك التغيير المشار إليه ، أثر سلبا على نموها فى الاتجاة الصحيح؛ فمثلا :
(أ) أفادت الحكومات الإشتراكية المتعاقبة بعد الثورة مهنة الخدمة الإجتماعية من المنظور الوظيفي للأخصائيين الإجتماعيين بشكل كبير على المستوى الأفقي (العرضي) ؛ حيث انتشر الأخصائيون الإجتماعيون في كافة المؤسسات الحكومية بقوة القوانين الإدارية كأحد نواتج التعليم العالى و اكتسبوا وضعية وظيفية مثلهم مثل باقي التخصصات وتدرجوا في درجات الترقي الحكومي مما ساعد على انتشار المهنة بشكل كان يؤهل لمزيد من التطور المهني إذا ما تم الإستفادة من تلك الفرصة التي سنحت لها،لكن ولعدم وجود بنيان مهنى راسخ نتيجة حداثة التكوين ؛ فقد فقدت الأساس الديمقراطي الذي قامت عليه فكرة الممارسة الحرة و الخاصة و تحول الأخصائي الإجتماعي إلى موظف حكومي بيروقراطي يطيع أوامر رؤسائه و يفتقد القدرة على اتخاذ القرار و يطبق مقررات مقننة سلفاً،واكتست الممارسة المهنية بالثوب الحكومي الخالص و نزعت عن كيانها رداء الولادة والتكوين الأصلي المتسم بالمرونة و الديمقراطية ، و صار الأخصائي الإجتماعي موظفاً منفصلا عن البناء العلمي و تحول إلى آداة إدارية للمؤسسة التى يعمل بها ،ولم يؤدي أفعالاً مؤثرة ومميزة مهنيا حتى أصبحت المهام التي يؤديها ممكنة الآداء من أي تخصص آخر حتى ولو كان مؤهلا متوسطاً ؛ وانغمست المهنة فى بوتقة العمل النمطى ونسيت طابعها العلاجى المعتمد على حرية اتخاذ القرار، وحرمت من الممارسة الخاصة ، حتى فى المجالات الأولية مثل الدفاع الاجتماعى ومجال الأسرة والطفل .
(ب) أما بالنسبة لتعليم الخدمة الاجتماعية فقد أفاد التحول الاشتراكى المهنة- أيضا - بالموافقة على الإنتشار العرضى لكليات و معاهد الخدمة الإجتماعية في مختلف محافظات مصر ، و اعترفت الحكومة بالدرجات العلمية من الدبلوم المتوسط و البكالوريوس إلى الدبلومات العالية و الماجستير و الدكتوراة، و أفادت فكرة ( التنسيق )- كقناة وحيدة للدخول إلى التعليم العالي - جميع الكليات و المعاهد المشار إليها ، حيث اكتظت بالطلاب الحاصلين على الثانوية العامة و الراغبين في الحصول على مجرد "شهادة عالية"- تلك القيمة التي توارثها المجتمع المصري في حقب الستينيات إلى منتصف التسعينيات وما زالت آثارها إلى الآن- حيث تتيح لهم العمل في الحكومة دون النظر إلى طبيعة التخصص المهني و اشتراطاته حتى لتحولت الاختبارات الشخصية المقررة لصلاحية دراسة الخدمة الإجتماعية إلى مجرد إجراء شكلي وروتيني. وعلى الجانب الآخر؛ اجتهد القائمون على أمر تعليم المهنة لتحقيق أهدافهم الشخصية والوظيفية والمهنية على قدر ما تحقق لهم من أسباب ، وحاولوا من خلال جهدهم العلمى تفسير أسباب نشأتها و برامج ممارستها و فلسفة تلك الممارسة و الأساليب و الأدوات و المهارات ، ولكن تلك الجهود جاءت بشكل فردى وبدون اطار تراكمى علمى مما أثر سلبا على مصداقية المهنة التى ادخلت في متاهات أعمال الخير و الإصلاح و ابتعدت عن التفسير العلمي المقنن لها نتيجة انحسار جهود الترجمة و التواصل العلمي مع المؤسسات الدولية اعتماداً على وجهة النظر التى تهتم بالكم لا بالكيف ولا تأبه بحوافز الربط بين التعليم والممارسة والتي ترى في الأخصائي الاجتماعي موظفاً لا حاجة له بآليات التطبيق الديموقراطى حتى صارت هناك عبر الفترة التي امتدت على ما يزيد عن الثلاثين عاماً ، اتجاهات جدلية تصارعت عند القائمين على التعليم لم تؤدي إلى التقدم ، بل أدت إلى مزيد من الإختلاف في وجهات النظر و الإبتعاد عن الأصول العلمية المقننة للمهنة ، وهو ما يتضح فى حركة البحث العلمى فى المهنة حيث لم تتطور إلى مزيد من التخصص و لكنها أصيبت بمزيد من التسطح و العمومية و افتقاد الرؤية الثاقبة لأهداف التخصص؛ هذه الإتجاهات مثل( التوطين أم التأصيل-المهنة علاجية أم تنموية – أسلمة الخدمة الإجتماعية- المهنة طرق أم مجالات-الممارسة الحديثة عامة أم طرق ......الخ) هى التى صارت تناقش في المؤتمرات و الأبحاث دون أن تضيف جديدا إلى عمق الممارسة؛ والدليل على ذلك بدا فى عدم التوصل إلى تقنيات متطورة فى علاج المشكلات التى يجب أن تتصدى لها المهنة واعتماد الممارسين على أساليب نمطية بيروقراطية لا تستند إلى العلم بقدر ما تعتمد على الاجتهادات الشخصية ، الأمر الذى لم يؤدى إلى تطوير الوضعية المهنية بل قام بتقييدها فى حدود الأزمة والتهوين المجتمعى . وكانت قد بدت اهتمامات القائمين على التعليم في مرحلة الستينيات و السبعينيات على وجه الخصوص بمحاولة الإلتقاء في نقطة واحدة مع اهتمامات النظام الاشتراكي و هو السائد في تلك الفترة فظهرت الكتب و المقالات التي حاولت أن تصبغ المهنة الديمقراطية في أساسها بالصبغة الإشتراكية ؛ فجاءت بعض العناوين مثل الخدمة الإجتماعية و الميثاق،خدمة الفرد في المجتمع الاشتراكي،التخطيط الإجتماعي في المجتمع الاشتراكي،تنظيم المجتمع و قضايا التنمية و تمحورت معظم الأبحاث حول أدوار الأخصائي الأجتماعي في العديد من المؤسسات بشكل عام غير متعمق ، وعنونت معظم البحوث بعناوين غاية فى العمومية مثل ( دور خدمة الفرد فى . . اسهامات تنظيم المجتمع فى. . مهام التخطيط الاجتماعى فى. . وهكذا) مما كان له بالغ الأثر فى حالة الأزمة المهنية التى أشرنا اليها .
(ج) وهنا تلزم الإشارة إلى أن ماحدث للمهنة فى مصر إبان فترة التحول الاشتراكى لم يكن بسبب أبناء المهنة أنفسهم فقط بقدر ما كان بسبب التحولات السياسية المتكررة التى لم تمهل للوليد أن يكبر ويشتد عوده ليستطيع أن يواجه التغيرات ويطوعها لصالحه ، ولكن تلك التحولات عصفت بالوليد وتركته ينمو ولكن بشكل غير صحى! واتسمت هذة المرحلة أيضا بنشأة نقابة الاجتماعيين مما يعد تطور مهم إلا أنها زاوجت فى ارتباط غير مبرر علميا بين خريجى الخدمة الاجتماعية وأقسام علم الاجتماع وعلم النفس ، وابتعدت أنشطتها عن تدعيم أبنائها والدفاع عن حقوقهم ولم تؤثر ايجابا فى مسيرة المهنة ، وغير ذلك فقد ظهرت مجموعة من القوانين والقرارات اليروقراطية التى تنظم عمل الآخصائيين الاجتماعيين فى المؤسسات المختلفة ولكنها لم تميز الخريجين عن خريجى علم الاجتماع وعلم النفس وغيرهما ، مثل ما يتعلق بشروط العمل فى جميع المؤسسات الحكومية وأهمها فى المجالات الأصيلة للمهنة مثل الدفاع الاجتماعى كرعاية الأحداث وغيرها ، مما ساهم أيضا فى أزمة الهوية حيث لم تجد المهنة من يدافع عنها وعن كينونتها سواء بالأساليب العلمية أو الدفاعية المجتمعية .
3- أما المرحلة الثالثة ؛ فيمكن تمييزها بعودة النظام السياسي مرة أخرى إلى الديموقراطية والاتجاة الاقتصادى الحر والبدء فى تدعيم العمل الأهلى وانسحاب السيطرة الحكومية عن معظم الأنشطة بالتدريج ،وكان من الواضح أنه بعد حرب وانتصار أكتوبر 1973 ، أن الدولة تنوي الاتجاة إلى أيديولوجية السوق الرأسمالى ، وسارت فى الثمانينات والتسعينيات صوب الانفتاح على الغرب ثم تغيير الأفكار والاتجاهات والقرارات المجتمعية شيئا فشيئا إلى حد اتباع جميع آليات هذا النظام الجديد كما نرى حاليا .
ومرة أخرى تسنح أمام المهنة فرصة ذهبية لإثبات الوجود والدخول بقوة إلى عالم المنافسة وإحداث التأثير فى المجتمع والناس ، ذلك أن الدولة أفصحت لكل من هو متأمل وقارئ ومفكر ومتعلم فى أى مجال كان ،عن أنها تسير وبإصرار فى اتجاة السوق الحر على كل المستويات ؛ وهى البيئة التى افتقدتها المهنة فى فترة التحول الاشتراكى ، فالأرض التى تحتاجها للحياة والنمو قادمة وبأسرع مما نتصور ويجب على جميع أبنائها أن يتحركون وبسرعة للإستفادة من هذا التغيير المرغوب من وجهة الأساس الفلسفى للمهنة .
لكن الأمور تأتى بما لا تشتهى السفن ؛ فاستمر حال الممارسة كما هو ولم يشعر الأخصائيون الاجتماعيون ( الأكاديميون والتنفيذيون ) بأى تغيير قادم وأى خطر يمكن أن يحدق بالمهنة نتيجة دخولها عالم المنافسة الحرة على مستوى المنظمات التنفيذية وأيضا التعليمية ، دون امتلاك أدوات وأساليب تلك المنافسة ، وكانت الأمثلة التالية هى بعض نتائج استمرار الانفصال عن الواقع السياسى والاقتصادى المعاصر :
(أ) بانتهاء سياسة التعيين والقوى العاملة وانتشار المنظمات الخاصة فى مختلف المجالات( المسشفيات – المدارس – المعاهد والجامعات الخاصة – المصانع والشركات . . . إلخ |) اختفت تقريبا وظيفة الأخصائى الاجنماعى ولنا أن نتصور الخطورة باستمرار استراتيجية الخصخصة على كيان المهنة فى المجتمع ، إذا لم يمتلك الأخصائيون الاجتماعيون المهارات والأدوات المهنية العلمية التى تمكنهم من التأثير فى وحدات المجتمع المختلفة ، والقدرة على التعامل مع فلسفة حرية رأس المال الخاص وما يترتب عليها من تداعيات مجتمعية ومهنية .
(ب) فيما يتعلق بالوزارة ( الشئون الاجتماعية ) التى من المفترض أنها ترعى المهنة مؤسسيا ؛ فقد اختفت فعلا وحلت مكانها وزارة التضامن التى تطبق فلسفة ( وزارة التموين سابقا ) من توزيع الدعم لمستحقيه ، والاهتمام بالبعد الاقتصادى لمساعدة الفقراء ومحدودى الدخل من خلال آليات جديدة ؛ مثل مشروع البطاقة الذكية ، وأن تتحول معظم الأموال التى تنفق على المؤسسات الاجتماعية إلى ذلك الاتجاة ، وأن السبيل المتاح لتلك المؤسسات للبقاء وتقديم الخدمات هو أن تتحول إلى وحدات انتاجية ، وتسعى للحصول علي منح ومساعدات الهيئات المانحة المحلية والدولية مع قليل من الدعم الحكومى المؤقت !- وبات الأمر خطيرا بالنسبة لمستقبل الاستقرار الوظيفى للموظفين الحكوميين بالوزارة ومنهم الأخصائيين الاجتماعيين من حيث التعرض لتداعيات سياسة الاتجاة نحو الاقتصاد الحر وتوجيه الميزانيات الحكومية بعيدا عن دعم التعيين الحكومى ، وكذلك دعم الخدمات الاجتماعية بمفهوم رعاية الفئات المحتاجة ، والاقتصار على الدعم النقدى والسلعى للفقراء.
(ج) ونتيجة لغياب التأثير المهنى فى المجتمع قامت وزارة الشئون الاجتماعية (سابقا) بإهداء وزارة الداخلية حق الإشراف والإدارة على مؤسستين من المفترض أنهما أساس العمل العلاجى فى الخدمة الاجتماعية فى مجال أصيل مهنيا وهو الدفاع الاجتماعى هما : المؤسسة العقابية بالمرج ثم أهم وأكبر مؤسسة لرعاية الأحداث فى مصر وهى دور التربية بالجيزة وتوارى الأخصائيون الاجتماعيون إلى صفوف المرؤسين لضباط الشرطة !
(د) ونأتى إلى مجال التنمية والعمل الأهلى ؛ حيث انتشرت الجمعيات الآهلية فى مجالات متعددة ، بيد أن معظم العاملين فى مستويات العمل الفنى والإدارى وكذا أعضاء المجالس الفوقية التى انتشرت كتعبير عن اتجاة الدولة لدعم المنظمات غير الحكومية ، هم من غير المتخصصين فى الخدمة الاجتماعية ، ويظل اختراق هذا المجال المهم أمر مرهون بالقدرات الشخصية والرغبة فى التطوع والانخراط فى العمل الأهلى والعام . وفى معظم الدورات التدريبية للعاملين بالجمعيات الأهلية وفروع المنظمات الدولية بمصر والعديد من المؤتمرات المعنية التى شارك فيها كاتب المقال ، كان نصيب الأخصائيين الاجتماعيين من العمل والحضور والاشتراك ضئيلا إذا ما قورن بغيرهم .
(هـ) وعلى المستوى الأكاديمى ،وبينما العالم كله يتجه –وفقا للأيديولوجية الديموقراطية وحسب الإعلان العالمى للتعليم العالى فى القرن الحادى والعشرين – إلى مناهج تعتمد الاستقلالية والهوية المحلية والارتباط بالمجتمع المحلى أسلوبا لها ، مع عدم الإخلال بالأطر العلمية للتخصص؛ نجد أنه قد أنشئت كليات للخدمة الاجتماعية بنفس لوائح كليات قائمة بالفعل فى محافظات أخرى ، وصدر قرار وزارى فى منتصف التسعينيات بتوحيد لوائح المناهج والدراسة فى جميع المعاهد العليا للخدمة الاجتماعية فى مصر !
(و) صدرت تقارير(يمكن الرجوع إليها على شبكة الانترنت)عن الاتحاد الدولى لمدارس الخدمة الاجتماعية وغيره من المنظمات المعنية وذلك فى بداية التسعينيات ،تفيد بعدم وجود مدارس للخدمة الاجتماعية فى آفريقيا تقوم باتباع الأصول العلمية لتعليم المهنة سوى فى جنوب آفريقيا وأنه توجد مدارس فى زيمبابوى ونيجيريا تحاول اتباع أساليب علمية متطورة ، وأنه لا توجد قوانين مزاولة للمهنة إلا فى جنوب آفريقيا فقط ، حيث يمارس كثير من غير المتخصصين المهنة فى دول القارة الأخرى .
(ز) تحجز الخدمة الاجنماعية لنفسها مكانا ثابتا فى مؤخرة جدول رغبات الطلاب فى مكتب التنسيق مما يؤشر لدرجة الخطورة على مجرد البقاء لكيانات المؤسسات التعليمية ذاتها والعاملين بها بالتبعية من حال المنافسة الحرة فى السوق الآخذ فى التعاظم بين مؤسسات التعليم العالى فى جميع التخصصات ، من كليات ومعاهد عليا ومتوسطة – حكومية وخاصة – وانتساب وانتظام وتعليم مفتوح وموازى وأهلى . .إلخ!
(ح) لم تحاول نقابة الاجتماعيين أن تحرك ساكنا إزاء مشكلات المهنة مما ذكر آنفا أو الاستفادة من المنظور العلاجى للمهنة لتطوير الكوادر الإدارية والفنية للإخصائيين الاجتماعيين ولا حتى جهود الرعاية وتحقيق الهوية للمهنة والاستفادة من خبرات المؤسسات الدولية فى مصر فى الفترة الأخيرة.
ثانيا : الحال
تلك بعض الأمثلة من كثير يمكن قراءتها فى معرض بيان حال مهنتنا العزيزة والراقية فى محتواها وأهدافها - حيث هى تتعامل مع الإنسان من منطلق علاجى مثل مهنة الطب تماما ولكن فى الجوانب الاجتماعية - هذا الحال الذى كان نتاجا لتحولات سياسية واقتصادية فى المجتمع المصرى منذ خمسينيات القرن الفائت وحتى هذة الآيام ، إضافة لتقصير واضح من سدنة المهنة- وكاتب المقال أحدهم – ثم التأثيرات الحادثة على سوق التعليم والعمل بشكل مستمر ، وأيضا التقصير فى استخدام الجوانب الايجابية لتلك التأثيرات لصالح المهنة ، مما جعلها تعيش أزمة الوجود والهوية قبل التطوير ، فى سوق تتحكم فيه شروط الاقتصاد الحر وأيديولوجية الاتجاة الليبرالى وقاعدة العرض والطلب والبقاء للأقوى ، حيث لا مناص لها ولأبناءها من امتلاك شروط المنافسة .
والحقيقة أنه وإن كانت الصورة بها الكثير من السلبيات التي ينبغى الاعتراف بها قبل مواجهتها ، إلا أن الواقع شهد وما يزال العديد من الجهود الايجابية على المستوى العلمى والعملى وفى مجالات ومستويات الممارسة المهنية ، لكنها تتسم بالفردية وعدم الاستمرار ، والحاجة إلى التدعيم والتنسيق والعمل الدؤوب فى إطار المرجعية العلمية المقننة ، وبالتالى لم تفلح هذة الجهود والنجاحات المحدودة لتحقيق التطوير للحالة العامة للمهنة فى المجتمع المصري ، فى حين وصلت إلى مستوى مرموق ومتميز بين باقى المهن فى المجتمعات الأخرى خاصة آمريكا والعديد من دول أوروبا وآسيا وآمريكا اللاتينية وفى بعض بلدان آفريقيا .
ثالثا :الطريق لحاضر ومستقبل أفضل
( التعامل مع الأزمة للبقاء فى السوق )
قد يتصور قارئ ، أن حالة النقد السلبى والتشاؤم هى التى تسيطر على ذهن كاتب المقال ، ولكن العكس هو الصحيح ، فالتطوير هو الهدف ، والتفاؤل هو المبدأ ، والعمل الجاد هو المنهج ؛ وهو الذى يجب أن يبدأ بالمصارحة مع الذات ثم التشخيص والبحث عن العلاج ،وهى عمليات المهنة ذاتها فى التعامل مع عملائها لبلوغ الهدف . وتمتلك المهنة مقومات متعددة تجعل من التعامل مع الأزمة أمرا ممكنا :
- المؤسسات العلمية وإمكانياتها البشرية والمادية الهائلة
- خبرات متفرقة ولكنها متميزة فى العديد من المنظمات التنفيذية
- مناخ سياسى واقتصادى وايديولوجى مهيأ لقبول الخدمة الاجتماعية وممارستها العلمية المؤثرة الحقيقية
- نقابة قائمة فعلا يمكن تفعيلها وتطويرها
- تاريخ مهنى وأكاديمى يمكن تطويره والاستفادة من معطياته
ويرى – كاتب المقال – بعض ما يمكن تنفيذة للتعامل مع الأزمة فيما يلى : 1- فى البداية يجب أن يقتنع جميع أبناء المهنة بحالة الأزمة التى تتهددهم ، ويتفهمون أبعادها وخطورتها ، ويبتعدون عن المجادلة السفسطائية والتى كان لها دورا مهما فى إحداث هذة الحالة.
2- بعد ذلك ، ينبغى أن يدرك القائمون على أمر تعليم الخدمة الاجتماعية أن عليهم الدور الأكبر والأهم فى عملية الإنقاذ والذى يتمثل فى النهوض بالعملية التعليمية التى تنتج أخصائى اجتماعى قادر على المنافسة
3- ومن هنا يجب أن تبدأ على الفور عملية التطوير الذاتى للقدرات العلمية والمهنية لأعضاء هيئات التدريس وبكل ما تحملة هذة العملية من معانى ومستلزمات تؤهلهم للتأثير الايجابى فى اتجاة تخقيق هدف المنافسة
4- يجب أن تبدأ وعلى الفور أيضا ، وبجدية يغلب عليها هدف تحقيق صالح المهنة – عملية التطوير للمناهج التعليمية وفقا لأحدث الاتجاهات العالمية فى الخدمة الاجتماعية ، لتخريج أخصائى اجتماعى قادر على التواجد والمنافسة
5- وبالتوازى ، فإنه يجب البدء فى التطوير الشامل لنظم إدارة العملية التعليمية بكليات ومعاهد الخدمة الاجتماعية بحيث تستطيع المنافسة والبقاء واكتساب القدرة على جذب طلاب يرغبون فى تعليم الخدمة الاجتماعية ، وتقديم خدمة تعليمية وطلابية متميزة لهم.
6- ولزاما لهذا التطوير ، يجب أن تحدث ثورة فى حركة البحث العلمى فى الخدمة الاجتماعية على جميع المستويات ، منها مايتعلق ببحوث الحصول على الدرجات العلمية من البكالوريوس إلى الدكتوراة وما بعدها من بحوث الترقيات إلى وظائف الأساتذة والأساتذة المساعدين ، ومنها ما يتعلق بالبحوث العملية فى المنظمات المختلفة ، حيث ينبغى على الباحثين دراسة وفهم واعى ثم اتباع دقيق لآليات البحث العلمى المقنن بغرض تطوير أدوات وأساليب ومهارات المهنة بما ينعكس على قدرتها للتأثير فى المجتمع ووحداتة ، وهذا يتطلب ضرورة تجنب الظواهر السلبية عند عدد غير قليل من الباحثين والتى تبدو فى اعتمادهم على معاونين فى اجراء البحوث من مترجمين واحصائين وآحيانا أبعد من ذلك ، حيث أصبحت عملية البحث العلمى تتسم" بالمكيافيلية " وتقترب من ما هو أشبه بالسمسرة العلمية .
7- وهنا لا بد من الإشارة إلى ضرورة تطوير حركة الترجمة العلمية والدراسة الواعية لأحدث ما توصل إليه الغرب من أساليب علمية متخصصة وضرورة التواصل العلمى والبحثى مع المؤسسات العلمية فى الدول المتقدمة فى التخصص ، وأن تعتمد الكليات والمعاهد هذا الآسلوب طريقا لتطوير أعضاء هيئات التدريس بها.
8- وعن النقابة ؛ فينبغى أن تخرج عن هذا الصمت الرهيب فى اطار مصلحة المهنة وتعمل مع المتخصصين ( أكاديميا وتنفيذيا ) بجدية لتطوير حال الأخصائيين الاجتماعيين بمصر ودفعهم معنويا وماديا وتطوير كوادرهم الإدارية كمتخصصين فى العلاج الاجتماعى بالمؤسسات المختلفة ، وطرح مشروع قانون المزاولة المهنية بفكر علمى متخصص وتدعيمه للمرور فى القنوات التشريعية ، وغير ذلك من مهام جسيمة تدعو المهتمين بصالح المهنة إلى الإلتفاف حولها
9- أما الأخصائى الاجتماعى فى المؤسسات التنفيذية حكومية أم أهلية؛ فمن الثابت أنه تعرض لظروف خارجة عن إرادته جعلته "كبشا للفداء" لمجموعة متناثرة من التقلبات السياسية ، ولنقص واضح فى عمليات الإعداد العلمى والدعم النقابى والتشريعى ، إضافة إلى ظروف مادية ووظيفية متدنية ؛ إلا أن عليه مسئولية متعاظمة فى عملية الإنقاذ لمهنة فى وضع حرج ، تتمثل فى ضرورة التطوير الذاتى والتسلح بالعلم والدراسة المستمرة والكفاح قدر الطاقة لإثبات الوجود بالعمل الجاد والمثابرة ، وأحسب أن ذلك صعب ولكنه ليس بمستحيل عليه وهو المسئول عن عمليات التغيير والعلاج الاجتماعى .
10- أما بالنسبة لشباب الباحثين من المعيدين والمدرسين المساعدين وغيرهم ؛ فعليهم تقع مسئولية كبيرة للتعامل مع أزمة المهنة ، فالكبار ذاهبون وهم قادمون ، وسوف يتأثرون بتداعيات الأزمة أكثر من غيرهم ، فيجب أن يطرحون بعيدا كل قيم المكيافيلية السلبية ، ويعملون بجد واجتهاد فى اتجاة التطوير المعتمد على العلم وتقنياته .
11- وأخيرا – فالمجتمع بكل آلياته ووحداته ؛ أعتبره مسئولا عن صيانة وتدعيم مهنة مسئولة عن التغيير الاجتماعى وخاصة المنظمات المسئولة عن التعليم والعمل الاجتماعى ، فحماية المجتمع واستقراره مرهونة بدعم الأنظمة المكونة لذلك المجتمع ؛ والخدمة الاجتماعية وجدت لتبقى وتنافس وتقوم بدور متعاظم فى تطوير المجتمع وتقدمه –إن شاء الله تعالى