عندما تقرر أن تمسك بالقلم وتكتب فعليك أولاً أن تختار أي رسالة تريد أن تكتبها وتتركها من بعدك لأجيال أخرى تقرأها ، فبعض الرسائل تستحق أن تكتب بخيوط من ذهب ، وبعض الرسائل لا تساوي ثمن الحبر الذي كتبت به ، وسيكون الاختيار نابعا من مكنونات نفسك وما حملته من موروثات فكرية وثقافية ودينية وتنشئة اجتماعية ، ولن تستطيع مخالفة كل ذلك وإن اجتهدت، فما الكتابة إلا انتقاء يبرز على السطح من مخزون الروح، وأنت هنا أمام أمرين لا ثالث لهما ، فإما أن تكون صاحب رسالة سامية ، أو صاحب رسالة واهية أو زائفة ، فإذا كان اختيارك الاختيار الأول فلا تتخيل أنك ستسير على طريق مفروش بالورود، فالأنبياء والرسل أصحاب الرسالات السماوية كانت طرقهم مفروشة بالأشواك والمحن ، فقد خطت قدما رسول الله على الحجارة التي رماه بها صبية وسفهاء الطائف بأمر من ساستهم حينما ذهب إليهم يدعوهم إلى الإسلام حتى انتهت تلك الرحلة الشاقة التي أدمعت عينا رسول الله وأدمت قدماه لتتحول بلطف الله ورحمته إلى أعظم رحله شهدتها السماوات والملائكة والرسل أجمعين وهي رحلة الإسراء والمعراج التي وقف فيها رسول الله في حضرة ربه جل علاه ، ويشاء الله أن ينتصر الرسول والرسالة حتى وصل الإسلام إلى ما وصل إليه اليوم كشمس النهار لا تستطيع يد أن تحجب نورها وان اجتمعت أيدي البشر أجمعين .
إذن طريق الحق محفوف بالمكاره، لكنه باق كما وعد الله أن يذهب الزبد ولا يمكث إلا ما ينفع الناس ، فمن حمل الرسالة عليه أن يتحمل طول الطريق ومشاقه، ورغم علمنا تلك الحقيقة كثيرا ما ننساها حتى تصدمنا المواقف ونتيقن أنه لا فرار من تحمل المكاره .
لقد عاهدت الله ألا يكتب قلمي سوى رسالة حق أو خير تبقى لأجيال قادمة تهديهم الدرب، فكان الاختيار تقديم ملاحم بطولية لأبطال حقيقيين، واستبدال قدوة فاسدة أطلت علينا بوجهها القميء في دراما آو سينما آو حفل غنائي أو حتى برامج دعوية وسياسية بقدوة صالحة ، فقد باتت القدوة الفاسدة منتشرة مع الهواء الذي نتنفسه ، تغتال وتقتل زهرة شباب الوطن كما تقتلهم المخدرات التي سلبتهم عقولهم ونقاء دمائهم ، وكان القرار تقديم سلسة أبطال من مصر في أول إصدار لها عن ملحمة هجوم الضفادع البشرية على ميناء أيلات وتساءلت من يكون عدوا لعمل كهذا سوى الصهاينة الذين زلزل أبطالنا عروش طغيانهم وأمنهم الزائف ، وبدأت رحلة طويلة من الحوارات ، سفر متكرر إلى أبطالنا ذهابا وإيابا ، ثم كتابة الحوارات ثم المراجعة لعشرات المرات ، وبعدما انتهيت بحثت عن دار نشر متخيلة أن تفتح لي الدور أبوابها فكان الرد الصادم " نريد قصة عاطفية ولا نريد عمل كهذا " قلت انه عمل وطني ، قالوا " يهمنا البيع" ، وتكرر طرق الأبواب وتكرر نفس الجواب ، بكيت وبكيت مُر البكاء حتى وصلت إلى دار مختلفة تحمست للكتاب من مجرد سماع الفكرة وبعد الاطلاع على العمل المرسل عبر البريد الالكتروني وصلني الرد في نفس توقيت الإرسال من اليوم التالي "يشرفنا قبول العمل ومرسل شروط التعاقد مع تقديم تسهيلات لهذا العمل الخاصة دون غيره " .
لم تكن رسالة الدار إلا حقيقة أكدتها الأيام، أن الدار يقينا أحبت تقديم هذا العمل الوطني وسط زخم من الأعمال الواهية التي تطرح سنويا ولا تحمل سوى كل ما هو مًغيب للعقول ، ولا أدري لماذا تخيلت أن المكاره انتهت بالتعاون مع دار الأمة للأستثمارت الثقافية وللمرة الثانية أصطدم أنا ودار النشر ببعض المكتبات التي ترفض طرح الكتاب لديها لكونه عمل وطني لا يحقق المبيعات المرجوة منه ، بل وترفض كل التسهيلات ألمقدمه من الدار لطرح الكتاب لديها، وفي ذهول وقفت حائرة بين أرفف تلك المكتبات أتأمل الكتب المعروضة فوقها فهذه قصص أشباح وهذه قصص ماجنة وهذه قصص أسمع عن ما تحويه من ألفاظ نابيه وعبارات تغازل الغريزة ، وكتابي في يدي تأبى أن تلمسه أنامل صاحب المكتبة ، أدور بين الأرفف وتدور بي الأرض ، وتكاد حوائط المكتبة التي أطبقت علي أن تهشم أضلعي وهواها يخنق أنفاسي وروحي، وبعد عثرات وعثرات تكون اليد التي تنتشل روحي هي يد الدار وشبابها المخلص الوطني الخلوق بعبارة قالها صاحب الدار أستاذ محمد عشيبه " سنفعل الصواب دون ألنظر إلى ردود الأفعال الصادمة فأمام كل مكتبة فاسدة عشرات المكتبات الوطنية المخلصة التي طلبت الكتاب وسنشترك بمعرض الإسكندرية وبعده معرض بورسعيد " وكان قرارانا أن من لا يستطيع شراء الكتاب يستطيع الاطلاع عليه بمكتبة مصر العامة بكل محافظة نستطيع إهداءه لها ، فكما اخترت الطريق الشاق اختارت دار النشر نفس الطريق بصرف النظر عن العائد المادي بعدما وضعت سعر يكون في متناول القارئ العادي .
إن هذه التجربة جعلتني أكتشف أن المخدرات الفكرية تجارة أخطر بكثير من تجارة المخدرات فهي تزاول تحت مسمى الثقافة وتنمية الوعي ولها أباطرة مثل أباطرة تجارة المخدرات ولها مروجيها الذين يقصدهم شباب أكثرهم في سن المراهقة والمؤسف أنهم أتوا بصحبة أبائهم اعتقادا من الآباء أنهم يساهمون في تثقيف أبناءهم والحقيقة أنهم يدمرون عقولهم ولو أرهق الآباء أنفسهم في الاطلاع على تلك الكتب قبل اطلاع الأبناء عليها لأدركوا حجم الكارثة .
إن الثقافة ليست مسئولية كاتب فقط بل هي مسئولية دور النشر ومكتبات بيع الكتب ومسئولية القائمين على المؤسسات الثقافية في دعم الأعمال الجيدة ونبذ كل عمل يدمر عقول شباب هذا الوطن فكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته .