<!--
<!--<!--<!--
الـتنمية المسـتدامة
بين الحق في استغلال الموارد الطبيعية والمسئولية عن حماية البيئة
Sustainable Development
Between the Rightful Use of Natural Resources and the Duty of Care for the Environment
د.
27 رجب 1428هـ الموافق 10 اغسطس 2007م
التنمية المستدامة:
بين الحق في استغلال الموارد الطبيعية والمسئولية عن حماية البيئة
مقدمة
شهد العالم خلال العقود الثلاثة الماضية إدراكا متزايدا بأن نموذج التنمية الحالي (نموذج الحداثة) لم يعد مستداما، بعد أن ارتبط نمط الحياة الاستهلاكي المنبثق عنه بأزمات بيئية خطيرة مثل فقدان التنوع البيئي، وتقلص مساحات الغابات المدارية، وتلوث الماء والهواء، وارتفاع درجة حرارة الأرض(الدفء الكوني)، والفيضانات المدمرة الناتجة عن ارتفاع منسوب مياه البحار والأنهار، واستنفاد الموارد غير المتجددة، مما دفع بعدد من منتقدي ذلك النموذج التنموي إلى الدعوة إلى نموذج تنموي بديل مستدام يعمل على تحقيق الانسجام بين تحقيق الأهداف التنموية من جهة وحماية البيئة واستدامتها من جهة أخرى. وفي هذا السياق يشير كل من سوزان وبيتر كالفرت إلى أن البشرية تواجه في الوقت الحاضر مشكلتين حادتين، تتمثل الأولى في أن كثيرا من الموارد التي نعتبر وجودها الآن من المسلمات معرضة للنفاد في المستقبل القريب، أما الثانية فتتعلق بالتلوث المتزايد الذي تعاني منه بيئتنا في الوقت الحاضر والناتج عن الكم الكبير من الفضلات الضارة التي ننتجها. ونتيجة لذلك فقد أسهمت الضغوط المشتركة لكل من ازدياد الوعي بالندرة القادمة وتفاقم مشكلة السّمية في العالم إلى بروز مسألة الحفاظ على البيئة واستدامتها كموضوع مهم سواء في مجال الفكر أو السياسة (كالفرت و كالفرت 2002: 423). ففي المجال الفكري أسهم الشعور بالوضع المتدهور لبيئة الأرض في ظهور حقل معرفي جديد يعرف بالسياسة الإيكولوجية Ecopolitics التي عرّفها جيوماريز Guimaraes على أنها "دراسة الأنساق السياسية من منظور بيئي"، والذي يعني أن الإلمام بعلم الطبيعة يعتبر بنفس أهمية الإلمام بالعلوم الاجتماعية والثقافية والسياسية عند دراسة الأنساق الإيكولوجية وقدراتها(نقلا عن: كالفرت وكالفرت 2002: 423). ولذلك فإن شيوع فكرة التنمية المستدامة في أدبيات التنمية السياسية منذ منتصف ثمانينات القرن العشرين مثل في جزء منه محاولة لتجاوز إخفاق النظرية السلوكية في مجال التنمية، التي تبنت نموذج الحداثة، والبحث عن نموذج جديد يعمل على التوفيق بين متطلبات التنمية والحفاظ على بيئة سليمة ومستدامة.
أما على المستوى السياسي فقد بدأ المجتمع الدولي، منذ منتصف الثمانينات من القرن الماضي، يدرك مدى الحاجة إلى مزيج من الجهود السياسية والعلمية لحل مشاكل البيئة وعندها أصبح مفهوم التنمية المستدامة يمثل نموذجا معرفيا للتنمية في العالم، وبدأ يحل مكان برنامج "التنمية بدون تدمير" Development without Destruction الذي قدمه برنامج الأمم المتحدة للبيئة UNEP في السبعينات ومفهوم "التنمية الإيكولوجية" Ecodevelopment الذي تم تطبيقه في الثمانينات. ووصل الاهتمام العالمي بالقضية البيئية ذروته مع تبني مفهوم التنمية المستدامة على نطاق عالمي في مؤتمر قمة الأرضEarth Summit الذي عقد في مدينة ريو دي جانيرو عام 1992م. وقد برز هذا الاهتمام العالمي بقضية البيئة بوضوح في تأكيد منهجية التنمية الإنسانية، وفقا لتقرير التنمية الإنسانية العالمي الصادر عام 1995، على عنصر الاستدامة، من خلال التأكيد على عدم إلحاق الضرر بالأجيال القادمة سواء بسبب استنزاف الموارد الطبيعية وتلويث البيئة أو بسبب الديون العامة التي تتحمل عبئها الأجيال اللاحقة أو بسبب عدم الاكتراث بتنمية الموارد البشرية مما يخلق ظروفاً صعبة في المستقبل نتيجة خيارات الحاضر(UNDP 1995).
وتحاول حركة الاستدامة اليوم تطوير وسائل اقتصادية وزراعية جديدة تكون قادرة على تلبية احتياجات الحاضر وتتمتع باستدامة ذاتية على الأمد الطويل، خاصة بعدما أتضح أن الوسائل المستخدمة حاليا في برامج حماية البيئة القائمة على استثمار قدر كبير من المال والجهد لم تعد مجدية نظرا لأن المجتمع الإنساني ذاته ينفق مبالغا وجهودا أكبر في شركات ومشاريع تتسبب في إحداث مثل تلك الأضرار. وهذا التناقض القائم في المجتمع الحديث بين الرغبة في حماية البيئة واستدامتها وتمويل الشركات والبرامج المدمرة للبيئة في الوقت نفسه هو الذي يفسر سبب الحاجة الماسة لتطوير نسق جديد مستدام يتطلب إحداث تغييرات ثقافية واسعة فضلا عن إصلاحات زراعية واقتصادية.
مشكلة الدراسة
مثلت التطورات العلمية التقنية خلال النصف الثاني من القرن العشرين قاعدة أساسية لتشكل حالة جديدة من الحضارة الإنسانية تميزت بتحقيق إنجازات مذهلة في تقنيات الحاسوب ووسائل الاتصال فضلا عن عدد آخر من الإنجازات التقنية التي حازت على اهتمام كثير من المراقبين، لكنها في الوقت نفسه أهملت المشاكل المتعلقة بفرص بقاء الإنسانية في ظروف الأزمات البيئية الكونية المصاحبة لهذه الحالة الجديدة من الحضارة حيث يمكن ملاحظة الانخفاض النسبي في اهتمام كل من الجماعة العلمية والمجتمع السياسي بتلك المشاكل خاصة في ظل غياب طريق واقعي لحل مثل تلك المشاكل البيئية.
ففي النصف الثاني من القرن العشرين تبنت غالبية الدول الصناعية المتقدمة طريق التقدم المتنامي في العلم، والتقنية، وأساليب الإنتاج مما أدى إلى بروز ما أصبح يعرف بمجتمع المعلومات أو المجتمع ما بعد الصناعي الذي لم يعد يعتمد على نشاط الأفراد ولا على المجتمع ككل بقدر اعتماده على فرضية قدرة البشر على السيطرة على ذلك التقدم. وقد أرتبط تدشين مجتمع المعلومات هذا في الدول الصناعية المتقدمة بهيمنة فكرة "التفاؤل التقني" “technological optimism” التي بشر بها نموذج الحداثة التنموي والتي تفترض أن بزوغ فجر عصر التقنية يمثل إيذانا بعصر خال من المشاكل سواء في المجال الاجتماعي أو الاقتصادي، فضلا عن المجالات الأخرى ومن بينها المجال البيئي. إلا أن التطورات غير المنضبطة المصاحبة للتقدم الصناعي قد أسهمت من جانب أخر في تنامي سلسلة من المشاكل ذات الطابع البيئي، حيث أضحت قضايا التدهور البيئي، والتصحر، والفقر، وعدم المساواة الاقتصادية، والدفء الكوني، والانفجار السكاني، وتزايد معدلات انقراض الكائنات الحية بشكل مخيف، والأمطار الحمضية، واستنفاد طبقة الأوزون، وتلوث الماء والهواء والأرض تمثل واقعا مؤلما ملازما للحياة في العصر الحديث وخاصة مع تعزيز نموذج الحداثة المعولم والتقنيات المتطورة لقدرة البشر على الأضرار بالبيئة وببعضهم البعض بوتيرة لم يسبق لها مثيل.
ويطرح بروز هذه المشاكل البيئية وتفاقم حدتها عدة تحديات غير منظورة للعلوم الاجتماعية وللاهتمامات اليومية للمواطنين والحكومات والمصالح الخاصة، حيث لم يعد ما يواجهه العالم اليوم محصورا في الحالة التي صورها تقرير نادي روما الصادر عام 1972م بعنوان " حدود النمو The limits to growth" والمتمثلة في استنزاف الموارد الطبيعية(Meadows 1972) التي يمكن مواجهتها وإن كان بطريقة محدودة وغير كفؤة، من خلال إحلال رأس المال الطبيعي برأس مال مادي، سواء من خلال ابتكار منتجات جديدة تستبدل الموارد التي توشك على النفاذ (مثل استبدال النفط بالهيدروجين في مجال المواصلات) أو بواسطة تقنيات جديدة توسع نطاق المخزونات الحالية (الآت أكثر كفاءة في استخدام الطاقة)، بل إن ما يواجهه العالم اليوم يمثل ظروفا مختلفة بشكل جذري. ولذا يجب على المؤسسات القائمة أن تتعامل مع هشاشة الأنساق والعمليات الحيوية التي لا يمكن استبدالها بغيرها. فلا يمكن استبدال طبقة الأوزون، أو الاستقرار المناخي مثلا إلا عندما نجد كوكب آخر بديل يمكن للقاطنين على الأرض الهجرة إليه عندما تنقرض العمليات الطبيعية التي تدعم الحياة على الأرض!!
وبسبب تعاظم خطر تلك المشاكل من جهة وتقلص نسبة الموارد على الأرض وإضعاف قدرتها على تجديد ذاتها من جهة أخرى فإن هناك حاجة ملحة لترشيد التعامل الإنساني وذلك لأن نموذج الحداثة القائم الذي يعمل على الإيفاء بالاحتياجات المادية الحالية مع تجاهل تام للبيئة وللمستقبل لم يعد ملائما ولا كفؤا على المدى الطويل.
ويتمثل إسهام هذه الدراسة في توظيف كل من المنهج الوصفي والمنهج التحليلي النقدي لدراسة وتحليل أدبيات واتجاهات التنمية المستدامة من اجل تحقيق الأهداف التالية:
1- الاستعراض النقدي لمفهوم الحداثة والنتائج السلبية المترتبة على تبنيه في نظرية التنمية وخاصة في مجال البيئة.
2- التعريف بمفهوم التنمية المستدامة.
3- التعريف بوجهات النظر المختلفة حول الأزمة البيئية وسبل مواجهتها.
4- استعراض الجهود الدولية حيال تبني تنمية أكثر استدامة.
5- تقديم بعض التوصيات والاقتراحات فيما يتعلق بحماية البيئة والعمل على استدامتها.
نموذج الحداثة والتدهور البيئي
يشير التدهور البيئي الذي حدث معظمه خلال القرن الماضي إلى أن النموذج الاقتصادي المهيمن (الليبرالية الرأسمالية) هو "اقتصاد استخلاصي" يستنفد الموارد غير المتجددة، ويستغل الموارد المتجددة بدرجة أكبر من قدرتها على البقاء، ويتسبب في تغيير كيمائية الأرض وتشويه النظم البيئية عليها متسببا في حدوث أضرار لا يمكن إصلاحها لكل من الأرض والماء والهواء )انظر: (Coates 2003b:44-66. ولذا يمكن القول أن الاستغلال المفرط والتدمير المصاحب للتنمية هما نتاج للمجتمع الصناعي الحديث، وبخاصة منظومة قيمه ومعتقداته وبناءه السياسي. فبرغم أن لهذا النسق الاعتقادي "الحداثة" إنجازات عديدة إلا أن له جانبه المظلم أيضا متمثلا في الظلم الاجتماعي وإفساد البيئة، إلا أن معظم الناس منغمسون جدا في نموذج الحداثة هذا إلى درجة أنهم غير قادرين على إدراك أن "البناءات والعمليات التي تقوم عليها الحياة اليومية هي السبب في الدمار البيئي والظلم الاجتماعي" (Coates 2003a:27).
ويبدو أن الأسباب الرئيسة وراء قلة الاهتمام أو التصرف تنبع من ترسخ مجموعة معينة من القيم والمعتقدات والافتراضات القوية جدا ضمن نموذج الحداثة المهيمن والتي تحدد وتوجه الفعل الفردي والعام وتقف في طريق تطوير الناس والحكومات، وخاصة في الدول المتقدمة لاستجابات فعالة لتعزيز العدالة الاجتماعية والسلامة البيئية والانخراط فيهما. حيث يضع هذا النسق الاعتقادي المعروف "بالحداثة" ثقة مطلقة في التقنية والعلم، ولديه ثقة لا تتزحزح في النمو الاستهلاكي واقتصاد السوق. وقد عبر بول هاوكن Hawken عن هذا الأمر جيدا عندما صرح بأن الحداثة قد "أنتجت و بشكل طبيعي ثقافة تجارية مهيمنة تعتقد بأن كل حالات انعدام المساواة سواء الاجتماعية أو في الموارد يمكن حلها من خلال التنمية، والابتكار، والتمويل والنمو – النمو دائما" (Hawken 1993: 5).
وفي هذا السياق قدمت شارلين سبرتناك Spretnak وصفا لخصائص هذه الحداثة يتضمن مايلي:
1- Homo Economicus / أي أن الأولوية فيه تكون للرفاهية الاقتصادية التي ستقود إلى تحقيق الرفاهية في مجالات الحياة الأخرى.
2- النزعة التقدمية/ أي أن التقنية ستجد حلولا لكل المشاكل وأن الحالة الإنسانية سوف تتحسن بالتدريج من خلال الوفرة.
3- النزعة التصنيعية/ أي أن الإنتاج على نطاق واسع سيؤدي إلى تحقق الوفرة والتي بدورها ستؤدي إلى خلق نزعة استهلاكية.
4- النزعة الاستهلاكية/ إي أن استهلاك السلع المادية هو مصدر السعادة البشرية.
5- النزعة الفردية/ التي تشير إلى التنافس على المنفعة الفردية وإعطاء المصالح الفردية أولوية على المصالح العامة (Spretnak 1997:40-41).
ويعكس هذا التحيز المتأصل المعتقدات التي دفعت نحو الاستعمار، والتنمية الصناعية والاقتصادية، فضلا عن طريقة الاستجابة للمشاكل الاجتماعية والبيئية الناتجة عن ممارساتها. وضمن هذا النموذج المتمركز حول الإنسان (الأوربي غالبا) نظر إلى الأرض على أنها مجرد مصدر وافر وغير ناضب للسلع، وركزت عملية التقدم بشكل أعمى على تحويل الموارد الطبيعية (بوساطة التقنية) إلى سلع استهلاكية تتحول بشكل سريع جدا إلى نفايات. وبالفعل فإنه ينظر للاقتصاد المزدهر على أنه "اقتصاد متوسع" ينتج سلع مادية كثيرة لتستهلك ومن ثم يتخلص منها. وأعتبر الإبداع الإنساني من خلال التقنية قادرا على حل كل المشاكل مما يمكن التقدم من الاستمرار بدون توقف.
وقد هيمن هذا التركيز على دور الاقتصاد والنمو الاقتصادي على صناعة القرار الاقتصادي والسياسي، حيث أصبح الاقتصاد أساس المعنى والعلاقة في المجتمع الحديث (Rogers 1994: 86). فالنزعة الاقتصادية قوية جدا إلى حد النظر للاقتصاد كحقيقة ثابتة بدلا من أن يكون وسيلة لتحقيق حال أفضل. وضمن هذا النسق الإعتقادي تصبح النقود ومالكيها هي السلعة الأسمى، وتطغى معايير الحياة المترفة المسرفة المدفوعة بالنزعة الاستهلاكية الواسعة على كل الاعتبارات الأخرى، ويصبح السوق هو المحدد الأساسي لما يحدث في المجتمع، ويتعزز الاعتقاد بأن الوفرة (من خلال الإنتاج والاستهلاك الواسعين) ستحل كل المشاكل. ومن جانبها ساهمت وسائل الإعلام، وبخاصة التلفاز، الذي أصبح الأداة الرئيسة للتنشئة الاجتماعية في المجتمع الصناعي الحديث في التأكيد على أولوية الثروة والنقود في تحديد مكانة الفرد في المجتمع (see for instance: Durning 1991: 153-169). ونتيجة لهذا الوهم المضلل الذي نشأ من خلال هذا الاعتقاد في التقدم والتنمية وخرافة التطور الإنساني يؤكد رسل Russell "أننا نستهلك الآن في سنة واحدة أكثر مما أستهلكه الإنسان في كل الفترة الممتدة منذ ميلاد المسيح وحتى فجر الثورة الصناعية" (Russell 1998:43).
وبالرغم من حدة وكثافة الانتقادات لذلك النموذج وتنامي الاهتمام الشعبي بالقضايا البيئية إلا أن الناس بشكل عام وكذلك الشركات والحكومات مازالوا يفتقرون لأي دافع لأخذ تلك القضايا على محمل الجد ومن ثم لم ينخرطوا في عمل فعال باتجاه ممارسات مستدامة. وفي ظل غياب رؤية بديلة فإن الاعتقاد في التميز والتقدم والإبداع التقني الإنساني يسهم في خلق مجتمع راض عن/ أو يقبل بالاستغلال البيئي والاجتماعي.
ولذا فمن الضروري الاعتراف بأن القضايا البيئية هي قضايا اجتماعية وثقافية وأنه في ظل غياب التحليل النقدي للمعتقدات الأساسية والأطر السياسية الاجتماعية للمجتمعات الصناعية لن يكون هناك مبادرات ناجحة تجاه العدالة الاجتماعية والبيئية، ولن يصبح المجتمع الحديث في وضع يسمح له بالتكيف مع رؤية عالمية بديلة وبناء سياسي وثقافي واجتماعي قادر على دعم بروز مجتمع مستدام بيئيا وتنمويا.
ومن الواضح أنه لا يمكن إيجاد مجتمع عادل بيئيا واجتماعيا عندما تكون الحياة الاجتماعية فيه واقعة تحت هيمنة وتأثير قوى السوق، والربح، والنمو الاقتصادي، ومعايير الرفاهية المتنامية، كما أن النزعة الاستهلاكية غير المقيدة تؤدي إلى استغلال غير مقيد. وبناء عليه فإن معالجة تلك القضايا يتطلب تفكيرا جديدا يعترف بالعلاقة المتداخلة بين الإنسان والبيئة في ظل التنمية المستدامة التي توازن بين التغير الإبداعي والتقدمي، والمحافظة على البيئة، وتحقيق العدالة الاجتماعية، وتعزيز سعادة الأفراد، والمجتمع، وتستطيع المعايير والمؤسسات العامة فيها الحفاظ على نوع من التضامن الاجتماعي الذي يمكن من خلاله المساهمة في سعادة وخير الجميع.
باختصار يمكن القول أن الاهتمام المتنامي بتلك التحديات لنموذج الحداثة التنموي قد أدى إلى قبول واسع النطاق لمفهوم جديد - التنمية المستدامة- يؤكد على حماية البيئة وتحقيق مزيد من العدالة الاجتماعية مما حدا بالكثير من المشتغلين بالفكر التنموي إلى عده بمثابة نموذج إرشادي جديد new paradigm للتنمية. ولكن ما المقصود بمصطلح التنمية المستدامة؟
تعريف التنمية المستدامة
يبدو أن التنمية المستدامة هي التي تصيغ اليوم الجزء الأكبر من السياسة البيئية المعاصرة وقد كان للعمومية التي اتصف بها المفهوم دورا في جعله شعارا شائعا وبراقا مما جعل كل الحكومات تقريبا تتبنى التنمية المستدامة كأجندة سياسية حتى لو عكست تلك الأجندات التزامات سياسية مختلفة جدا تجاه الاستدامة، حيث تم استخدام المبدأ لدعم وجهات نظر متناقضة كليا حيال قضايا بيئية مثل التغير المناخي والتدهور البيئي اعتمادا على زاوية التفسير، فالاستدامة يمكن أن تعني أشياء مختلفة، بل متناقضة أحيانا، للاقتصاديين، وأنصار البيئة، والمحامين، والفلاسفة. ولذا يبدو أن التوافق بين وجهات النظر تلك بعيد المنال.
كذلك وبالنظر إلى أن إنجاز التنمية المستدامة يتطلب أمرا من اثنين، إما تقليص حجم طلب المجتمع على موارد الأرض و/ أو زيادة حجم الموارد حتى يمكن على الأقل تجسير الفجوة بين العرض والطلب إلى حد ما، فإن هذه العملية الهادفة إلى التوحيد التدريجي للمطلوب من الموارد والمعروض منها – الجوانب المتجددة وغير المتجددة من الحياة الإنسانية- هي التي تحدد ما المقصود بعملية التنمية المستدامة. ولكن كيف يمكن الدمج بين المطالب والموارد؟ إن هذا السؤال أو على وجه التحديد الإجابات على هذا السؤال هي التي تنتج معاني وتعريفات متنوعة ومتنافسة للتنمية المستدامة، وذلك لان مسألة كيفية دمج المطالب والموارد يمكن أن يجاب عليها بعدة وسائل مختلفة، وذلك تبعا لاختلاف رؤى أطياف الفكر البيئي حيث هناك من جهة كتّاب يحاولون تعديل جانب الموارد من العلاقة بينما يقف في الجهة الأخرى كتاب يركزون على تغيير جانب الطلب.
ولذلك فبرغم الالتزام الدولي تجاه التنمية المستدامة وبرغم أنها قد تبدو للوهلة الأولى واضحة إلا أنها قد عرفت وفهمت وطبقت بطرق مختلفة جدا، مما تسبب في درجة عالية من الغموض حول معنى المفهوم الذي يعتبر من المفاهيم الصعبة، والمراوغة، والمخادعة. ويشار في هذا السياق إلى أن (Fowke & Prasad 1996: 61-6) قد أوردا أكثر من ثمانين تعريفا مختلفا وفي الغالب متنافسا وأحيانا متناقضا للمفهوم. وتكمن مشكلة مفهوم التنمية المستدامة في أنه يتأثر بعلاقات القوة بين الدول وداخلها وهذه الحقيقة تتطلب مراجعة نقدية للمفهوم. فمن الواضح أن علاقات القوة هي التي تصيغ المعاني واللغة التي يستخدمها الناس.
ولكن إذا نظرنا إلى الحد الأدنى من المعايير المشتركة للتعريفات والتفسيرات المختلفة للتنمية المستدامة يمكننا أن نتعرف على أربع خصائص رئيسة(Grosskurth & Rotmans, 2005: 135-150). يشير أولها إلى أن التنمية المستدامة تمثل ظاهرة عبر جيلية، أي أنها عملية تحويل من جيل إلى أخر. وهذا يعني أن التنمية المستدامة لابد أن تحدث عبر فترة زمنية لا تقل عن جيلين، ومن ثم فإن الزمن الكافي للتنمية المستدامة يتراوح بين 25 إلى 50 سنة.
وتتمثل الخاصية المشتركة الثانية في مستوى القياس. فالتنمية المستدامة هي عملية تحدث في مستويات عدة تتفاوت ( عالمي، إقليمي، محلي).ومع ذلك فإن ما يعتبر مستداما على المستوى القومي ليس بالضرورة أن يكون كذلك على المستوى العالمي. ويعود هذا التناقض الجغرافي إلى آليات التحويل والتي من خلالها تنتقل النتائج السلبية لبلد أو منطقة معينة إلى بلدان أو مناطق أخرى.
وتعد المجالات المتعددة خاصية ثالثة مشتركة حيث تتكون التنمية المستدامة من ثلاثة مجالات على الأقل: اقتصادية، وبيئية، واجتماعية ثقافية. ومع أنه يمكن تعريف التنمية المستدامة وفقا لكل مجال من تلك المجالات منفردا، إلا أن أهمية المفهوم تكمن تحديدا في العلاقات المتداخلة بين تلك المجالات. فالتنمية الاجتماعية المستدامة تهدف إلى التأثير على تطور الناس والمجتمعات بطريقة تضمن من خلالها تحقيق العدالة وتحسين ظروف المعيشة والصحة. أما في التنمية البيئية المستدامة فيكون الهدف الأساس هو حماية الأنساق الطبيعية والمحافظة على الموارد الطبيعية. أما محور اهتمام التنمية الاقتصادية المستدامة فيتمثل في تطوير البنى الاقتصادية فضلا عن الإدارة الكفؤة للموارد الطبيعية والاجتماعية.
والقضية هنا أن تلك المجالات الثلاثة للتنمية المستدامة تبدو نظريا منسجمة لكنها ليست كذلك في الواقع الممارس. كذلك فإن المبادئ الأساسية هي الأخرى مختلفة فبينما تمثل الكفاءة المبدأ الرئيس في التنمية الاقتصادية المستدامة تعتبر العدالة محور التنمية الاجتماعية المستدامة، أما التنمية البيئية المستدامة فتؤكد على المرونة أو القدرة الاحتمالية للأرض على تجديد مواردها.
وتتعلق رابع خاصية مشتركة بالتفسيرات المتعددة للتنمية المستدامة. فمع أن كل تعريف يؤكد على تقدير للاحتياجات الإنسانية الحالية والمستقبلية وكيفية الإيفاء بها، إلا انه في الحقيقة لا يمكن لأي تقدير لتلك الاحتياجات أن يكون موضوعيا، فضلا عن أن أية محاولة ستكون محاطة بعدم التيقن. ونتيجة لذلك فإن التنمية المستدامة يمكن تفسيرها وتطبيقها وفقا لمنظورات مختلفة (Grosskurth & Rotmans, 2005: 135-150).
ومن أهم تلك التعريفات وأوسعها انتشارا ذلك الوارد في تقرير بروندتلاند (نشر من قبل اللجنة عبر الحكومية التي أنشأتها الأمم المتحدة في أواسط الثمانينات من القرن العشرين بزعامة جروهارلن بروندتلاند لتقديم تقرير عن القضايا البيئية)، والذي عرف التنمية المستدامة على أنها "التنمية التي تلبي احتياجات الجيل الحاضر دون التضحية أو الإضرار بقدرة الأجيال القادمة على تلبية احتياجاتها" (WCED 1987: 8,43). ويزعم كل من McNaghten and Urry أنه:
منذ قمة ريو أصبحت التعريفات العملية للاستدامة مقبولة على نطاق واسع من قبل الحكومات، والمنظمات غير الحكومية NGOs وقطاع الأعمال. ويبدو أن تلك التعريفات قد عدت من قبيل العيش ضمن نطاق القيود المحدودة للأرض، والإيفاء بالاحتياجات دون الإضرار بقدرة الأجيال القادمة للإيفاء باحتياجاتها، وتكامل البيئة والتنمية (McNaghten & Urry 1998: 215).
ومع أن هناك شبه إجماع نظري بأن المساواة (سواء بين أفراد الجيل الحالي من جهة أو بين الأجيال المختلفة من جهة أخرى) تعتبر عنصرا أساسيا للمفهوم إلا أن مضمون تلك المساواة لا يزال غامضا.
وبينما يصف تعريف بروندتلاند بغموض شديد الإجماع العام حول تعريف الاستدامة، إلا أن هناك جدلا واسعا حول وسائل ضمان استقرار الأجيال القادمة. فالتفسيرات المتعلقة بكيفية تنفيذ "التنمية المستدامة" تتباين ما بين تلك التي تتبنى التركيز الضيق على الاقتصاد أو الإنتاج إلى تلك التي تدعو إلى استيعاب واسع للثقافة والبيئة فضلا عن أن هذا التعريف قد أعتبر منحازا إلى نموذج إرشادي تنموي محدد (يتمركز حول الإنسان) ولذلك رفض وانتقد من قبل كثير من الكتّاب.
فقد نظر عدد من المفكرين إلى إعلان ريو الذي تبنى ذلك التعريف بريبة وشك. ويتمثل مصدر القلق الرئيس لديهم في أن الهدف الأساس الذي يرمز للمفهوم – أي معالجة الاستغلال المؤذي بيئيا للموارد الطبيعية- كان غائبا في مؤتمر الأمم المتحدة للبيئة والتنمية UNCED. ويرى بالميرتس Pallmearts أن ذلك الغياب المقصود قد "مثل خطوة مقّنعة ذكية للوراء عن الجهود البيئية الدولية"(Pallmearts 1992:256). وتركز الانتقاد بشكل رئيس على جانبين: أولا أن إضافة كلمة "والتنمية" في صياغة المبدأ الثاني من إعلان ريو قد تسببت في تهميش السياسات التنموية. وثانيا: أن وضع كلمة "الإنسانية" في قلب الاهتمام بالتنمية المستدامة في المبدأ 1 في إعلان ريو يجعل العناصر البيئية، والموارد، والكائنات الحية خاضعة لهيمنة الإنسان، مما يفسد التوازن الدقيق الذي تم التوصل إليه في مؤتمر استوكهولم بين حق استخدام الموارد الطبيعية والمسئولية عن حماية البيئة(Ibid).
ولكي نمسك بزمام نطاق التعريفات المتنوعة والمتنافسة للتنمية المستدامة فمن الضروري وقبل كل شيء أن نعترف بأن نقطة البداية لكثير من أدبيات التنمية المستدامة – ولو أنها في الغالب ضمنية بدلا من أن تكون صريحة – تتمثل في ما يطلق عليه "التناقض البيئي Environmental Paradoxy، لأن هذا يعني بالنسبة لجميع المهتمين بالتنمية المستدامة تقريبا أن هناك تناقض بين ما هو مطلوب من الأرض وبين ما يمكن للأرض أن تقدمه.
كذلك لكي نطور مفهوما متفقا عليه للتنمية المستدامة فإنه يجب أن يكون هناك فهما مشتركا للشيء المراد استدامته. كما لاحظنا في هذه الدراسة فإن للمفهوم جوهرا متمركزا حول الإنسان بشكل مهيمن في أدبيات التنمية المستدامة حيث كان التركيز على استدامة المجتمع الإنساني على الأرض. لكن أي مجتمع إنساني؟ والإجابة طبقا لتقرير بروندتلاند تعني ذلك المجتمع الإنساني القادر على الإيفاء باحتياجاته، إلا أن تلك الاحتياجات يمكن أن تفهم بطرق مختلفة.
ومن ثم يمكن القول أن المشكلة الأكثر وضوحا في هذا المجال تتمثل في التنامي المفرط للنشاطات الإنسانية لاستغلال موارد الطبيعة في مقابل القدرة المحدودة للأنساق الحيوية الطبيعية للإيفاء بتلك النشاطات. ولذا فإن أحد أفضل التعريفات العملية الملائمة "للاستدامة" يمكن أن تتمثل في "تحقيق الحد الأعلى من الكفاءة الاقتصادية للنشاط الإنساني ضمن حدود ما هو متاح من الموارد المتجددة وقدرة الأنساق الحيوية الطبيعية على استيعابه" مع ربطها باحتياجات الجيل الحالي والأجيال القادمة، بشرط أن تكون تلك الاحتياجات مما لا يلحق تهديدا جديا بالعمليات الطبيعية، والمادية، والكيميائية، والحيوية. أي أن هناك قيدا مزدوجا على التنمية المستدامة: يرتبط جانب منه بأداء العمليات الطبيعية، أما الآخر فيتعلق بالإيفاء بالاحتياجات الموضوعية، فضلا عن الاحتياجات الإنسانية الحالية والمستقبلية كلما كان ذلك ممكنا. ولتحقيق هذا الأمر فإنه لابد من العمل على تعظيم إنتاجية الموارد من جهة وتقليص العبء الذي تتحمله البيئة (سواء من حيث الموارد أو الطاقة) من جهة أخرى.
وانسجاما مع هذا التعريف ينبغي التأكيد عند معالجة المشكلة البيئية على ثلاثة أنواع من التوازن في هذا المجال وهي:
- التوازن بين المناطق وخاصة بين الشمال والجنوب
- التوازن بين الكائنات الحية
- التوازن بين الأجيال
وهذا يعني ضمنيا العمل على تقييد النشاطات الإنسانية ضمن نظام محدد بعناية يمكن من خلاله التحقق من عدم فرض أي أعباء إضافية على النسق الحيوي للأرض أو الأجيال القادمة. إذن فإن ما ينبغي العمل على استدامته هو ذلك الوضع المتوازن عالميا بين احتياجات الإنسان واحتياجات الطبيعة، حيث يجب الإيفاء بمعظم احتياجات الطبيعة لأن تحقيقها يعتبر أمرا حاسما للبشر.
وأخيرا �